حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون (8)

مقارنات بين ما فعله الحكام المسلمون

وبين ما فعله غيرهم في مجال حقوق الإنسان

بعد أن استعرضنا موقف الإسلام من حقوق الإنسان وصيانته لها بأوامر ربانية عبر آيات القرآن الكريم، وبأوامر نبوية عبر أحاديث نبي الرحمة المسجاة لكل الأمم والشعوب، القائل فيه رب العزة: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

وتجسيد هذه الأوامر عبر حوادث وأحداث واقعية عاشتها الدولة الإسلامية عبر تاريخها من يوم إعلانها في المدينة المنورة، ومروراً بدولة الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية ودولة بني العباس وانتهاء بدولة المماليك ودولة بني عثمان.

بعد هذا الاستعراض الذي تلمسنا فيه فضل الإسلام على أمم الأرض بتسامحه وسماحته تجاه كل الأديان والمعتقدات والأعراق والألوان واللغات، نعرج - في مقارنة مقتضبة - مع ما فعلته الأديان والعقائد الأخرى بمخالفيها على مدى التاريخ فالضد يظهر حسنه الضد.

فلو قرأنا بإمعان ماذا سجل التاريخ للمسلمين حينما فتحوا القدس، ثم ماذا سجله هذا التاريخ لخصومهم الصليبيين حينما دخلوا القدس بعد أكثر من أربعة قرون من فتحها. فقد روت كتب التاريخ أنهم ذبحوا من المسلمين في القدس وحدها ما يزيد على سبعين ألف مسلم بين طفل ومحارب وشيخ وامرأة.

ولو قرأنا بإمعان ماذا سجل التاريخ للمسلمين حينما فتحوا الأندلس، حيث جعلوها منارة العلم والحضارة ومهفى قلوب الأمم لاغتراف العلم والمعرفة، ثم ماذا سجل هذا التاريخ لخصومهم الإسبان المسيحيين المتعصبين حينما قُدّر لهم أن يدخلوا الأندلس ليحولوا منارات العلم والثقافة والمعرفة ودور العبادة إلى اسطبلات ومواخير لمومساتهم، وليمعنوا الذبح والتقتيل بكل من يصادفوه من غير الذين ينتمون إلى مذهبهم وإن كانوا من المسيحيين.

وأقول بيقين أنه ليس هناك أي وجه شبه للمقارنة حتى ونحن نعيش بواكير القرن الواحد والعشرين، وعصر المدنية الزائفة والأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحافل الدولية حيث حقوق الإنسان تمتهن وتداس بوحشية فظيعة لم يسجل التاريخ مثيلاً لها، حيث يُعامل المسلمون في البوسنة الهرسك والشيشان وكشمير وكوسوفو والصين وبورما والفلبين معاملة تعاف النفس عن ذكر فصولها.. والحال التي آلت إليه العراق وأفغانستان، وما يُرتكب فيهما من مذابح وتقتيل وتعذيب للمسلمين بعد احتلال الأمريكان لهما بحجة محاربة الإرهاب، لأمر تقشعر له الأبدان، وقد زكمت فضائح سجن أبو غريب وغونتينامو الأنوف.

إن أي منصف لا يمكن له أن يتبين قيمة ما قدمه الإسلام للإنسانية في مجال حقوق الإنسان والتسامح مع المخالفين في الدين، ما لم يقرأ ما فعله أصحاب العقائد، والإيديولوجيات العلمانية المعاصرة. وما فعله العقائديون الجدد في هذا المضمار مع مخالفيهم حيث تجلت في أعمالهم القسوة المفرطة، والاضطهاد الممنهج، والتعذيب حتى الموت، والتنكيل الفظيع، والتشريد في أصقاع الدنيا، والإبادة الجماعية والإرهاب المستمر في ظل فرض الأحكام العرفية وسريان قانون الطوارئ، والمحاكم الاستثنائية والميدانية والعسكرية. والشواهد على ما نقول كثيرة، والعديد من الدول العربية يشملها هذا الحال، وفي مقدمتها العراق، وسورية، وليبيا، وتونس، ومصر، والجزائر، والمغرب، والسودان.

ولم تكن هذه الأعمال لتقع شذوذاً فردياً، أو فلتة مهووسة، أو نزولاً على حكم الضرورة، بل إن العنف، والاضطهاد الوحشي بحق المعارضين كان يمثل سياسة ثابتة دائمة، قائمة على فلسفة نظرية لا تكتفي بتبرير العنف فقط، بل توجبه وتحتمه، وتجعله فرضاً من فروض نجاح الثورات، والثورية ولوازمها. وقد زعموا أن هذا العنف من خصائص كل دعوة انقلابية في الماضي والحاضر دينية أو غير دينية، وتجاهلوا موقف الإسلام المتميز من هذه المعتقدات.

لقد ارتكب الشيوعيون الحمر في روسيا من الفظائع والمذابح - عند قيام الثورة البلشفية - ما لا يخطر ببال أحد، وما يفوق الوصف والخيال (حتى أن بعض معاوني لينين أخذوا يتذمرون من التضحيات الكبرى بالدماء والأرواح، التي نتجت عن الحرب الأهلية، فلما كلموا (لينين) في الإنسانية، أن ثلاثة أرباع الشعب قد مات، كان جوابه بكل بساطة: ليس للأمر أهمية أبداً إن مات ثلاثة أرباع الشعب. إن ما يهمنا هو أن يصبح الربع الباقي شيوعياً). ولم يتحقق حلمه فقد غدا الاتحاد السوفييتي شذر مذر بعد سبعين سنة من حكم الشيوعية الملحدة المستبدة.

وعندما أُعطي الشيوعيون في العراق الضوء الخضر لفعل ما يشاؤون سنة 1959 في عهد عبد الكريم قاسم ارتكبوا مجازر تقشعر لها الأبدان في الموصل وكركوك والرمادي. ولم يكن الحال الذي أتى بحزب البعث لحكم العراق فيما بعد بأحسن حالاً من حال نظام قاسم، فقد أقام صدام حسين نظاماً ديكتاتوريا قاسياً شهد ما لم يشهده العراق من قبل من قتل وتشريد وتعذيب. كذلك كان الحال في سورية البعثية التي لم تقل وحشية عن الدكتاتورية الصدامية، حيث ارتكب حافظ الأسد من المجازر والمذابح ما لم يكن له مثيل في أي نظام ديكتاتوري آخر.

وما قام به الرفاق المقلدون للماركسية في العديد من بلدان العالم الثالث من مجازر ليست بأقل مما ارتكبه الشيوعيون الأصلاء في بلدانهم، فهذه كمبوديا مثال سيئ الذكر تناقلت وكالات الأنباء أخبار المجازر التي نصبها (الخمير الحمر) لأبناء جلدتهم في كمبوديا على مدى ثلاثة سنين هي عمر حكمهم الدامي.

ومن العجيب أن دعاة العنف الثوري حديثاً، يستندون في تبرير عنفهم وقسوتهم بحق مخالفيهم، إلى ما حفل به تاريخ الأديان قديماً من تنكيل واضطهاد وإبادة جماعية ضد من لا يدين بها، ويركزون خاصة على تاريخ المسيحية، أيام العصور الإقطاعية المظلمة.

لقد ادّعى الشيوعيون والنازيون والفاشيون الذين لجأوا إلى العنف الجماعي المنظم، أن تروتسكي وهتلر وموسوليني وغيرهم استوحوا هذا العنف من مدارس مسيحية، وفي طليعتها مدرسة اليسوعيين، ومحاكم التفتيش، والحركات الألفية.

وهذا الادعاء ما هو إلا حجة على هؤلاء. فالمسيحية تدعو إلى المحبة والسلام، وقد قاست ألواناً من الاضطهاد والتنكيل إبان نشوئها. ولكن بعض من اعتنقوها شوهوا تعاليمها السمحة حينما ملكوا زمام السلطة وقامت لهم دولة أو أصبح لهم نفوذ.

يذكر الشيخ (محمد عبده) في كتابه (الإسلام والنصرانية): إن الكنيسة الإسبانية غضبت لانتشار فلسفة (ابن رشد) وأفكاره، وخصوصاً بين اليهود، فصبت جام غضبها على اليهود والمسلمين معاً. فحكمت بطرد كل يهودي لا يقبل المعمودية، وأباحت له أن يبيع من العقار والمنقول ما يشاء، بشرط ألا يأخذ معه ذهباً ولا فضة، وإنما يأخذ الأثمان عروضاً وحوالات. وهكذا خرج اليهود من إسبانيا تاركين أملاكهم لينجوا بأرواحهم، وربما اغتالهم الجوع ومشقة السفر، مع العدم والفقر. وحكمت الكنيسة كذلك سنة 1052م على المسلمين (أعداء الله) - كما سمتهم الكنيسة - بطردهم من إشبيلية وما حولها إذا لم يقبلوا المعمودية، بشرط ألا يذهبوا في طريق يؤدي إلى بلاد إسلامية، ومن خالف ذلك فجزاؤه القتل.

ولم يكن اضطهاد الكنيسة الإسبانية موجهاً إلى الوثنيين والمخالفين في الدين فحسب، بل موجهاً إلى المسيحيين الذين لهم رأي أو مذهب يخالف مذهب الحكام أو مذهب الكنيسة المعتمدة لديهم.

والذين قرأوا تاريخ المسيحية يعرفون كيف أن الاختلافات اللاهوتية بين المسيحيين في تفسير بعض أقوال أو مبادئ التوراة، كانت تؤدي إلى قتال يحصدهم حصداً.

ولما ظهر مذهب البروتستانت في أوروبا على يد (لوثر) وغيره قاومت الكنيسة الكاثوليكية أتباع هذا المذهب بكل ما أوتيت من قوة، وعرف تاريخ الاضطهاد الديني مذابح وحشية رعيبة، من أهمها (مذبحة باريس) التي حدثت في 24/8/1572م، والتي دعا فيها الكاثوليك البروتستانت ضيوفاً عليهم في باريس للبحث في تسوية تقرب بين وجهات النظر، فما كان من المضيفين إلا أن غدروا بضيوفهم تحت جنح الظلام، فقتلوهم خيانة وغدراً وهم نائمون، فلما طلع الصباح على باريس كانت شوارعها تجري بدماء هؤلاء الضحايا، وانهالت التهاني على (تشارلس التاسع) ملك فرنسا بغير حساب من البابا ومن ملوك الكاثوليك وعظمائهم. وعرف التاريخ هذه المذبحة بـ(مجزرة القديس بارتيليمي).

ومما يثير العجب أن البروتستانت لما قويت شوكتهم، قاموا بنفس الدور مع الكاثوليك، ولم يكونوا أقل وحشية منهم.

لقد قال (لوثر) لأتباعه: من استطاع منكم فليقتل، فليذبح، سراً أو علانية، اقتلوا اخنقوا واذبحوا ما طاب لكم، هؤلاء الفلاحين الثائرين.

لم يكن من الغريب أن تنطوي الحروب الدينية في أوروبا على الفظائع التي ميزتها. فهذا (فيارك) يذكر حرفياً: إن الحرب الدينية الثلاثينية قضت في ألمانيا وحدها، على أكثرية الشعب الألماني بين قتل وجوع، وحرقت معظم مدنها المزدهرة، وحولتها إلى رماد.

ولعل الحملات الصليبية (التي يُظن أنها أرادت المسلمين فقط) التي اتجهت إلى أوروبا قبل ذلك لتفتك بكل من تحدثه نفسه بالخروج، أو بالانحراف عن الكنيسة. ففي الحملة ضد (الليجنس) و(الوالدنس) و(الكثارين) في القرنين الثاني والثالث عشر الميلادي كانت تهدف الكنيسة إلى محاولة إفنائهم إفناء تاماً. وهذا ما حققته فعلاً، فقتلت وحرقت وشنقت الرجال والنساء والأطفال بشكل جماعي.

وكانت حرب الكنيسة ضد الحركات الدينية المنشقة لا تتوقف، عندما كانت تجد نفسها قادرة على ذلك، حيث كانت تشن ضدها حرب إفناء. كذلك كان حال هذه الحركات المنشقة عندما تقوى شوكتها تعمل على استئصال شأفة أتباع الكنيسة.

فقد ذكر (لي) في دراسته حول محاكم التفتيش في القرون الوسطى: أن جميع المحاكم والقضاة في الحاضر والمستقبل، كانوا ملزمين بأن يقسموا على إزالة كل الذين تعتبرهم الكنيسة كفرة، وإلا فهم يخسرون مراكزهم، إن أي حاكم زمني يهمل لعام واحد، بعد دعوة الكنيسة بأن ينظف الأرض التي يملكها من الكفرة، تصبح أرضه من حق كل من يفني الكفرة ويقضي عليهم

ويعرّب شكيب أرسلان في كتابه (لماذا تأخر المسلمون) النشيد الإيطالي الذي يجب أن يحفظه الجندي الإيطالي قبل أن يتوجه إلى ليبيا، ويقول النشيد:

(يا أماه أتمي صلاتك ولا تبكي

بل اضحكي وتأملي

ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني 

وأنا ذاهب إلى طرابلس

فرحاً مسروراً لأبذل دمي

في سبيل سحق الأمة الملعونة

ولأحارب الديانة الإسلامية

سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن

وإن لم أرجع فلا تبك على ولدك

وإن سألك أحد عن عدم حدادك علي

فأجيبه:

إنه مات في محاربة الإسلام.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين