معنى

قالوا: ما معنى "مكة"؟

قلت: على الخبير سقطتم وبالبصير استعنتم، فقد أخل ناس بفهم معناها، وأفسده آخرون أيما إفساد.

قالوا: أزح لنا الستار عما زعمت.

قلت: إن مكة مركز الملة الحنيفية حاوية شعائرها الكبرى، ولن يتفقه الناس هذا الدين حتى يتفقهوا معنى "مكة" تفقها صحيحا، ولكن أغلبهم أخلوا به، بل أفسدوه، إذ جعلوا مكة مدينة من عامة مدن هذه الأرض، وجعلها بعضهم مدينة عربية، وتجاوز بعضهم الحد فقارن بينها وبين مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، بل فضل بعضهم المدينة المنورة على مكة المكرمة ظنا منه أن ذلك من حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، فخالف النبي صلى الله عليه وسلم وقلب الموازين وعكس المقاييس.

قالوا: لم يغن كلامك عن الحق شيئا، فما زدت على أن أوجزته أولا ثم أسهبته، ففسر لنا كون مكة مركزا للملة الحنيفية، وأنها ليست مدينة عربية ولا مدينة من مدن الأرض، وكيف رميت بمن فضل المدينة على مكة بقلب الموازين وعكس المقاييس؟

قلت: تلك أمور ثلاثة، وسأبينها لكم فاسمعوا وعوا:

1- إن دين الله الذي اختاره لخلقه هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وهو الذي كان عليه آدم ونوح ومن بعدهما من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، ثم قضى الله تعالى أن يحوطه بعنايته الخاصة ويجعل له قواعد وأصولا ويضبطه، حفظا للدين من التحريف، وعصمة للناس من الضلال، فجعل للدين ملة وجعل لها شعائر، واختار إبراهيم عليه السلام لها إماما.

وإن لاختيار إبراهيم عليه السلام أسبابا شرحت بعضها في مقالي "الجرأتان"، وسأشرح بعضها في مقال آخر إن شاء الله تعالى، وإنما أريد أن أؤكد هنا أن اختيار إبراهيم للإمامة كان عن علم، فقد امتاز بالرشد (ومعناه النظر والسلوك المتوافقان مع الفطرة والعقل)، والحنيفية، والإسلام لرب العالمين وعدم الإشراك، أحب الله تعالى هذه الخصال الأربع من إبراهيم عليه السلام وجعله إماما للناس، فلا نبي بعده ولا غيره إلا وهو مأمور باتباعه، حتى إن نبينا سيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم أمر باتباعه، إذ قال تعالى: "ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا".

وأمر الله إبراهيم عليه السلام أن يهاجر بابنه إسماعيل وأمه إلى أرض غير ذات زرع أعلمها له، فهاجر إليها، وفجر الله له من الأرض ماء، وأمره بذبح ابنه إسماعيل، ثم فداه بذبح عظيم، وكان الذبح أكبر معاني الإسلام وأوضحها، ثم بنيا بيتا لله تعالى، وفرض حجه على الناس جميعا من استطاع إليه سبيلا، وجعل حوله شعائر تربطه بإبراهيم عليه السلام، وهي شعائر جلية لا يمكن تغييرها ولا إخفاؤها، ولعن الله من سعى في كتمانها من اليهود وغيرهم، وهذا هو شرح ما ذكرت من كون مكة مركزا للملة، ومكة هي بكة في لغة إبراهيم عليه السلام، وهي المدينة، أي مدينة الخليل إبراهيم عليه السلام التي حرَّمها الله تعالى.

2- وذكرتُ أن مكة ليست مدينة عربية ولا مدينة من مدن الأرض، وبيان ذلك أن مكة لم يسكنها العرب قبل إبراهيم عليه السلام، وهي أرض لا ماء فيها ولا شجر ولا زرع ولا إنس، فلم تعهد حضارة ولا ثقافة ولا تقليدا قبل إبراهيم عليه السلام، وهي ليست مدينة من الأرض، فالمدن كلها تبنى على الماء، وهي أول مدينة أسست في مكان لا ماء فيه، ولم تعمل يد إنسان لخفر بئر فيه أو إجراء نهر، وإنما أنبط الله ماءه من عنده، ورفع الله تعالى مكة عن خصائص عامة مدن الأرض، فهي عاصمة مقدسة سماوية ربانية لمدن الأرض وقراها.

3- دعا لها إبراهيم عليه السلام بدعوات، منها الرزق المستمر فيها لذريته، ومنها: أن يبعث فيهم رسولا من أنفسهم، فكان مبعث خاتم النبيين لاستمرار الملة ولاستمرار مركزية مكة المكرمة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليهاجرها لولا أن قومه أخرجوه منها، وهذا المعنى لم تشاركها فيه المدينة المنورة ولا غيرها من المدن بل لم تقاربها، فلا وجه للمقارنة بين مكة المكرمة وغيرها من المدن.

قالوا: فلخص لنا معنى "مكة".

قلت: مكة بؤرة الإسلام وأصله ورمزه، حصل بها أعظم قربان، وهو أعمق حقيقة للإسلام، قال تعالى: "فلما أسلما وتله للجبين"، فقصة الذبح هي نقطة الإشعاع في هذه المدينة وقطب رحاها وإنسان عينها، وبني البيت في مكة ليصلي الناس فيه ويربوا أنفسهم على معنى الإسلام، ومن لم يستطع الصلاة فيه صلى حيث كان متجها إليه، فالاتجاه إليه أقيم مقام الصلاة فيه، ومن ثم كان البون بين الصلاتين شاسعا، وانظروا إلى فارق الأجر بينهما، ووجب على الناس أن يحجوا إلى البيت ليستذكروا معنى الإسلام الذي تضمنته جوانح هذه البلدة.

قالوا: كيف جعلت إبراهيم عليه السلام وذريته من غير العرب؟

قلت: ليس بنو إسماعيل من العرب العاربة، ولكنهم عرب مستعربة، فهم عرب بهذا المعنى، وهذبوا لسان العرب تهذيبا وقوموه تقويما، فلسانهم لسان عربي مبين.

قالوا: إن الذين فضلوا المدينة المنورة فضلوها لأنها تضم قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: إن مدينة الخليل في فلسطين تضم قبر إبراهيم عليه السلام وغيره من الأنبياء، ولكنها لم تفضل على بيت المقدس، ففضل المدن لتاريخها وما توارثته من إيمان وعمل، وكم من المدن دفن فيها أنبياء الله ولم يرد في فضلها نص، ولا شك أن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم سكن فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل فيها كثير من القرآن، وكان بها المهاجرون والأنصار والخلفاء الراشدون، والصالحون على مدى القرون إلى يومنا هذا، فهي أفضل مدن الأرض بعد مكة المكرمة.

قالوا: لقد شرحت معنى مكة وشفيتنا فجزاك الله خيرا،

قلت: احمدوا الله الذي علَّمنا ما لم نكن نعلم، وتعلموا معنى الإسلام، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين