أبو صلاح الدين رائد صلاح المرابط الزاهد

 


      يمكن أن أقول إنه شهيد حي.. أو أنموذج للمرابط المجاهد، الذي لا يرضى بأقل من الشهادة أو الوفاء بما عاهد الله عليه؛ أحسبه والله حسيبه، ولا أزكي على الله تعالى أحدًا. 
زارنا في فنار، وأهدانا زجاجة زيت من زيتون القدس، كما أهدانا من دعواته وعلمه ولطف معشره.       رأيته وكلمته، وقدمته للجمهور في مناسبتين أو ثلاث بالدوحة، فلمست كبده المحترقة على الأقصى والقدس، وشممت رائحة احتراقها في كلماته، وفي قسماته، وفي ردود فعله!
     رأيت والله صدقًا، ودينًا، وعفة، وقضية نذر لها نفسه؛ فإما توفيقًا ونجحًا، وإما شهادة في سبيل الله، بصدر عارٍ، وعجلة إلى الله رب العالمين.
جالست قبله فلسطينيين من نوعية رديئة، يتكلمون ويتكلمون، وواقعهم معاكس تمامًا، بل إن واقعهم يقول إنهم كذبة من طراز رفيع، وممثلون من جنس حقير وضيع، وكثيرٌ ما هم.
قبل أكثر من ثلاثين سنة - وعلى التحديد في الرابع من يناير عام 1978 - جالست الرجل الرابع أو الخامس آنئذٍ في منظمة التحرير الفلسطينية، بمناسبة مرور 14 سنة على قيام فتح، في غرفة مغلقة، في بلد بترولي كبير، ومعنا رب العزة تبارك وتعالى، واثنان آخران، من نفس الشاكلة، فقال الرجل القائد الكبير بانتهازية فاضحة: يقولوا لنا جهاد، يقولوا لنا نضال.. يسموه زي ما هم عايزين، المهم يدفعوا!
يدفعوا؟ وفزعت، وانشرخت، وخرجت حانقًا على هذه النوعية التعسة من الثوار الأشاوس؛ لأجبههم في الاحتفال، وأهتف حين جاء دوري بين الشعراء، ناعيًا المسجد الأقصى، الذي يخونه الأبوَاتُ الصناديد:
أنعي لكمُ الأقصى والباقي ربي سبحانه/ أنعي لكم الأقصى وبأيديكم خِطتم أكفانه/ أنعي لكمُ رمزًا سفحت دمَه رشاشاتُ خطاباتكم الرنانة/ يا إخواني في التهليل وفي التطبيل وفي تنميق الكلمات الطنانة/ أنعي لكمُ المسجون المظلومً وقد كنتم بتراخيكم سجانَهْ!
     ولا داعي لأن أقول ما حصل بعد ذلك، فقد انغلق قلبي، وأظلمت نفسي تجاه أولئكم وما يمثلونه! حتى بل الله ريقي برجال حماس وأسود الانتفاضة، وصادقت من فلسطين أشرافًا أحرارًا ذوي مروءة وطهارة، وغيرة صادقة، وعاطفة موارة!
لكنني بالمقابل - ذلك الجشع التعيس والتظاهر الخسيس - رأيت الشيخ رائد صلاح - حماه الله ومن كيد المجرمين عافاه - وقد أوتي مبلغًا مقابل محاضرة، فانفعل وقال: آخذ مقابلاً لكلامي عن الأقصى وبيت المقدس؟ هذه فريضة علي، وأودع المبلغ أمامي صندوقًا للتبرعات، دون أن يراه أحد، وراح!
موقفان عجيبان، يعكسان ويقولان ويدللان!
     اتهم بتبييض الأموال لصالح حماس، وحوكم بموالاته لمؤسسة (إرهابية) معادية لإسرائيل في الداخل والخارج، وتعرض قديمًا للاغتيال، أُطلق على رأسه الرصاص وجرح خلال مواجهات انتفاضة الأقصى، في إطار تصفية القادة الإسلاميين في أرض الرباط، لكن الله عافاه. ولأنه هدف مهم للمجرمين، فقد تعرض الخميس القريب هذا - 27/5/2010 - للاغتيال ضمن قافلة الحرية بيد صهيوني إرهابي مجرم، من وحدة مجرمي الكوماندوز البحري الإسرائيلي حاول اغتياله، وهو في مواجهته الجسور ضمن أعضاء القافلة البحرية الدولية "أسطول الحرية" لكسر حصار غزة الأبية، لكن الله أعمى بصر القرصان الدموي عن الشيخ رائد، فرمى شخصًا آخر يشبهه كثيرًا، أراد الله تعالى له الشهادة، عليه رحمات الله ورضوانه. 


     وقد نقلت الإذاعة الإسرائيلية عن الشيخ صلاح - في إطار تعليقه على محاولة اغتياله هذه - قوله إن كل القرائن تؤكد أن الجندي ظن أن هذا الشخص هو الشيخ رائد صلاح، ولذلك "أطلق الرصاص عن سابق إصرار؛ بهدف أن يقتلني أنا ونال هذا الرجل الشهادة في سبيل الله". وكانت إسرائيل قد أعلنت حالة التأهب ونشرت قواتها في الداخل وخصوصا في مدينته أم الفحم، تخوفًا من الاحتجاجات على اغتياله، ليتبين فيما بعد أن شبيهه هو الذي اغتيل. وقد نسبت المحكمة له وللفلسطينيين الثلاثة المعتقلين من القادة معه - بعد أسرهم من السفينة - أكثر من عشر تهم، منها استخدام سلاح ناري! وإصابة جنديين، واستخدام السلاح الأبيض، وطعن ثلاثة جنود، وتحريض المتضامنين الأجانب على إلقاء جنود البحرية الإسرائيلية في مياه البحر الأبيض المتوسط، وعقد تجمعات غير قانونية، والاشتراك بأعمال مخلة بالنظام!
   وقد وصفه البرلماني الكويتي وليد الطبطبائي في الرأي الكويتية بأنه كان «ملح» حملة أسطول الحرية، وأنه أزعج الإسرائيليين بصلابته، ونعتهم بالأغبياء والحمقى، موضحا أنه هيأ نفسه للاحتمالات كافة بعد أن باغتوهم بالهجوم في المياه الإقليمية الدولية.
وأعلن الطبطبائي أن الشيخ رائدًا رفض الإجابة عن أسئلة المحقق الإسرائيلي، وصرخ فيه: «أنتم قراصنة؛ لماذا تختطفوننا؟» وأن قتلة الأنبياء «حاولوا إجباري على توقيع ورقة تفيد بأنني مهاجر غير شرعي فأبيت. وأكد أنه لن يتردد في الذهاب إلى غزة مجددًا «إذا طلب مني ذلك؛ فالواجب يحتم موافقتي على الفور».
     وقد أعد نزار يونس عنه فيلمًا وثائقيًّا بثته الجزيرة بعنوان: إننا باقون، يروي قصته داخل الخط الأخضر لإبراز أعماله، وأفكاره الدينية والسياسية، وحياته العادية في بيته ومع الناس عامةً، إذ لا تقتصر فقط على المسلمين داخل الخط الأخضر، إنما يعمل من خلال حركته على إبراز جميع النواقص والاحتياجات الإنسانية والاجتماعية للفلسطينيين في مناطق الـ48 عامةً دون تمييز ديني. كما يساعد الفقراء والمحتاجين خارج وداخل الخط الأخضر.


 ورغم كونه لا يُعرف شاعرًا، فله ديوان شعر مطبوع، أيام سجنه، بعنوان زغاريد السجون طبعه مركز الإعلام العربي، ضمن سلسلة أدب القدس، وقدم له الأستاذ الدكتور جابر قميحة، وقصائده - على بعض مآخذي الفنية عليها - مشحونة بالعاطفة، وفيها رقة تملؤها دفئًا، اسمعه يقول: 
         كنْ باسماً متهللاً إن ناح غيرك باكيا
ومبشراً متفائلاً إن صاح غيرك شاكيا
واصبر على مرّ الليالي شامخاً لا جاثيا
وامسح عن الأيتام دمعاً قد كواهم جاريا
وارسم على كل الشفاه الناحبات أمانيا
كنْ بلبلاً يشدو ويُطرب كل مفجوع حزين
ويضمد الجرحى النيام على المواجع والأنين
ويجفف الآلام تمخر في زنازين السجونْ
هيا وحلق خافقاً ومغرداً عذب اللحونْ
ومصفقاً فوق السحاب وصادحا بين الغصونْ
وقد كُتبت فيه قصائد كثيرة لا أرى المجال مناسبًا الآن لعرضها وتأملها. وقد كتب فيه محمود النبهاني، وأبو شهاب، وعصام المجريسي، ولطفي الياسيني، وأشرف حشيش، والشيخ ولد بلعمش، والأخضر العربي، وغيرهم كثير..
       وفي إطار الاحتفال الذي يقيمه ملتقى المثقفين المقدسيين تحت عنوان: "زهرة المدائن للإبداع الثقافي الثالث" تم اختياره الشخصية المميزة لعام 2009-2010 كأفضل شخصية عملت من أجل القدس.
    رغم أنه أصغر مني سنًّا بنحو خمس سنين، إلا أنه بجهاده، وصلابته، ومواقفه أكبر مني خمسمائة مرة؛ ولقد تعلمت منه في كل مرة لقيته، ومن أهم ما تعلمته منه بطلان ذلك الفهم القاصر عن المسجد الأقصى الذي يظنه بعض الناس قبة فضية أو ذهبية، ليثبت لي أن الأقصى هو كل ما بين الأسوار من مساجد ومصليات وقباب وأضرحة وزروع ومآذن وبوابات، حتى إن المساجد والمصليات داخله تبلغ خمسة وأربعين مسجًد ومصلى، أما مسجد القبة أو المصلى المرواني أو جامع عمر أو الأقصى القديم فكلها مساجد داخل الأقصى.. وهذا ما حدا بي لإعداد كتاب مصور عن الأقصى الشريف ومعالمه، نشر قبل نحو عامين!
ومن الحقائق التي تعلمتها منه أن:
• عشرات الآلاف من الفلسطينيين خرجوا بأوامر من جيش الإنقاذ العربي عام 48 ولا يزالون بانتظاره.
• أتيح للجيوش العربية أن تقضي على المشروع الصهيوني وتدمر القوات اليهودية أكثر من ست مرات، وفي كل مرة تعلن الهدنة فجأة (!) فيستعيد الصهاينة قوتهم وسلاحهم، واشتهر عن بن جوريون مقولته: (اصبروا ساعات وستحدث المعجزة)!
•  قام الاحتلال الصهيوني بتصوير أفلام إباحية بالمسجد الأقصى الشريف والمسجد الأحمر في مدينة صفد، وغيرها من المعالم الإسلامية، كما لم تنج المقدسات المسيحية من الانتهاك فكنائس قرية النصبة قريبًا من مدينة عكا لا تزال تستخدم حظائر لتربية الأبقار!
• الإنسان الفلسطيني كان يملك 27 دونمًا - 27000 متر مربع - وما يملكه الآن بعد النكبة وفي عام 2001 هو 500 متر مربع فقط، بينما معدل ما يملكه الفرد اليهودي هو 18 ألف متر مربع. وفي الكيبوتزات يبلغ معدل ما يملكه الفرد خمسين ألف متر مربع.
فمن هو هذا الشيخ الجبل؟
     هو رائد صلاح محاجنة، من أم الفحم، قضاء مدينة جنين، رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين 48. بقيت عائلته في فلسطين، وتشبثت بالأرض، التي شب عليها هذا العملاق المجاهد الجسور، الذي ينتقل من سجن لسجن، ومحاكمة لمحاكمة، وموقف لموقف، وجهاد لجهاد. والذي يعد من أكثر الفلسطينيين مواجهة للسياسات العدائية الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين ومقدساتهم. وهو مع كل ما يلقى صلب، صامد، جسور، ناطق بالحق، مواجه كرّار، ذو حجة، لا يهاب موتًا، ولا سجنًا، ولا ترويعًا، بل هو الذي روعهم، وأقض مضجعهم!
     بدأ عمله الإسلامي مبكرًا، ونشط في مجال الدعوة الإسلامية داخل الخط الأخضر منذ كان في المرحلة الثانوية، وكان من مؤسسي الحركة الإسلامية داخل الكيان اللقيط في بداية السبعينيات. خاض انتخابات رئاسة بلدية أم الفحم عن الحركة الإسلامية، ونجح في تلك الانتخابات بنسبة تفوق 70% وأصبح رئيساً للبلدية في الحادية والثلاثين من عمره، ثم خاض الانتخابات للمرة الثانية عام 1993، ونجح بنسبة تزيد على 70% كذلك، وللمرة الثالثة عام 1997 ونجح بأكثر من 70%، ثم قدم استقالته في عام 2001 ليتيح المجال لغيره في الحركة الإسلامية
     اهتم اهتمامًا كبيرًا بقضية المقدسات الإسلامية من مساجد ومقابر ومعالم؛ نظرًا لتعمد الإسرائيليين الاعتداء عليها وتحويلها لأغراض أخرى بعد رحيل أهلها عنها، وانتخب في أغسطس 2000 رئيسًا لجمعية الأقصى لرعاية المقدسات الإسلامية، التي ساهمت بشكل فاعل في الدفاع عن المساجد في أراضي فلسطين كافة ، ونجحت في إظهار محاولات الاحتلال المتكررة للحفر تحت المسجد الأقصى، لتقويضه، وإبدال الهيكل الصهيوني الدموي المدنس به!
     وبدأ نشاط الشيخ في إعمار المسجد الأقصى وبقية المقدسات يتعاظم منذ عام 1996، واستطاع أن يُفشل المخططات الساعية لإفراغ الأقصى من عمارة المسلمين، عن طريق جلب عشرات الآلاف من عرب الداخل إلى الصلاة فيه؛ عبر مشروع مسيرة البيارق.
     نجح الشيخ رائد وزملاؤه في إعمار المصلى المرواني داخل الحرم القدسي الشريف، وفتح بواباته العملاقة، وإعمار المسجد الأقصى القديم وتنظيف ساحاته وإضاءتها - وهو مصلي تحت الأرض يبلغ أربعة آلاف متر مربع - وإقامة وحدات مراحيض ووضوء في باب حطة والأسباط وفيصل والمجلس، وعمل أيضًا على إحياء دروس المصاطب التاريخية، وأبرزها "درس الثلاثاء" الذي يحضره اليوم نحو 5 آلاف مسلم أسبوعيًا في المسجد الأقصى. والمصاطب هي مساحات مكشوفة داخل الأقصى، مرتفعة عن الأرض، وفي كل منها محراب، وكانت دائمًا موضع حلق العلم، يجلس فيها العلماء المختلفون للتدريس بالمسجد الأقصى، ويبلغ عددها أربعين مصطبة!
     وساهم رئيس جمعية الأقصى في إنشاء مشروع صندوق طفل الأقصى الذي يهتم برعاية نحو 16 ألف طفل، وتنظيم المسابقة العالمية "بيت المقدس في خطر" التي تجرى أعمالها سنويًّا في رمضان للكبار والصغار، بمشاركة عشرات الآلاف من كافة أرجاء العالم، بالإضافة إلى مسابقة الأقصى العلمية الثقافية، كما ساعد في إصدار عدة أفلام وثائقية وكتب عن المسجد الأقصى المبارك، كشريط "المرابطون"، وشريط "الأقصى المبارك تحت الحصار، وكتاب "دليل أولى القبلتين".
      في الوقت نفسه كان للشيخ رائد دور بارز في الحركة الإسلامية داخل إسرائيل، وهي الحركة التي نظمت مهرجان صندوق الأقصى في أغسطس 2002 وأثار قلق السلطات الإسرائيلية في حينها.
انتخب عام 1996 رئيسًا للحركة الإسلامية، ثم أعيد انتخابه عام 2001، ولم تخل تلك الفترة من تقلده رئاسة مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية إلى حدود عام 2002، وكذلك كان رئيسًا لمؤسسة الإغاثة الإنسانية.
     عرف الشيخ رائد بمواقف قوية صلبة عديدة، فقد عبر عن رفضه لاتفاق أوسلو، واعتبره ضربة ثقيلة للقدس والمسجد الأقصى، إذ أعطى فرصة أطول لتهويد القدس.
وعبر عن موقفه من أحداث الاقتتال الداخلي في غزة، واعتبره نذيرًا لسلب المسجد الأقصى، ودفعًا للمؤسسة الإسرائيلية إلى التكالب عليه لتنفيذ كل خططها!
     وعلى مستوى الداخل الإسرائيلي رفض الشيخ رائد التدخل في الشؤون الدينية للمسلمين والمسيحيين من طرف الإسرائيليين، وذلك حين أثيرت مسألة القرار الذي اتخذته لجنة القانون والدستور في الكنيست سنة 2001 بتعديل قانون الأحوال الشخصية، والذي أبقى النظر في قضايا الزواج والطلاق في المحاكم الشرعية والكنيست، في حين سمح بالتوجه إلى المحاكم المدنية في مسائل النفقة والحضانة والتبني وغيرها. واعتبره إكراهًا دينيًّا للمسلمين
     يتفنن الصهاينة في تلفيق التهم له ولأصحابه، ودائمًا يخرج منها بنصرة الله وعونه؛ ومن التهم التي ألصقوها به: الاتصال بجهة معادية (إيران) ودعم الإرهاب (حماس) والتآمر ضد أمن إسرائيل، وتبييض أموال لحساب حماس! وحاكموه بتهمة إقامته علاقات مع تنظيمات معادية لإسرائيل في داخل البلاد وخارجها. وقالت المحكمة الإسرائيلية: إن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تعتبر شقيقة الحركة الإسلامية التي يقودها هو في إسرائيل.
        ولا يزالون يلفقون له التهم، ولا يزالون يحاولون إسكاته بألف طريقة وطريقة، لكن الجبل يأبى إلا الشموخ، ويأبى المجاهد إلا إحدى الحسنيين..
وحمدًا لله على سلامتك أيها الشيخ الجليل.
(استقيت بعض المعلومات عن حياته من إسلام ويب. نت والجزيرة نت ومواقع أخرى).

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين