حدث في العشرين من رحب: ولادة أمير الشعراء أحمد شوقي

في العشرين من رجب من سنة 1287= 16/10/1/1870، ولد أحمد شوقي بك، أمير الشعراء وأعظم شعراء العربية في العصر الحديث.

حدث شوقي عن نفسه في مقدمة الطبعة الأولى لديوانه الشوقيات فقال: سمعت أبي يرد أصلنا إلى الأكراد فالعرب، ويقول إن والده قدم هذه الديار يافعاً يحمل وصاة من أحمد باشا الجزار إلى والي مصر محمد علي باشا... فأدخله الوالي في معيته، ثم تداولت الأيام، وتعاقب الولاة الفخام. وهو يتقلد المراتب العالية، ويتلقب في المناصب السامية، إلى أن أقامه والي مصر محمد سعيد باشا أميناً للجمارك المصرية. وقد تولى سعيد باشا سنة 1270=1854 وتوفي سنة 1279=1863، وخلفه الخديوي إسماعيل الذي دام حكمه إلى حين عزله سنة 1296=1879، وهو أول من لقب بالخديوي من أسرة محمد علي.

ثم ذكر شوقي طرفاً عن سيرة جده لوالدته ويدعى أحمد بك حليم النجده لي، والذي كان في خدمة إبراهيم باشا وهو فتي وتوفي وهو وكيل الخاصة عند الخديوي إسماعيل باشا، وذكر شوقي أن جدته كانت جارية معتوقة من جنوب اليونان، ثم قال عن نفسه: أنا إذن عربي، تركي، يوناني، جركسي.

وقد أتلف والد شوقي، ويدعى علي، ما ورثه عن أبيه من ثروة، وأدى ذلك أن عاش شوقي من المهد في كفالة جدته لأمه، وكانت في يسر ونعمة، إذ كانت من وصائف قصر الإمارة في عهد إسماعيل. قال: حدثتني جدتي إنها دخلت بي على الخديو إسماعيل، وأنا في الثالثة من عمري، وكان بصري لا ينزل عن السماء من اختلال أعصابه، فطلب الخديو بدرة من الذهب، ثم نثرها على البساط عند قدميه، فوقعتُ على الذهب أشتغل بجمعه وألعب به، فقال لجدتي: اصنعي معه مثل هذا فإنه لا يلبث أن يعتاد النظر إلى الأرض. قالت: هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك يا مولاي. قال: جيئي إلي به متى شئت.

ولد شوقي في خط الحنفي في حي السيدة زينب، وفي سنة 1873 دخل مكتب الشيخ صالح ليتعلم القرآن الكريم واللغة، وقد جاز بعد ذلك متفوقاً بارعاً مرحلتي التعليمين الابتدائي والثانوي، ثم تقدم للدراسة في مدرسة الإدارة والألسن، والتي عرفت فيما بعد بمدرسة الحقوق الخديوية، فتوقف ناظرها في قبوله لصغر سنه، إذ كان في الثالثة عشرة، ولكن شوقي دخلها بسبب معارفه، ودرس بها عامين، ثم أنشئ فيها قسم للترجمة، فعدل إليه ولبث فيه سنتين أخريين، وأحرز الإجازة النهائية، وممن درَّسه في مدرسة الإدارة الشيخ محمد علي البسيوني المالكي، المتوفى سنة 1310=1892.

وكان الخديوي توفيق قد تولى حكم مصر في سنة 1296=1879 بعد أن عزل السلطان العثماني والده الخديوي إسماعيل، فألحق الشاب أحمد شوقي بديوانه، ثم أرسله في سنة 1887 على نفقته إلى فرنسا ليدرس الحقوق والآداب الفرنسية، على أن يقضي عامين في مدينة مونبلييه، وعامين في باريس، ولما أحرز شوقي شهادة الحقوق رأى الخديوي أن يظل في فرنسا ستة أشهر أخرى ففعل، وعاد بعدها إلى مصر سنة 1891، وتولى منصبه في الديوان الخديوي من جديد.

وتوفى الخديوي توفيق في سنة 1309=1892 وخلفه ابنه عباس حلمي، المولود سنة 1291=1874، وكان يناوئ الإنجليز ويُصِرّ على أن يستَمسك بحقوق مصر وحقوق عرشه، وكان رئيس الوزراء يومئذ مصطفى فهمي باشا يمالىء المحتل البريطاني، فأقاله الخديوي الشاب في سنة 1310=1893 دون أن يستشير المندوب السامي كرومر، فلما بلغه الخبر استشاط غضباً، وأصرّ على عودة وزير الاحتلال، فأصر الخديو على أن اختيار الوزراء حق من حقوقه الشرعية، فأخذ كرومر يتوعده وينذره ويهدده، ولكن الخديو الشاب لم يتراجع عن قراره فكان ذلك انتصاراً بعث الحياة في الروح الوطنية المصرية.

وفي سنة 1894 ندبت الحكومة المصرية شوقي لتمثيل مصر في مؤتمر المستشرقين بجنيف في وفد ضم سعد زغلول وأحمد زكي باشا والقانوني عمر لطفي أفندي وأحمد فريد، وألقى أحمد شوقي في المؤتمر قصيدته المشهورة التي مطلعها:

هَمَّتِ الفُلْكُ واحتواها الماءُ ... وحَدَاهَا بمنْ تُقِلّ الرجاءُ

وهي، كما قال هو في ديباجتها: قصيدة تاريخية تتضمن كبار الحوادث في وادي النيل من يوم قام إلى هذه الأيام. والغريب الطريف ذو الدلالة أن تحتفي مصر بهذا المؤتمر وغيره وترسل إليه صفوة من رجالها وشاعر أميرها، ثم نجد محاضر مؤتمر المستشرقين تتحدث أن أحمد شوقي ألقى نصاً تراجيدياً باللغة العربية كتبته مؤخراً سيدة مسلمة!

وأرجح أن شوقي تزوج في هذه الفترة كريمة حسين شاهين باشا أحد أثرياء عصره وكان يقطن في حي الحنفي الذي ولد وترعرع فيه شوقي، وكان له منها ثلاثة أولاد علي وأمينة وحسين الذي ولد سنة 1898، وسنتحدث عنهم فيما بعد.

وفي سنة 1897 أصدر شوقي قصة تعد من أوائل القصص العربية، وهي: رواية عذراء الهند أو تمدن الفراعنة لمنشئها الضعيف أحمد شوقي. وهي قصة تاريخية تدور حول عظمة مصر في تاريخها القديم.

وفي سنة 1318=1900 صدور أمر الخديوي عباس حلمي باشا بالإنعام على "الأديب الفاضل أحمد شوقي بك بلقب شاعر الحضرة الخديوية والإذن له بأن يكتب هذا على دواوينه ومؤلفاته."

وفي سنة 1327= 1909 حجَّ الخديوي عباس حلمي إلى بيت الله الحرام، وأراد أن يحج معه شوقي، ولكنه تخوف من السفر وتهرب منه، وكانت مناسبة حركت قريحة شوقي فنظم قصيدته الذائعة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي عارض بها بُردة البوصيري ولذلك أسماها: نهج البردة، ومما جاء فيها:

أخوك عيسى دعا ميتًا فقام له ... وأنت أحييت أجيالاً من الرمم

والجهل موت فإن أوتيت معجزة... فابعث من الجهل أو فابعث من الرَّجم

قالوا: غزوتَ، ورسل الله ما بعثوا... لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم

جهل وتضليل أحلام وسفسطة... فتحتَ بالسيف بعد الفتح بالقلم

والشر إن تلقه بالخير ضقت به... ذَرعًا وإن تلقه بالشر ينحسم

علمتهم كل شيء يجهلون به... حتى القتال وما فيه من الذمم

دعوتهم لجهاد فيه سؤددهم... والحرب أس نظام الكون والأمم

بالأمس مالت عروش واعتَلَتْ سررٌ... لولا القنابل لم تُثْلم ولم تُصم

أشياعُ عيسى أعدوا كل قاصمة... ولم نعد سوى حالات منقصم

وفي سنة 1911 عقد مؤتمر المستشرقين في أثينا عاصمة اليونان فأرسلت مصر وفداً يرأسه الأمير فؤاد، الملك فؤاد لاحقاً، وأمير الشعراء أحمد شوقي وأحمد زكي باشا وحفني ناصف بك، وغيرهم من الأدباء.

وفي سنة 1332=1914 نشبت الحرب العالمية الأولى، وكان الخديوي عباس حلمي في استانبول وكان فيها شوقي كذلك، وأمره الخديوي بالعودة إلى مصر فوراً قبل أن تدخل تركيا الحرب ضد بريطانيا، فقد كانت الحكومة التركية حينها في يد جماعة الاتحاد والترقي التي كانت منحازة إلى ألمانيا، فعاد شوقي إلى مصر في حين بقي الخديوي في استانبول، وتحقق توقع الخديوي ودخلت تركيا الحرب العالمية بعدها.

ولما أعلنت بريطانيا الحرب ضد تركيا، خلعت الخديوي عباس لشكها في تعاونه مع الاتحاديين وجعلت موضعه عمه السلطان حسين كامل أكبر أفراد أسرة محمد علي، وأعلنت مصر دولة مستقلة عن العثمانيين وتحت الحماية البريطانية، واستطاعت بذلك فصم الرابطة الرمزية، والمهمة دستورياً، التي بقيت تربط مصر بالدولة العثمانية، كما تمكنت من إبقاء سيطرتها على قناة السويس أهم ممر مائي للملاحة الدولية.

وكان شوقي يحب تركيا والأتراك حباً جماً، ويصطاف كل سنة في تركيا، ولما بيعت موجودات السلطان عبد الحميد في قصر يلدز، حضر شوقي المزاد ولكنه لم يشتر شيئاً احتراماً لذكرى السلطان المعزول، وكان شوقي في أشعاره من أكبر دعاة الخلافة الإسلامية، وطالما تغنى بأمجاد الدولة العثمانية، وقد تناولت بعضاً من ذلك في كتاب لي صدر سنة 1417=1997 عنوانه: الحروب العثمانية في شعر أحمد شوقي.

كذلك كان شوقي مقرباً جداً من الخديوي المعزول، كما سبق وأشرنا، وكل ذلك مما اعتبرته بريطانيا مصدر خطر، فقامت الحكومة المصرية المطيعة للبريطانيين بتفتيش منزله، وسجنت زوج ابنته حامد بك العلايلي والذي كان يعمل تشريفاتياً في سراي الخديوي، ثم نفته إلى مالطة، ثم أشارت بريطانيا للحكومة بنفي شوقي، فاختار إسبانيا، وفي سبتمبر سنة 1915 غادر شوقي مصر مع ولديه وابنته وابنها على سفينة إسبانية قادمة من جزر الفلبين، وترك شوقي والدته في مصر والألم يعصر قلبه، ولم تكن السفينة متينة ولا كبيرة، ومرت بعاصفة هائجة كادت السفينة معها أن تغرق، ولما هدأت العاصفة قال شوقي لابنه في نجاتها: هي دعوات جدتك يا بني!

وكتب شوقي حول مروره في قناة السويس مقامة صبَّ فيها جام غضبه على المستعمر وصوَّر حقيقة لا تزال ماثلة أمام أعيننا لليوم:

إنَّ للنفي لروعة، إنَّ للنأي لَلوعة، وقد جَرَت أحكام القضاء، بأن نعبر هذا الماء، حين الشر مُضطرم، واليأس مُحتدم، والعدو منتقم، والخصم مُحتكم، وحين الشامت جَذلان مبتسم، يهزأ بالدمع وإن لم ينسجم، نَفَانا حكّام عُجم، أعوان العدوان والظلم، خلّفناهم يفرحون بذهب اللُجم، ويمرحون في أرسان يسمونها الحكم، ضربونا بسيفٍ لم يطبعوه، ولم يملكوا أن يرفعوه أو يضعوه، سامحهم في حقوق الأفراد، وسامحوه في حقوق البلاد، وما ذنب السيفِ إذا لم يستحي الجلّاد؟!... انظرا: تريا على العابرَين عبرة الأيام؛ حصونٌ وخيام، جنودٌ قُعود وقيام، جيشٌ غيرُنا فرسانُه وقوّاده، ونحنُ بُعرانه وعلينا أزواده، ديكٌ على غير جداره، خَلاَ له الجو فصاح، وكلب في غير داره، انفرد وراء الدار بالنباح.

وأمضى شوقي خمس سنوات في منفاه الأندلسي في برشلونة، ودرس في مدارسها أبناؤه، ونظم في منفاه عدداً من أجمل وأصدق قصائده، منها قوله في سينيته:

وسلا مصر هل سلا القلب عنها ... وأسى جرحه الزمانُ المؤسي

وطني لو شُغِلت بالخُلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي

أحرامٌ على بلابله الدَّوْ ... ح حلال للطير من كل جنس

شهد الله لم يغب عن جفوني ... شخصهُ ساعة، ولم يخل حِسي

ومنها قوله في قصيدته التي عارض بها نونية ابن زيدون:

يا ساكني مصر إنا لا نزال على ... عهد الوفاء - وإن غبنا - مقيمينا

هلا بعثتم لنا من ماء نهركم ... شيئاً نبل به أحشاء صادينا

كل المناهل بعد النيل آسنة ... ما أبعد النيل إلا عن أمانينا

وقد أجابه من مصر صنوه حافظ إبراهيم بأبيات جميلة تدل على خلق عال:

عجبتُ للنيل يدري أن بلبله ... صادٍ ويسقي ربي مصر ويسقينا

والله ما طاب للأصحاب مورده ... ولا ارتضوا بعدكم من عيشهم لينا

لم تنأ عنه وإن فارقتَ شاطئه ... وقد نأينا، وإن كنا مقيمينا!

ولم ينس شوقي والدته وهو في منفاه، وكان يذكرها صباح مساء، ويمني النفس بانتهاء الحرب والعودة إلى مصر وتقبيل أياديها، وأعلنت الدول المتحاربة الهدنة، فسر بذلك شوقي أكبر سرور، ولكن ما لبثت أن جاءته برقية تخبره بوفاتها، فوقع على المقعد هامداً، ولم يبك إلا بعد ساعات، ثم نظم قصيدته في رثائها:

إلى الله أشكو مِن عَوادي النَوى سَهما ... أصابَ سويداءَ الفؤاد وما أَصمى

نَزَلتُ رُبى الدنيا وجنّاتِ عَدنِها ... فما وَجدَت نفسي لأنهارها طَعما

فما بَرَحَتْ من خاطري مصرُ ساعةً ... ولا أنتِ في ذي الدار زايَلتِ لي همّا

ولما صدرت الموافقة على عودة شوقي من منفاه، لم يطق أن ينتظر شهراً حتى يحين ميعاد رحلة الباخرة من برشلونة إلى بورسعيد، فتحمل مشاق السفر بالقطار منها إلى البندقية في إيطاليا، ومنها بالباخرة إلى مصر التي وصلها في يوم 19/2/1920 في أعقاب ثورة مصر سنة 1919، وأكرمه سعد زغلول وسياسو مصر بأن جعلوه عضواً في مجلس الشيوخ عن دائرة سيناء، فنجح بالتزكية وبقي في هذا المنصب إلى أن توفي، وعند عودته لمصر قال شوقي قصيدته الفياضة بالعاطفة الوطنية، وأشار فيها للمنافقين الذين انفضوا من حوله عندما غضبت عليه حكومة المحتل:

وداعاً أرض أندلس، وهذا ... ثنائي إن رضيت به ثوابا

فأنت أرحتني من كل أنف ... كأنف الميْت في النزع انتصابا

ومنظر كل خوّان، يراني ... بوجه كالبغيِّ رمى النقابا

وليس بعامر بنيان قوم ... إذا أخلاقهم كانت خرابا

يا وطني لقيتك بعد يأس ... كأني قد لقيتُ بك الشبابا

وكلُّ مسافر سيؤوب يوماً ... إذا رزُق السلامةَ والآيابا

ولو أني دُعيتُ لكنتَ ديني ... عليه أقابل الحتْمَ المجابا

أدير إليك قبل البيت وجهي ... إذا فُهْتُ الشهادة والمتابا

وكانت مصر في ظل مجاعة آنذاك فقد استنزفتها بريطانيا في مجهوداتها الحربية فلم تترك للمصري العادي سوى المعاناة والجوع، وأشا لذلك شوقي في قصيدته بأبيات تقرع المحتكرين وتنعى على المستغلين وتحذرهم من تحول الفقراء إلى الجريمة بسبب ذلك:

أمِن حرب البسوس إلى غلاء ... يكاد يعيدها سبعاً صعابا

وهل في القوم يوسف يتقيها ... ويحسن حِسبة، ويرى صوابا

عبادك – ربِّ – قد جاعوا بمصر ... أنيلاً سُقْتَ فيها أم سرابا

حنانك، واهدِ للحسنى تِجاراً ... بها ملكوا المرافق والرقابا

ورقِّق للفقير بها قلوباً ... محجَّرة، وأكباداً صلابا

أصيب من التِجَار بكل ضارٍ ... أشدَّ من الزمان عليه نابا

أكُلٌّ في كتاب الله إلا ... زكاة المال ليست فيه بابا؟!

ولم أر مثل سوق الخير كسباً ... ولا كتجارة السوء اكتسابا

ولا كأولئك البؤساء شاءً ... إذا جوعتها انتشرت ذئابا

ولولا البر لم يُبْعث رسول ... ولم يحمِل إلى قوم كتابا

وفي سنة 1343=1925 قامت في سورية ثورة عارمة على فرنسا التي احتلت سورية تحت مسمى الانتداب، انطلقت شرارتها من دروز حوران، وتولى قيادتها سلطان باشا الأطرش الشهير، ثم امتدت منها إلى دمشق وحماة وباقي المدن السورية، فصبت فرنسا العذاب صباً على مناطق الثورة، وقصفت بالمدافع والطائرات الأحياء الإسلامية خاصة من دمشق، فدمرت جزءاً كبيراً منها، وقتلت عدداً كثيراً من النساء والرجال والأطفال، ثم عذبت من عذبت وقتلت من قتلت، دون رادع من سياسة أو أخلاق، وكان لهذا المآسي صداها في القاهرة التي أنشأ فيها السوريون جمعية إعانة منكوبي سورية وأصدر سعد زغلول نداء ناشد فيه المصريين مساعدة إخوانهم، وأقامت الجمعية حفلاً لجمع التبرعات، نظم لأجله شوقي قصيدته المشهورة:

سلام من صبا بَرَدَى أرق... ودمعٌ لا يكفكف يا دمشقُ

ومعذرةُ اليراعة والقوافي... جلال الرزء عن وصف يدق

وبي مما رَمَتْكِ به الليالي... جراحات لها في القلب عمق

سلي من راع غيدك بعد وهن... أبين فؤاده والصخر فرق

وللمستعمرين وإن ألانوا... قلوب كالحجارة لا تَرقُّ

رماكِ بطيشه ورمى فرنسا... أخو حرب به صلفٌ وحمقٌ

إذا ما جاءه طلابُ حقٍّ... يقول عصابة خرجوا وشقوا

بني سورية اطَّرحوا الأماني... وألقوا عنكم الأحلام ألقوا

وقفتم بين مَوْتٍ أو حياةٍ... فإن رُمْتمْ نَعيم الدَّهرِ فاشقوا

وللأوطان في دم كل حرٍّ... يدٌ سَلَفَتْ ودَينٌ مستحقٌ

ومن يَسقي ويشربُ بالمنايا... إذا الأحرار لمْ يُسقَوْا وَيسقوا؟

ولا يَبني الممالكَ كالضحايا... ولا يُدني الحقوقَ ولا يحقُّ

ففي القتلى لأجيال حياة... وفي الأسرى فدى لهمو وعتق

وللحرية الحمراء بابٌ... بكل يد مضرجة يُدَقُّ

وفي سنة 1345=1927 أعلن أحمد شوقي أميراً لشعراء العربية، وذلك بمسعى جمعية الرابطة الشرقية وأمينها أحمد شفيق باشا العالم الفاضل المؤرخ النزيه ورئيس الديوان الخديوي في زمن الخديوي عباس، وأقيمت لذلك سلسلة من الحفلات كانت أولاها حفلة يوم الجمعة 27 شوال 1345=29/4/1927 في دار الأوبرا الملكية برعاية الملك فؤاد، ورياسة الشرف لسعد باشا زغلول، وشاركت وفود عربية وخطبت فيه الآنسة إحسان أحمد حفيدة الشيخ علي الليثي، وهي أول فتاة عربية مصرية برزت في محفل أدب للرجال، وخطبت فيهم في هذا العصر، وأرسل النادي الأدبي في البحرين هدية نفيسة هي نخلة من الذهب على أرض من المرجان تحمل خمسة عناقيد رُطَب من اللؤلؤ، تصحبها قصيدة للشاعر خالد الفرج، مطلعها:

من منبت الدر تسليم وتكريم ... لشاعر اللغة الفصحى وتفخيم

حياك في دارنا البحرين لؤلؤها ... والنخل إذ بسمت فيه الأكاميم

وألقى شوقي قصيدة شكر لمن كرموه مطلعها:

مرحبا بالربيع في ريعانه ... وبأنواره وطِيب زمانه

وأشار إلى هدية البحرين النفيسة فقال:

قلدتني الملوك من لؤلؤ البحرين ... آلاءها ومن مرجانه

نخلةٌ لا تزال في الشرق معنى ... من بداواته ومن عمرانه

وختم شوقي قصيدته بلفتة وطنية حرة فقال:

رُبَّ جارٍ تَلَّفتتْ مصرُ تُوليه سؤالَ الكريمِ عن جيرانه

بَعثتْني معزِّياً بمآقي ... وطني ، أو مهنئاً بلسانه

كان شعري الغناءَ في فرح الشرقِ ، وكان العزاءَ في أحزانه

قد قضى الله أن يؤلِّفنا الجرحُ، وأَن نلتقي على أَشجانه

كلما أَنَّ بالعراقِ جريحٌ ... لمس الشرقُ جنبه في عُمانه

وعلينا كما عليكم حديدٌ ... تتنزى الليوثُ في قضبانه

نحن في الفكر بالديار سواء ... كلنا مشفق على أوطانه

لم يعرف العرب الأقدمون الفن المسرحي ولم يؤلفوا فيه القصص أو ينظموا فيه القصائد، وبقي هذا حتى مطلع القرن الماضي، وكان أحمد شوقي من رواد الأدب المسرحي العربي فقد كتب فيه عديداً من المسرحيات، كان بعضها هزلياً ومعظمها تاريخياً مثل علي بك الكبير التي نظمها وهو طالب في باريس سنة 1893، ومسرحية مصرع كليوباترا، ومجنون ليلى، وقمبيز. وإلى جانب الشعر كان لأمير الشعراء كتب نثرية من أبرزها كتابه أسواق الذهب.

كان شوقي غزير الشعر كأنما يغرف من بحر، ولم يكن يحتاج إلى جو خاص أو هدوء لينظم أبياته أو يدبج قصائده، بل كان سريع البديهة حاضر القول في أي محضر أو جمع.

على الصعيد العائلي ذكرنا أن لشوقي ثلاثة أولاد علي وحسين وأمينة، وكان عليٌّ، وهو أكبر أولاده، من الشباب المؤسسين لجمعية الشبان المسلمين في سنة 1346=1928، وانتخب سكرتيراً لها، وقام على تأسيسها من الشيوخ أحمد تيمور باشا والإمام محمد الخضر حسين ومحب الدين الخطيب، وعمل عليٌّ في السلك الدبلوماسي وكان المستشار في السفارة المصرية في لندن سنة 1946 ثم سفير مصر لدى فرنسا في سنة 1951، وله بعض القصائد التي نشرتها له مجلة الرسالة، وله ولد اسمه أحمد ولد في حدود سنة 1930 وكان محبباً أثيراً عند جده.

أما حسين أصغر الأولاد، والمولود سنة 1316=1898 فقد درس الحقوق في فرنسا وصار من العاملين في السلك الدبلوماسي المصري وانتهى به عمله سفيراً لمصر في ألمانيا، وكان أديباً وشاعراً نشرت له مجلة الرسالة بعض القصص والقصائد، وأصدر كتاباً عن والده بعنوان: أبي شوقي. كما طبع ديوان شعره في القاهرة سنة 1953، وتوفي حسين سنة 1967، والعجيب أن عدداً ممن ترجموا لشوقي فاتهم مراجعة ما أورده علي وحسين فيما كتبوه من مقالات وقصص وذكريات في مجلة الرسالة عن جوانب مهمة أو طريفة في حياتهم مع والدهم.

أما أمينة فقد تزوجت في سن الخامسة عشر من حامد بك العلايلي الذي كان يعمل تشريفاتياً في السراي الخديوية، ولها منه ابنة اسمها ليلى، تزوجها مؤنس ابن الدكتور طه حسين.

ولا تذكر المراجع التي وصلت إليها شيئاً عن وفاة زوجة شوقي التي أمضت سني عمرها صابرة على مزاجه الشعري المتقلب وأعصابه المرهفة وبعده عن النظام في حياته.

كان لشوقي سكرتيره الخاص الأستاذ أحمد عبد الوهاب أبو العز، المولود سنة 1319=1901 والمتوفى سنة 1400=1979، والذي كان شاعراً كذلك، وقد عمل معه مدة 12 عاماً، وألف عن ذلك كتاباً عنوانه: اثنا عشر عاما في صحبة أمير الشعراء.

ولد شوقي في نعيم الأسرة الخديوية الحاكمة في مصر، ولم يعان من الفقر والعوز في يوم من الأيام، وزادت ثروته مع مرور الأيام فقد كان يهتم كثيراً بشراء العقارات وتوسيع أملاكه، وكان لديه مكتب لإدارة أملاكه فيه عديد من الموظفين يتولون إدارتها وتحصيل أجورها، وكانت معيشته في جوانب كثيرة منها تنافس ما شاع بين كبار أثرياء مصر آنذاك من بذخ وسرف وتجاوزات شرعية، عفا الله عنهم وغفر لهم.

وشوقي في هذا على طرفي نقيض من شاعر مصري عظيم معاصر له هو حافظ إبراهيم الذي نشأ في الفقر والجوع وعاش طيلة حياته متلافاً مملقاً، وهذا التباين بين شاعري مصر الكبيرين كان موضوع دراسات أدبية ونقدية عديدة، ولما توفي حافظ إبراهيم قبله بشهور رثاه شوقي بقصيدة رقيقة أشار فيها لقصيدة حافظ في اللغة العربية ولفقره وفاقته

قد كنتُ أوثِرُ أن تقولَ رِثائي ... يا مُنصِفَ الموتى من الأحياءِ

يا حافظَ الفُصحى وحارسَ مجدها ... وإمام من نَجَلَت من البلغاءِ

كَم ضِقتَ ذَرعاً بالحياة وكيدها ... وهتفتَ بالشكوى من الضراءِ

اليومَ هادنتَ الحوادثَ فاطَّـرِح ... عِبءَ السنين وأَلقِ عبءَ الداءِ

وغداً سيذكرك الزمان ولم يَـزَل ... للدهرِ إنصافٌ وحسنُ جزاء

مرض شوقي في سنة 1929 مرضاً أشفى فيه على الموت، ثم شفى منه وعادت إليه صحته، ولكنه كان على ميعاد مع القدر عندما وافته المنية بعد فراغه من نظم قصيدة طويلة يحيي بها مشروع القرش الذي نهض به شباب مصر، وتوفي في 14 جمادى الآخرة 1351=14/10/1932، وودفن في مدافن أبي زوجته حسين باشا شاهين، وكُتبت على قبره برغبة قديمة له أبياته السائرة:

يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي ... وكيف لا يتسامى بالرسول سمي

إن جل ذنبي عن الغفران لي أملٌ ... في الله يجعلني في خير معتصمِ!

وتوالت على أهله رسائل وبرقيات التعازي ومن أجدرها بالذكر رسالة خطية كتبها بيده الملك عبد الله بن الحسين ملك الأردن، قال فيها: وعلى الرغم من اعتقادي أنكم كنتم تنتظرون مني برقية بواجب العزاء فقد رأيت أن أبثكم حزني بكتاب أخطه بيدي راجياً تلاوته على جميع عائلة الفقيد معزياً لهم فرداً فردا.

كتب الأديب الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات في مجلة الرسالة في الذكرى الثالثة لوفاة شوقي: 

وشعر شوقي ثابت ما ثبت الحق، خالد ما خلد القرآن، مقروء ما بقي العرب!

ذلك لأن الطبيعة اختارته لرسالة الشعر بعد فترة موئسة من الرسل، ثم آثرته بالنصيب الأوفى من الفكر والخيال والعاطفة، وهن الملكات الثلاث التي ترفد القريحة وتمد الطبع، وعلى تفاوتها في القوة والضعف يتفاوت الفنان في السبق والتخلف؛ ثم زوّدته بالأذن الموسيقية والقريحة السخية والأداة الطيعة، فشب عبقرياً بالفطرة، لا شأن للبيئة في تنشئته، ولا للمدرسة في إعداده، ولا للفرصة في توجيهه؛ وهل كان أثر البيئة وقفاً عليه، وتعليم المدرسة خاصاً به، ومواتاة الفرص امتياز له؟ إنما كان مثله في رسالة الشعر كمثل الأنبياء في رسالة الدين، يختارهم الله من الضعفاء والفقراء والأميين ليكون جلاله عليهم أبهر، ومعجزته فيهم أظهر، وحجته منهم أبلغ.

وشوقي رجل روحه أقوى من فنه، وشعره أوسع من علمه، وحكمته أمتن من خُلُقه، وقدرته أكبر من استعداده ... ولئن كان في شعر شبابه مأسور الفكر، محصور الخيال، محدود النظر، لا يعبر إلا عن رأي القصر، ولا يصور إلا بألوان البيئة، لقد كانت هذه الحقبة الرسمية غيبة للشاعر عن نفسه، وذهولاً منه عن وجوده؛ وقديماً كانت صلات الشعراء بالملوك والخلفاء عاهة الشعر وآفة العبقرية، فلما أعتقته الحرب من رق الوظيفة، وأطلقته إنجلترا بالنفي إلى الأندلس، تيقظ فيه الرسول الشاعر والحكيم المصلح، فحلق بخياله في كل جو، وسطح بعقله في كل أفق، وشدا بالإسلام والعروبة والمصرية شدواً ردَّده كل لسان واهتز له كل قلب؛ ثم زاد في القيثارة العربية الأوتار الناقصة، فأضاف الشعر القصصي والشعر التمثيلي إلى شعرنا الغنائي؛ فكان بذلك وحده الشاعر الكامل!

الحديث عن شوقي يطول ويطول، فلنختم بأبيات من همزيته المشهورة:

أدعوك عن قومي الضعاف لأزمة ... في مثلها يُلقى عليك رجاءُ

أدرى رسولُ الله أن نفوسهم ... ركبت هواها والقلوبُ هواء

متفككون فما تضم نفوسُهم ... ثقةً ولا جَمَع القلوبَ صفاء

رقدوا وغرهمو نعيمٌ باطل ... ونعيمُ قوم في القيود بلاء

أقطعتَهم غرر البلاد فضيَّعوا ... وغدوا وهم في أرضهم غرباء

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين