تعريف بكتب علي الطنطاوي: (4) مقالات في كلمات

كما هو واضح من عنوان الكتاب فإن مقالاته صغيرة موجزة، لذلك وصفها كاتبها بأنها "في كلمات". وقد ضمّ الكتاب من هذه المقالات مئة وثلاثَ عشرةَ مقالة، أكثرها لا يجاوز الصفحتين. ومبدؤها -كما جاء في مقدمة المؤلف للكتاب- أن صاحب جريدة "النصر"، وديع الصيداوي، طلب إليه عام 1949 أن يكتب عنده زاوية يومية بعنوان "كل يوم كلمة صغيرة"، فمشى بها زماناً، ثم انتقل إلى جريدة "الأيام" عند نصوح بابيل، واستمر بها سنين فتجمّع لديه منها مئات.

قال في المقدمة التي كتبها للطبعة الجديدة من الكتاب عام 1990: "وجاءت هذه المقالات بأسلوب جديد أقرؤه الآن فأرتضيه (ولست أرتضي كل ما كنت كتبت)، ولكن موضوعاتها يومية يموت الاهتمام بها بموت يومها. وقد استمرت سنين فتجمع لديّ منها مئات ومئات. فلما ألّف الدكتور مصطفى البارودي وإخوان له من الشباب لجنةً للتأليف والنشر دفعتُها إليهم ليختاروا منها ما يجمعونه في الكتاب الذي طلبوه مني، واختاروا طائفة منها في كتاب صغير دعوه "كلمات". ثم نشرتُ مجموعة منها أكبر في كتاب "مقالات في كلمات" وبقي عندي منها الكثير الكثير".

* * *

والمقالات متنوعة في موضوعاتها واهتماماتها لأنها كُتبت في أزمنة متباينة، فكثير منها يعالج مشكلات اجتماعية مثل: "شحّادون" و"كوّاء" و"نظام" و"الزواج بالأجنبيات".

أو يدافع عن الفقراء والضعفاء: "أجير الخبّاز"، "طفلان"، "إلى الأغنياء"، "أكرموا الفلاحين".

ومنها مقالات تهتم بالمشكلة الأخلاقية والدعوة إلى الفضيلة منها: "مشكلة وجيه"، "هكذا قال زرادشت"، "آلآن يا بنت؟"، "بائعة اليانصيب".

وفي الكتاب مقالات تربوية منها: "أدب الأطفال"، "سهر الأولاد"، "يبيع الجرائد". ومقالات في مشكلات الأزواج والأسرة: "هكذا فاصنعوا لهنّ"، "طلاق"، "الجهاز"، "علاج الخصام".

ومقالات وطنية: "أبطالٌ صغار"، "منجم ذهب"، "نعم، لقد هُزمنا".

ومقالات تاريخية: "موقف عالم"، "طريق النصر"، "خبر من السيرة".

ومقالات فلسفية: "الحق والقوة"، "لا أؤمن بالإنسان"، "الثبات". ومقالات ثقافية: "الثقافة في خطر"، "دفاع عن العربية"، "المذهب الرمزي كما أفهمه".

* * *

وفي كثير من هذه المقالات طرافة -مع ما أُنشئت له من هدف اجتماعيّ أو سواه- كما ترون في مقالة "حمار يسوق سيارة":

"رأيت مرة دباً يركب الدراجة على المسرح، وسمعت عن كلاب تحمل السِّلال وتغدو على السوق فتشتري الفاكهة، وفي كتاب كليلة ودمنة أخبار من ذلك، ولكنّ أعجب هذه الأخبار وأبعدَها في الإغراب أن يسوق حمار سيارة!

وما كنت لأصدّق ذلك لولا أن رأيته أمس بعيني، وكاد يدعسني. لا، لا تظنوا أني أمزح أو أتخيل؛ إني لا أصف إلا ما جرى. كان حماراً شاباً عليه مظاهر الدلال، وكان منتفخاً مغروراً قد رفع أذنيه من الكِبْر ولوى ذنبه من الغرور. وكيف لا يغتر الحمار إذا رأى نفسه مالك السيارة البويك صنع 1951 وبنو الشيخ آدم رحمه الله يمشون على الأرض؟ ولكن الحمار حمار ولو ساق السيارة؛ لذلك ترك يمين الطريق وأخذ شماله، وجاءت سيارة من أمام تمشي على الطريق السوي فاضطرب الحمار السائق وصار يكبس أزرار السيارة بقوائمه الأربع، فصعدت الرصيف وصدمت الرجل ثم دخلت دكان الخضري. ولم يستحِ ولم يعتذر كمَن يعتذر مَن في نفسه أدب، إنما نزل من السيارة وجعل ينهق في وجه الخضري ويسبّه باللسان الحماري لأنه لم يترك شوارع البلد كلها ويفتح دكانه في هذا الطريق إلا ليصدم السيارة!

هذا هو المشهد الذي شهدت وشهده معي عشرات من الناس. وأنا -مع تقديري لهذه البراعة في تدريب الحيوان على أعمال الإنسان- أرجو ألا تأذن الحكومة لحمار بعد اليوم أن يسوق سيارة خاصة على الطرقات العامة... ولو غضب من ذلك حضرات السادة الحمير"!

* * *

أما آخر مقالة في الكتاب فهي "وداع" قال فيه: يا قرّائي، السلام عليكم. سلام وداع، لا سلام لقاء. وداعاً يا قرّاء وشكراً لكم على ما أفضلتم عليّ، فلقد عشت عمري أترجم للناس حديث السواقي في أذن الزمان، أرسم صور المجد وتهاويل الأماني، فأنزلتموني من سماء الأحلام إلى أرض الواقع، وغمستم هذا القلم في مشكلات الطحّانة والخبّازة واللصوص والأشرار وأوحال الطريق بعدما عاش دهراً لا يعرف إلا مشكلات القلوب... وأرخصتم في سوق الصحافة أسلوبي، فاختفى ذاك البريق من بياني وجفّ الماء الذي كان يتسلسل على لساني. أفليس لي -بعد هذا كله- أن أستريح؟ بلى، وسيتنفس أقوامٌ الصعداءَ على أن خلا مكاني، وستفرح قلوب كنت عليها غمّاً وتنام عيون كنت أحرمها لذيذ المنام.

والسلام عليكم يا قرائي، ولا "كلمة صغيرة" بعد اليوم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين