شمس الأئمة السرخسي ذاكرة مدهشة ومكتبة مستقلة

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله الذي أنزل الحق، وقيض للقيام به رجاله، وصلى الله على رسوله الكريم، الذي ربَّى أصحابه على الحق، فكان منهم نماذج الحق ودعاة الخير.

وأساس الاستقامة على الحق، ودعامة القيام بالخير، والدعوة إليه، هو العلم، لا يغفله إلا أحمق جاهل، ولا يدعو على غير أساسه، إلا مغرض دجَّال، ولا يستهين به إلا هيِّن الشأن، صغير النفس.

وهذا العلم لا يستقيم لصاحبه إلا بالفهم والحفظ، أما الفهم: فيقوم على الإخلاص والتفرغ: "طلبنا العلم لغير الله، فأبى العلم أن يكون إلا لله" (كما يقول الغزالي): 

و"العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك" (كما نقل عن أبي يوسف القاضي).

وأما إمساك العلم وحفظة، فيعتمد على الذاكرة الصافية الكبيرة، وهذه لا تصفو ولا تنمو، إلا بالحياة النقيَّة الصافية التي لا تعكّر ذاكرتها الذنوب، ولا تدنّسها المعاصي: 

شكوت إلى وكيع سوء حفظي=فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأنبأني بأن العلم نور=ونور الله لا يهدى لعاصي

وهذه الرسالة تعرض نموذجاً من هؤلاء الذين أخلصوا الله فأعانهم الله، وأنقوا حياتهم فصفت نفوسهم. وكان منهم عظماء في الدنيا، وعسى أن يكونوا - ونكون جميعاً - سعداء في الآخرة. 

والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ربيع الآخر 1383

شمس الأئمه السرخسي

0000-483

0000-1090

القاضي شمس الأئمة، أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل، السرخسي (نسبة إلى سرخس، بلدة في خراسان) الفقيه الحنفي الكبير. كان إماماً علامة حجة متكلما مناظراً أصولياً مجتهداً، عدَّه ابن كمال باشا من المجتهدين في المسائل لازم شمس الأئمة عبد العزيز الحلواني وأخذ عنه حتى تخرج به وصار أوحد زمانه، ألَّف عددا كبيرا من الكتب، الجليلة النافعة، فمن ذلك:

الكتاب الذي شرح به الجامع الكبير للإمام المجتهد أبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، صاحب الامام أبي حنيفة، (توفي الإمام محمد سنة سبع وثمانين ومئة، والإمام أبو حنيفة سنة خمسين ومئة).

وهو كتاب جليل، اهتم به العلماء اهتماماً عظيماً، حتى شرحه منهم نيف وأربعون عالما، منهم الملك المعظم (۱).

ولم تقف عناية العلماء بالجامع الكبير على هذه الشروح العديدة، بل أقبل بعضهم على نظمه شعراً، وكان من هؤلاء: أحمد المحمودي النسفي الذي أورد في كل باب قصيدة، فبلغ خمسة آلاف وخمسمائة وخمسة وخمسين بيتاً، وكان إتمامه له في محرم سنة خمس عشرة وخمسمائة. لهذا لم يكن من الغريب أن يهتم السرخسي بهذا الكتاب فيشرحه لنا هذا الشرح النفيس.

وله أيضا كتاب "المحيط" وهو كأكثر كتبه، في الفقه الحنفي - في عشر مجلدات، ويقال له: الرضوي، صنَّفه أولاً ثم لخصه، يقول عنه: جمعت فيه عامَّة مسائل الفقه مع مبانيها ومعانيها، بدأ كل باب بمسائل المبسوط وأردفها بمسائل النوادر، ثم أعقبها بمسائل الجامع، وضمَّ إليها مسائل الزيادات، وسماه محيطاً لشموله على مسائل الكتب وفوائدها وحقائقها. (المبسوط، والنوادر، والجامع، والزيادات من كتب الإمام محمد).

وله أيضا: "الأمالي"، و"شرح أدب القاضي"، و"شرح الجامع الصغير"، و"شرح الحيل الشرعية"، و"شرح كتاب الكسب"، و"شرح مختصر الطحاوي"، و"كتاب الحيض"، و"صفة أشراط الساعة".

هذه المؤلفات العظيمة تدلنا على غزارة علم السرخسي الذي أعان عليه، هذه الذاكرة العجيبة، التي حباه الله تعالى بها، حتى لنكاد نتردد في التصديق حينما نسمع أنه ذُكر مرة للسرخسي أن الشافعي حفظ ثلاثمائة كراس، فقال: حفظ زكاة ما أحفظ فحُسب ما حفظه فكان اثني عشر ألف كرَّاس. 

لكننا لن نستطيع أن نبقى في ترددنا طويلاً، حينما نطالع الكتاب الضخم الفخم، المبسوط، بأجزائه الثلاثين الذي ألَّفه السرخسي دونما رجوع إلى كتاب أو دفتر أو فقيه، وإنما أملاه كله من خاطره إملاء، وهو مسجون في جُب، يملي من ذاكرته، وطلابه عند أعلى الجب يكتبون، هذا الكتاب الذي هو كالشرح لكتاب الحاكم الشهيد: "الكافي" فهذا يدلنا ليس فقط على أنه كان يحفظ كتاب الشهيد كله عن ظهر قلب، وإنما يدلنا أيضاً على هذه المعلومات الغزيرة والمعرفة الواسعة التي ملأ بها هذا الكتاب الجليل الذي يزخر بذلك العدد الهائل من الأحاديث والنصوص والأخبار والتي كانت مستقرة كلها في هذا الذهن الجبار. وإذا بقي بعد هذا من جعله عجبه ودهشته يستبعد وجود مثل هذه الذاكرة، وكأنه يستعظم على الله عز وجل أن يحبو من يخلص نيته له تعالى، ويصدق العمل فيه، مثل هذه النعمة، ويمن عليه بهذه المنة، إذا وجد من يستبعد ذلك، فإنه لا يملك إلا أن يدع استبعاده ويشهد مع الشاهدين، حينما يعلم أن السرخسي، لم يؤلف في سجنه (بأوز جند) كتابه المبسوط فقط، وإنما ألف فيه أيضاً كتابه الهامّ، في أصول الفقه: الأصول، وألف كتاب "زيادات الزيادات"، شارحاً به كتاب الإمام محمد: الزيادات، المشهور الذي قيل فيه:

إن الزيادات زاد الله رونقها= عقمٌ مسائلها من أصعب الكتب

أصولها كالعذارى قط ما افترعت= فروعهن يد في العجم والعرب

ينال قارئها في العلم منزلة=يغيب إدراكها عن أعين الشهب

أملى على طلابه هذه الكتب، وشرع أيضاً يُملي كتابه شرح السِّير الكبير، موضحاً به وشارحاً كتاب الإمام محمد: "السِّير الكبير"، فهذا يشير لنا إلى أن كتب ظاهر الرواية للإمام محمد كانت جزءا مما يحفظه هذا الرجل العظيم.

ولكن عظمة هذا الرجل لا تقف عند هذا العلم الواسع، بل إن سجنه هذا، ليكشف لنا جانباً آخر من عظمة هذه الشخصية الجليلة، فإذا كان كثير من العلماء إنما يطلبون بعلمهم الدنيا ويجعلونه مطية لمالها وجاهها يلقونه على أبواب الكبراء والحكام والسلاطين، ويلقون معه دينهم وعزَّتهم، ليجود عليهم هؤلاء ببعض الحطام:

درسوا العلوم ليملكوا بجدالهم=فيها صدور مراتب ومجالس

وتزهّدوا حتى أصابوا فرصة=في أخذ مال مساجد وكنائس

إذا وُجد في العلماء من هذا القبيل، الكثير، فإن السرخسي ليشهد له سجنه أنه عرف قيمة علمه وأدَّى حقه، فكان صلباً في دينه، مستقيماً فيه، جريئاً في صدعه بالحق، لا يخاف في الله لومة لائم، يوقن بعظمة الله تعالى فتذل الجبابرة في ناظره، ويصدِّق بوعيد الله تعالى، فيستخفّ بوعيد عبيده، ويؤمن بوعد الله سبحانه، فيزهد في الدنيا وترَّهاتها ولا يأبه لما يفوته منها، ولا يرى فيه أعظم من جزء من جناح البعوضة. كان عالماً يعرف الحق الذي يوجبه على العالم علمه.

أجل، كان سبب سجنه، أنه علم أنَّ الخاقان (ملك الترك ببلاد ما وراء النهر) عزم أن يتزوج بجارية له أعتقها ولم تنقض بعد عدتها. ولم ير السرخسي إزاء هذا أنه يسعه السكوت ولو كان الخاقان ظالماً بطّاشاً سفّاكاً للدماء، فبيَّن له بحزم أن هذا لا يحل، وغضب الخاقان، وتهدّد وتوعّد، ولكن السرخسي رحمه الله تعالى لم يكن ممن يحابي في الحق، أو يلين في موضع الصدع، أو ترعد فرائصه أمام الوعيد، كان من أنفته وعزته بالعلم، كأن الجرجاني يعنيه حين قال: 

يقولون لي فيك انقباض وإنما=رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما

أرى الناس من داناهم هان عندهم=ومن أكرمته عزة النفس أُكرما 

وإني إذا ما فاتني الأمر لم أكن=أقلب كفي إثره متندما 

ولم أقض حقَّ العلم إن كان كلما=بدا مطمع صيَّرته لي سلما

وما كل برق لاح لي يستفزُّني=ولا كل من في الأرض أرضاه منعما

إذا قيل: هذا منهل قلت: قد أرى= ولكن نفس الحر تحتمل الظما

أُنهْنِهُها عن بعض ما لا يشينها=مخافة أقوال العدى فيم أو لما

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي=لأخدم من لاقيت لكن لأخدما

أأشقی به غرساً وأجنيه ذلة=إذا فأتباع الجهل قد كان أحزما 

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم=ولو عظموه في النفوس لعظَّما

ولكن أهانوه فهان ودنسوا=محيَّاه بالأطماع حتى تجهَّما

فكان أن أمر به الخاقان إلى السجن. وذهب إلى السجن، لم يذهب مكتئباً حزيناً ذليلاً، يرى في السجن مجمع المصائب والبلايا والهموم، وإنما ذهب عزيزاً كريماً، وكأن هذا السجن دليل عزته، وعنوان استقامته، وبرهان عمله بعلمه، ذهب إليه دون مبالاة أو اهتمام، كما يذهب إليه من أوتي من صفاء البصيرة ونور اليقين ما جعله يؤمن أنَّ القتل شهادة، والسجن خلوة، والنفي سياحة.

فأقبل في السجن على عمله، ودأب على التأليف، لقد منعوه الكتب والأقلام والدفاتر، ولكنهم لم يستطيعوا أن يسلبوه هذه الكتب الكثيرة التي ضم عليها صدره، ولا هذا القلم الماضي الذي أطبق عليه فكيه، فكان أن أنتج لنا في هذه الفترة التي سُجن بها، ما لم يستطعه العلماء الطليقون الكثر.

وكان كلما أنهى باباً من الكتاب ختمه بعبارة يذكر فيها حاله، فيقول عند فراغه من كتاب العبادات: هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، أملاه المحبوس عن الجمَع والجماعات. فترى كيف أنه يقول في هذا الكتاب - وقد ذكرنا أنه ثلاثون جزءاً - أنه استعمل أوجز العبارات فكم ترى كان يكون كتابه لو أسهب فيه واعتمد فيه على كل علمه وكامل حفظه؟ وقال في آخر كتاب الإقرار: انتهى شرح الإقرار المشتمل من المعاني على ما هو من الأسرار أملاه المحبوس في محبس الأشرار.

فتراه وهو في السجن لا يلين ولا يخضع، وأي سجن في الدنيا أو طاغية في الأرض يستطيع أن يلين من قناة المؤمن الذي آمن بالله فاستهان بملوك الأرض وصدَّق بوعد الله فازدرى المال والجاه ولذات الدنيا. فلا عجب بعد هذا أن يكون حاله في السجن لا مقام المتزلف الذليل المنكسر ولكن موقف الأبِّي الذي يعلن بينهم أنهم من (الأشرار).

وتلاحظ أيضا في هذه النفس الكبيرة، أنه لم يندب الحظ العاثر، ولم يشكُ السجن الضيّق، ولم يتسخَّط الحبس والاعتقال، وإنما كان الذي يهمُّه ويغمُّه، أنه حُبس عن البقاع الشريفة والأعمال الرابحة الحبيبة، فيملي بأسىً وحرقة: أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات.

ولم يزل على جدِّه وعمله، حتى وصل في الإملاء إلى باب الشروط، من كتابه شرح السير الكبير، فحصل له الفرج فأطلق، فخرج إلى فرغانة، حيث أنزله الأمير حسن بمنزله وأكرمه.

وتوجه إلى مرغينان (بلد في نواحي فرغانة، نبغ منها صاحب الهداية) حيث لحق به طلابه إلى هناك فأخذ يملي عليهم تتمة الكتاب حتى أكمله، وذلك سنة ثمانين وأربعمائة قبل وفاته بثلاثة أعوام رحمه الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

====

(1) هو عيسى ابن أبي بكر بن أيوب، سلطان الشام، وكان من عادته أن يعطي مائة دينار لمن يحفظ الجامع الكبير، وخمسين ديناراً لمن يحفظ الجامع الصغير، ومائة دينار لمن يحفظ المفصل للزمخشري. وألَّف كتبا أخرى منها: السهم المصيب في الرد على الخطيب، عاش أربعة وعشرين عاماً في القرن السادس، وأربعة وعشرين عاماً في القرن السابع، وتوفي في دمشق سنة أربع وعشرين وستمئة.

(2) المصدر: رسائل جامعة دمشق، : ربيع الآخر 1383

نشرت 2019 وأعيد تنسيقها ونشرها 17/4/2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين