بناءٌ على ماء، وقبضةٌ على هواء

أرسل إليّ أحد الأصدقاء الفضلاء، مقالا منقولا صدَّره بعبارة: (يجب قراءة هذا المقال)

وهذا نص المقال:

لله ثم للتاريخ

فاطمة العذراء والمسيح المسلم

* حسين الوادعي 

........................

طفلاً، كنت أستمع عقب كل صلاة إلى ذلك الدعاء الذي ينغمه المصلون بصوت رخيم وهم يصلون على إبراهيم وآله، وعلى محمد وآله، ثم يختمون صلاتهم على الحسن والحسين وعلى فاطمة “البتول الزهراء”.

وكنت أتساءل عن معنى البتول والزهراء؟ وعلاقة هذه الصفات بفاطمة؟

كبرت قليلا وبحثت في معاجم اللغه ووجدت أن البتول ترد بمعنيين. المعنى الأول وهو “العذراء”، والمعنى الثاني “المرأة المنقطعة عن الرجال”.

لكننا جميعنا نعرف أن فاطمة لم تكن عذراء، وأنها تزوجت وعاشت عمرا طويلا مع زوجها علي بن أبي طالب، وأنجبت الحسن والحسين والمحسن.

إن المرأة العذراء الوحيدة التي أنجبت طفلا هي “مريم البتول”. فلماذا توصف فاطمة بنفس الوصف الذي أطلق على أشهر عذراء في التاريخ الديني؟

بحثت أكثر في الأدبيات الشيعية ووجدت أن لفاطمة أوصافا أخرى مثل “سيدة نساء العالمين”، وهو أيضا أحد الألقاب التي أطلقت على مريم. حسب الميثولوجيا الدينية المسيحية والإسلامية، فقد حبلت مريم بدون زواج وأنجبت عيسى؛ وهي، تبعا لذلك، سيدة نساء العالمين لأنها المرأة الطاهرة أم النبي التي لم يمسسها بشر.

فلماذا يا ترى هذا التشابه الكبير بين صورة مريم عند المسيحيين وصورة فاطمة عند الشيعة؟

بما أن مريم مرتبطة بالمسيح، وفاطمة مرتبطة بالحسين، عدت لأقارن بين تصور المسيحيين للمسيح، وتصور الشيعة للحسين، ووجدت كثيرا من التشابه والتماثل.

مات المسيح مصلوبا ومثل بجثته، ويقال إن الحسين صُلب أيضا ورفع رأسه على الرماح. بعد موت المسيح، تأسست المسيحية، بينما بعد موت الحسين، تأسست الشيعية.

قتل الحسين يوم الجمعة، وصلب المسيح يوم الجمعة، ولا يزال أتباعهما حتى الآن يحتفلون بمقتلهما في مسيرات طويلة من البكاء والعويل ولطم الرؤوس و نتف الشعر وشق الجلود بالآلات الحادة حتى تمتلئ أجسادهم بالدماء.

بل أن احتفالات كربلاء عند الشيعة منقولة حرفيا من احتفالات المسيحيين الشرقيين بأسبوع الآلام. إذا نظرت إلى صورة الحسين التي يرفعها الشيعة في مسيرتهم في إحياء ذكرى كربلاء، ستجد أنها نفسها صورة المسيح التي كان يحملها المسيحيون في مسيرات إحياء ذكرى الصلب.

لا يمكن أن ينكر أي قارئ في تاريخ الأديان علاقة التأثير والتأثر بين الديانات والمذاهب؛ فقد نقل بعض رواة سيرة نبي الإسلام من أحداث حياة زرادشت ما نقلوا، كما نسخ فقهاء الإسلام من التشريعات اليهودية ونسبوها للإسلام حتى كاد الإسلام أن “يتهود”.

ويبدو أن الأدبيات الشيعية أعادت صياغة قصة الحسين وفاطمة على نفس منوال قصة المسيح ومريم، حتى أن النسخ واللصق أدى الى إرباك صورة فاطمة والحسين عند الشيعة وملأها بالمتناقضات.

على سبيل المثال، كنت أتساءل في طفولتي عن معنى صفة “الزهراء” التي تطلق في البيئات الشيعية على فاطمة، واندهشت كثيرا عندما وجدت أنها تعني “المرأة التي لا تحيض”.

ولأن الحيض أحد علامات خصوبة المرأة وقدرتها على الحمل، فإن ادعاء عدم حيض فاطمة يقود إلى نتيجة أخرى غريبة هي أنها لم تحمل كما حملت بقية النساء (التلقيح) وإنما حملت حملا إعجازيا، مثلها مثل مريم البتول.

هذا الارتباك في أدبيات الشيعة واضح جدا، خاصة وأن فاطمة يفترض أنها حملت من زوجها علي حملا طبيعيا كبقية النساء. ونجد أنفسنا هنا ضحية النقل الحرفي من الأدبيات المسيحية حول مريم البتول، التي حملت بدون علاقة بالرجال، ليصبح التوفيق بين الروايات المتضاربة مستحيلا.

لكن إدعاء الحمل الإعجازي لفاطمة يرتبط بفكرة أخرى أراد متطرفو الشيعة زرعها، وهي “إلهية الحسين”؛ فالحسين نفخ في رحم فاطمة كما نفخ المسيح في رحم مريم.

هنا، يتم نسخ الثالوث المقدس المسيحي (الله، مريم، عيسى) إلى الثالوث المقدس الشيعي (علي، فاطمة، الحسين)؛ خاصة أن علي في الأدبيات المتأخرة للشيعة يكتسب بعض صفات الألوهية، فهو مثلا خلق قبل الكون وقبل الأنبياء، وتتحرك الكواكب بإرادته، ويحج إليه الأنبياء ويرجعون اليه!

هل هذه كل التشابهات بين مريم وفاطمة وبين الحسين والمسيح؟

هناك شيء آخر يجمع بين فاطمة ومريم، هو النسب الأمومي.

فعيسى منسوب لأمه وهذا معروف للجميع. لكن الحسن والحسين منسوبان لأمهما أيضا (النسب الفاطمي)، وهذا شيء استثنائي في مجتمع ذكوري، وفي ظل معرفة هوية واسم الأب.

إن الانتساب للأم كان ضروريا من أجل ادعاء أن الحسن والحسين هما “أبناء الرسول”، بينما هما في الحقيقة أبناء علي، وأبناء أبي طالب، جدهم الذي مات كافرا ولم يعتنق الإسلام

يبدو أن هذا أحد الأسباب التي أغرت فقهاء الشيعة لنسخ سيرة مريم والمسيح “الأمومية”، وإعادة زرعها في اللاهوت الشيعي بكل المتناقضات التي تحملها (وهل هناك فكر ديني لا ينفجر بالمتناقضات)؟

ارتبط المسيح بالفداء، مثلما ارتبط الحسين بالفداء. لكن هناك فارقا جوهريا بين الفدائين.

لقد مات المسيح فداء للمؤمنين به، وخلص العالم من عبء الخطيئة، حسب التصور المسيحي. لهذا، فليست هناك حاجة لأن يموت المسيحيون أو يستشهدوا فداء للمسيح، فدم المسيح فداء لكل الدماء.

أما بالنسبة للحسين، فالأمر مختلف. لقد مات الحسين لأن أنصاره خذلوه ولم يفدوه. 

لهذا، لابد لأتباعه أن يكفروا عن خطيئتهم الأبدية، وهذا التكفير لا يكون إلا بالموت والاستشهاد: “ثأر الحسين” وتقديس فكرة الموت والشهادة، فكل شخص يؤمن بالحسين يجب أن يموت تكفيرا عن خطيئة خذلان الحسين في كربلاء.

الفارق بين الفدائين هو الفارق بين مسيحية اليوم، وبين شيعية اليوم التي وقعت في مصيدة الموت والدم، ولن تخرج منها إلا بإعادة فهم ورسم صورة الحسين بعيدا عن أساطير الولاية والشهادة والإصطفاء.

...................

نشر هذا المقال في 14 فبراير 2019

ـــــــــــــــــــــــــ

فكتبتُ تعقيبا عليه، هذا الردّ بعنوان:

*بناء على ماء، وقبضة على هواء.*

أدلة توهين وتسفيه مذهب الشيعة أكثر من أن تحصر، وما على مريد ذلك إلا أن يشاهد التسجيلات المرئية لعلمائهم ودعاتهم، ليَرى من سفههم وتُرَّهاتهم ما يتنزه عنه العقلاء، ومن خُزَعبلاتهم الموَثقة بالصوت والصورة، ما يُضحك الثكالى ويُلهِم هواة النوادر والمُلَح، وسائرَ الضحّاكين. فلا حاجة للافتراء على اللغة، ولا على الفقه الإسلامي، ولا على السيرة النبوية، ولا على الشيعة أنفسهم للتنفير من مذهبهم.

ولكن الحق أن الكاتب لم يَخُصَّ دين الشيعة بالتسفيه والنقض، وإنما يرمي من مقالته هذه إلى توهين فكرة الدين من أصلها.

انظر إلى قوله: *(وهل هناك فكر ديني لا ينفجر بالمتناقضات)؟*

فمقالة الكاتب مَظهَر آخر من مَظاهر ازدهار الزندقة في هذا الزمان الذي أسميه "ربيع الزندقة" والذي يغري كل ذي قلب زائغ بأن ينفث ضلالاته بالخط الكبير والصوت الجهير، حيث الظروف مواتية، والعقوبة مأمونة، والمكافأة مأمولة، وقد تكون مغرية مجزية، فلماذا لا يبادر إلى الغنيمة الباردة؟!.

وقد وقفتُ على كتابات أخرى لهذا الكاتب، فوجدتُه من أولئك الزائغين، لا أشك في ذلك.

انظر مقالة له بعنوان: (حول البخاري وأصحابه). 

وأخرى بعنوان: (حكاية اسمها: التربية الإسلامية).

ولأن الحق متين، فإنه لا سبيل للكاتب إلى ما يريد من توهين الحق إلا بالكذب عليه. 

ومقالتُه هذه (فاطمة العذراء والمسيح المسلم) مشحونة بالكذب من ألِفها إلى يائها.

وأستعين بالله على بيان ذلك وتفنيده فأقول:

قال الكاتب: *وبحثت في معاجم اللغه ووجدت أن البتول ترد بمعنيين. المعنى الأول وهو “العذراء”، والمعنى الثاني “المرأة المنقطعة عن الرجال. لكننا جميعنا نعرف أن فاطمة لم تكن عذراء...*

وأقول: هذا تدليس على المعاجم، أو سوء فهم لنصوص أهل اللغة.

لم يقل أحد من أهل اللغة: إن البتول تطلق على كل عذراء.

ولكنها تطلق على السيدة مريم العذراء رضي الله عنها.

ومأخذ هذا الإطلاق أن مادة (ب ت ل) في اللغة تدور حول معنى القطع والانقطاع والانفصال، فكل شيء سُمي أو وُصف بشيء من تصاريف مادة (بَتَلَ) فلا بد من ملاحظة معنى القطع أو الانفصال فيه.

قال المجد في قاموسه: بَتَلَهُ يَبْتُلُهُ ويَبْتِلُه: قَطَعَه كبَتَّلَهُ فانْبَتَلَ وتَبَتَّلَ. و الشيءَ: مَيَّزَه عن غيرِه. اهـ

وبعد أن أسَّس الفيروز آبادي هذا الربط بين البتل والقطع، ذكر خمسة إطلاقات لكلمة البتول. فقال: والبَتولُ: المُنْقَطِعَةُ عن الرِجالِ. ومَرْيَمُ العَذْراءُ رضي الله تعالى عنها، كالبَتيلِ. وفاطمةُ بنتُ سَيِّدِ المُرْسَلينَ عليهما الصلاةُ والسلامُ، لانْقِطاعِها عن نِساءِ زَمانِها ونِساءِ الأُمَّةِ فَضْلاً وديناً وحَسَباً. والمُنْقَطِعَةُ عن الدنيا إلى اللّهِ تعالى. والفَسيلَةُ من النَّخْلَةِ المُنْقَطِعَةُ عن أُمِّها المُسْتَغنيَةُ بِنَفسها. اهـ من القاموس المحيط للفيروزآبادي.

وقال المرتضى الزبيدي في شرحه (تاج العروس من جواهر القاموس) عند هذه المادة: سُمِّيَتْ مَريمُ العَذراءُ: البتُولَ. رضي اللّه تعالَى عنها. لانقطاعِها من الأزواج. قاله الزَّمَخْشَرِيُّ. اهـ

وبهذا يتضح لك تدليس الكاتب على اللغة، واستغفاله القارئ الذي يُحسن الظن بهذا الكاتب، ويُصدِّقه في أنه بحًثَ في المعاجم ونقل ما وجد.

فليت شعري ألم يجد في بحثه في المعاجم اللغوية أن البتول تطلق أيضا على السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها في نص أهل اللغة، وأن تعليل ذلك الإطلاق هو انْقِطاعِها عن نِساءِ زَمانِها ونِساءِ الأُمَّةِ فَضْلاً وديناً وحَسَباً.؟!

إن كان صادقا في الرجوع إلى المعاجم، فهو لا بد قد رأى هذا الإطلاق وتعليله.

ولكنه إن أخبر القارئ به فقد قوّض شبهته التي يتذاكى بها من أساسها، ولم يعد لبحثه معنى أصلا.

ولذلك فقد اختار أن يكذب ليجد لبحثه أساسا يبنيه عليه، فلَيته تذكَّر أن حبل الكذب قصير، وأن البناء على أساس من الكذب بناءٌ على ماء وقبضة على هواء.

قال الكاتب: *بحثت أكثر في الأدبيات الشيعية ووجدت أن لفاطمة أوصافا أخرى مثل “سيدة نساء العالمين”*

وأقول: ليس هذا خاصا بالأدبيات الشيعية، فقد ورد في عدد من دواوين حديث أهل السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق على فاطمة الزهراء: "سيدة نساء العالمين"

ففي مستدرك الحاكم عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - وهو في مرضه الذي توفي فيه -: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني *سيدة نساء العالمين*، وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين؟ اهـ

وفي سنن النسائي الكبرى عن عائشة أنها قالت لفاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: أسألك بالذي لي عليك من الحق، ما سارَّك به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت فاطمة: أمّا الآن فنعم، سارَّني مرةَ الأولى فقال: إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني به العامَ مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري. فبكَيتُ، ثم قال لي: يا فاطمة ألا ترضين أنك سيدة نساء هذه الأمة، أو *سيدة نساء العالمين*؟ فضحكتُ. اهـ

وفي (مشكل الآثار) للطحاوي، بسنده إلى عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: أي بُنية، أما ترضين أن تكوني *سيدة نساء العالمين*؟ قالت: يا ليتها ماتت، وأين مريم بنت عمران؟ فقال لها: أي بنية، تلك سيدة نساء عالمها، وأنت سيدة نساء عالمك. اهـ

ومرة أخرى تنهار فكرة الكاتب التي يدير الكلام عنها من أساسها، كبناء على ماء، فليس إطلاق هذا اللقب على السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها خاصا بأدبيات الشيعة، حتى يتمحّل له ويتكلف، ويبني على تكلفه ويَشِيد، ثم تأتي نصوص الشريعة بإطلاق لقب "سيدة نساء العالمين" على السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها لتثبت أن الكاتب ما كان يقبض إلا على هواء، ولا يبني إلا على ماء.

قال الكاتب: *لا يمكن أن ينكر أي قارئ في تاريخ الأديان علاقة التأثير والتأثر بين الديانات والمذاهب؛ فقد نقل بعض رواة سيرة نبي الإسلام من أحداث حياة زرادشت ما نقلوا، كما نسخ فقهاء الإسلام من التشريعات اليهودية ونسبوها للإسلام حتى كاد الإسلام أن “يتهود”*.

وأقول: سبحانك هذا بهتان عظيم مِن كاتبٍ مخذول، لا يألو جهدا في نفي الانتماء الديني عن نفسه حين يقول: "سيرة نبي الإسلام" وكأنه ليس من الإسلام ولا نبيه في شيء، فهو لا ينسب نفسه إليه، ولا يتشرف بالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ولا يكتفي بذلك بل يجتهد بالافتراء على سيرته وشريعته بهذا الكلام الذي لا يجترئ عليه إلا الزنادقة.

وما أهون الكلام بلا زمام، والدعوى بلا دليل مِن الكاتب الذي لا يحترم نفسه ولا يحترم قارئه!.

وإلا فهلا جاءنا الكاتب بالأمثلة المتظاهرة عن حياة زرادشت التي تسربت إلى مرويات سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعن التشريعات اليهودية التي غزت الفقه الإسلامي حتى كاد الإسلام أن يتهوّد.! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}

صحيح أن هناك روايات إسرائيلية تسربت إلى بعض التفاسير، ولكنّ المفارقة بينها بين دعوى الكاتب المفتراة، من ثلاثة أوجه:

*الأول:* أن تلك الإسرائيليات التي في بعض كتب التفسير، ميدانها الأخبار وليس التشريع والأحكام.

*الثاني:* أن تلك الأخبار تتعلق في الأعم الأغلب بِسِيَر أنبياء بني إسرائيل، على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وليس بسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا ما كان من قبيل حكاية ما جاء في كتب بني إسرائيل السماوية، من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتعريف بصفاته التي أصبحت مشخصة جلية عند علمائهم.

وهذا حق لا ريب فيه، كيف لا وقد قال الحق سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]

*الثالث:* أن تلك الإسرائيليات لم تكن مطمَئنة في كتب التفسير بلا نكير، ولا مُعّماة عن الدارسين، ولا مجهولة لدى القارئين حتى يأتي هذا الكاتب فيكشفها، بل قد قيّض الله لها العلماء المحققين على مَرّ العصور فغربلوها ثم نخلوها، فنوّهوا بها وحذروا منها، وإلا فمن الذي سماها "إسرائيليات" إلا أولئك المحققون من علماء الإسلام؟!

قال الكاتب: *على سبيل المثال، كنت أتساءل في طفولتي عن معنى صفة “الزهراء” التي تطلق في البيئات الشيعية على فاطمة، واندهشت كثيرا عندما وجدت أنها تعني “المرأة التي لا تحيض”.*

وأقول:

*أولا:* إطلاق لقب الزهراء على السيدة فاطمة رضي الله عنها، ليس خاصا بالبيئات الشيعية، فإنّ كُتب أهل السنة مليئة بإطلاق هذا اللقب على السيدة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها.

وما عليك إلا أن تكتب "فاطمة الزهراء" في محرك البحث على الشاملة، لتجد ما لا يحصى من أساطين أهل العلم من أهل السنة، كلهم أطلق لقب "الزهراء" على السيدة فاطمة، كما في مصنفات البغوي وأبي السعود والقرطبي والثعلبي والسمعاني وابن كثير والبقاعي والنووي وابن حجر وابن عبد البر، حتى قال الشنقيطي في أضواء البيان: وَالزَّهْرَاءُ عِنْدَ النَّاسِ يُسَاوِي فَاطِمَةَ لِكَثْرَةِ قَوْلِهِمْ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ. اهـ من أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن [8 /139]

وبهذا يسقط قول الكاتب: *“الزهراء” تطلق في البيئات الشيعية على فاطمة.*

*ثانيا:* قوله: *وجدت أنّ الزهراء تعني “المرأة التي لا تحيض”.* لم يقل الكاتب لنا أين وجد ذلك المعنى؟ ولن يتصور القارئ إلا أنه وجده في المعاجم ونصوص أهل اللغة. وهذا كذب مفضوح على اللغة، وافتراء رخيص على أهلها، ودليل آخر على أن الكاتب يستغفل القارئ الذي سيصدقه في دعوى النقل ولن يظن أن الكاتب يجترئ على الكذب على هذا النحو السافر، وكأنه يكتب لمن لا صلة له بالعربية ومصادرها، وكان عليه لو كان يحترم كلامه ويحترم قراءه، أن يعزوه إلى مصدر. وأتحداه أن يأتي بنص من كلام أهل اللغة على هذه الفرية القبيحة المفضوحة.

قال الفيروزآبادي في القاموس المحيط: والزَّهْراءُ: بلد بالمغربِ، وموضع، والمرأةُ المُشْرِقَةُ الوجهِ، والبَقَرَةُ الوحشيةُ. اهـ

وهذه كتب اللغة بين أيدي الكاتب في أوعيتها الورقية والإلكترونية، فليأتنا بتفسيره المزعوم لكلمة "الزهراء" في شيء من تلك الكتب، إن كان صادقا.

قال الكاتب: *لكن إدعاء الحمل الإعجازي لفاطمة يرتبط بفكرة أخرى أراد متطرفو الشيعة زرعها، وهي “إلهية الحسين”؛ فالحسين نفخ في رحم فاطمة كما نفخ المسيح في رحم مريم. هنا، يتم نسخ الثالوث المقدس*

وأقول: ... وأخيرا وجدنا من هو أكذب من الشيعة، يكذب على الشيعة.

أما عن نفسي فما سمعتُ قبلُ ولا قرأتُ أن غلاة الشيعة يقولون بأن الحسين نُفخ في رحم فاطمة كما نُفخ المسيح في رحم مريم. فإن كان الكاتب على ثقة مما كتب فليدلنا على مصدره. هكذا يقول منطق العلم: إن كنت ناقلا فالصحة، أو مُدَّعيا فالدليل.

قال الكاتب: *هناك شيء آخر يجمع بين فاطمة ومريم، هو النسب الأمومي. فعيسى منسوب لأمه وهذا معروف للجميع. لكن الحسن والحسين منسوبان لأمهما أيضا (النسب الفاطمي)، وهذا شيء استثنائي في مجتمع ذكوري، وفي ظل معرفة هوية واسم الأب. إن الانتساب للأم كان ضروريا من أجل ادعاء أن الحسن والحسين هما “أبناء الرسول”، بينما هما في الحقيقة أبناء علي...*

وأقول: أجل، الحسن والحسين من أبناء علي على الحقيقة، لم يقل أحد خلاف ذلك، فهما منسوبان إليه في كلام المتحدثين، ومصنفات المترجمين، وأنساب النسابين، بل قد اصطلح العلماء على إطلاق لقب "العلويين" على ذريتهما عبر التاريخ، نسبة إلى أبيهما علي رضي الله عنهم، كما هو معلوم.

لا تقل لي: إن في التاريخ أيضا من تسمَّوا بـ "الفاطميين" انتسابا إلى فاطمة. فإن هذه تسمية سياسية لا تستلزم شيئا من معنى الاسم ولا مصداقية النسبة، وإلا فقد تَسمّى حزب إيران في لبنان بـ "حزب الله" فهل تظن أنه من الله في شيء؟ 

وقد تَسمّى النصيريون في سواحل بلاد الشام، إبان الاستعمار الفرنسي بـ "العلويين" فهل تظن أنهم من علي رضي الله عنه في شيء؟

فدع عنك أيها الكاتب هذا التلبيس الذميم المكشوف، الذي يوحي بأن نسب الحسن والحسين مسنَد إلى فاطمة فحسب، مقطوع عن علي. وأنت تعلم يقينا أنه لا قائل بذلك أبدا.

نعم، الحسن والحسين وأبوهما وأمهما وذريتهما، لهم خصوصية أنهم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

وليست هذه الخصوصية من دعاوى الشيعة ولا غيرهم حتى يقول الكاتب: *إن الانتساب للأم كان ضروريا من أجل ادعاء أن الحسن والحسين هما “أبناء الرسول”*

وإنما هي خصوصية شرعية ومكرمة ربانية قررها الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، في جملة من الأحاديث. 

منها حديث مسلم في صحيحه بسنده عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قالت: خَرَجَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِي فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِي فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)

ومنها حديث الترمذي في جامعه بسنده عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، رَبِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَدَعَا فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ، وَعَلِيٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَجَلَّلَهُ بِكِسَاءٍ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلاَءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللهِ، قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ.

ويلاحظ في هذه الخصوصية دخولُ علي رضي الله عنه في أهل البيت، مع أنه لا ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه ولا من جهة أمه، وإنما هو ابن عمه وصهره على ابنته الزهراء أم الحسنين، رضي الله عنهم أجمعين.

فالقضية خصوصية منصوصة ثابتة، وليست - كما يصورها الكاتب - من تحريف الغالين ولا انتحال المبطلين، ولا تأويل الجاهلين من الشيعة أو غير الشيعة.

لستُ أدافع عن الشيعة، فإن للشيعة طامات من الغلو، دونها ضلالات اليهود والنصارى والوثنيين، ولكني آبَى أن يؤخذ الحق الثابت برِجْل الباطل المحض، عبر التلبيس والكذب والتدليس، ليكون حكمُهما جميعا الردَّ والتوهينَ والإزراء، على نحو ما فعل الكاتب حسين الوادعي في هذه المقالة التي اجتهد فيها في الكذب على اللغة وعلى السيرة وعلى الشريعة، وحتى على الشيعة، لينسف الحق بالباطل، فلم ينسف إلا صدقيته وأمانته، حيث كانت مقالته كلها بمثابة بناء على ماء وقبضة على هواء.

ويحق لنا بعد هذا أن نوجِّه سُبَّة الكاتب إليه، ونرد سهمه عليه فنقول:

(وهل هناك فكر *لا ديني* لا ينفجر بالمتناقضات *والافتراءات والتُّرهات*)؟

هذا والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين