رسالة عاجلة إلى الشباب

روى المَسْعُودِيّ فِي شرح المقامات الحريرية أن الخليفة العباسي والد هارون الرشيد وابن أبي جعفر المنصور الْمهْديَّ لما دخل الْبَصْرَة رأى إِيَاس بن مُعَاوِيَة وَهُوَ صبي وَخَلفه وقدامه أَرْبَعمِائَة طيلسان من الْعلمَاء وَغَيرهم، فَقَالَ الْمهْدي: أُفٍّ لهَذِهِ العثانين( اللحى)... أما كَانَ فيهم شيخ يتقدمهم غير هَذَا الْحَدث!!!! ثمَّ قَالَ لَهُ الْمهْدي: كم سنك؟ فَقَالَ: سني - أَطَالَ الله بَقَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ - سنّ أُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة لما ولاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَيْشًا فيهم أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا، فَقَالَ المهدي : تقدم بَارك الله فِيك. وَكَانَ سنة سبع عشرَة سنة.

وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة ونحوها، فاستصغره أهل البصرة، فقالوا: كم سن القاضي؟ . 

فعلم أنه استُصغر، فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً على مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضياً على أهل البصرة، فجعل جوابه احتجاجاً.

وَكَمْ مِنْ صَغِيرٍ صادَفَتْهُ عِنايَةٌ ... مِنَ اللهِ فَاحْتاجَتْ إِلَيْهِ الأَكَابِرُ

أيها الإخوة الأماثل : 

هذه قصص وأخبار أضعها بين يدي شباب هذا اليوم، وأدعوهم للوقوف لحظة مع الذات، ومحاسبة النفس على ما فات، لمعرفة مواقعهم من التاريخ، ولتثبيت أماكنهم من حاضر الأمة ومستقبلها...

أين هم؟.

ما هم فاعلون؟.

ماذا يعدون للأمة من جلائل الأعمال وكريم الفعال؟. 

هل تحدثهم أنفسهم بالمعالي؟ هل يسهرون من أجلها الليالي؟.

هل يذكرون علياً وعمر...

هل ينشدون الاقتداء بخير البشر؟.

هل يترسمون خطى السلف أم أن الدهر عفا على ما سلف. 

أسئلة تضع نفسها على الطاولة بين يدي الشباب تنتظر منهم إجابات صريحة... واقعية... صحيحة... وكل شاب حجيج نفسه. 

إن الأمة اليوم بأمس الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى شبابها، ومفتقرة أعظم ما يكون الافتقار إلى فتيانها الصيد، الذي يسيرون بها إلى العلياء ويأخذون بيدها في الليلة الظلماء، تماماً كما فعل شباب هذه بالأمس حين نهض بها قتيبة بن مسلم ومحمد بن مسلمة وعقبة بن نافع ومحمد الفاتح... 

كان محمد الفاتح يأتي كل صباح الى الجهة المقابلة للقسطنطينية ممتطياً صهودة جواده ، ويرسل عينه نحوها، وكأنه يتخيل أمراً ما ... يرنو ببصره إلى بعيد ... و:انه يستشرف ذلك المجد العظيم الذي أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ (رواه الإمام أحمد في مسنده برقم 18189) ، وكان له ما أراد... وكان من عظيم همته وهو ابن أربعة وعشرين ربيعاً يقول : " عما قريب بإذن الله، سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر ".

ولعل شاباً يقول لنا : إنكم معشر الخطباء تنزعون نحو المثالية، وتنشدون النرجسية في كل شيء، وتصدعون رؤوسنا بهذه الأخبار الأساطير... فزمان أولئك غير زماننا، وظروفهم غير ظروفنا. 

وهو تساؤل لطيف لكنه لا يقوى على مجابهة الصواب، وإذا فارقُ الزمان وبُعْدُ العصور يلعب دوراً فإن الهمة لا تعترف بكل ذلك، ولا تعجز أمام تلك الفروق البسيطة الهامشية، فصاحب الهمة إن أراد كان له المراد... إن أراد ذل له المراد... وانصاع له العباد... فلسان حاله يردد قول ابن سناء الملك:

وإِنَّك عبدي يا زَمَانُ وإِنَّني على الكُرْهِ منِّي أَنْ أُرَى لَكَ سَيِّدَا

ولِمْ أَنا راض أَن أُرَى وَاطِئَ الثَّرى ولي هِمَّةٌ لا ترتضي الأُفْقَ مَقْعَدا

ولو عَلِمَتْ زُهْرُ النجومِ مَكانَتي لخرَّتْ جميعاً نَحْوَ وَجْهِيَ سجَّدا

أَرى الخَلقَ دُوني إِذ أَرَانيَ فَوْقَهُم ذَكاءً وعلماً واعتلاءً وسُؤْدُداً

فيا أيها الشاب : لا تقل: من أنا بين الشباب... لا تقل: من أنا في الناس... لا تقل : أنا لا محل لي من الإعراب...

لا تقل : ماذا أستطيع أن أقدم للمجتمع.. ماذا أستطيع أن أخدم به ديني... إن أقصى ما يمكنني أن أفعله هو أن أحافظ على صلواتي وأنجح في دراستي وأتقن عملي... 

نقول : هذا يكفي... إن الدين لا يريد منك أكثر من هذا، فإن زدت كان خيراً...

إن المجتمع لا يطلب منك أكثر من أن تنجح في دراستك وتتقن عملك... فإن زدت فلك وافر الشكر، إن زدت فأنتجت فنفعت فهو المراد...

أيها الشاب: أنت ابن أبي بكر وعمر... وحفيد علي والمقداد... أنت الذي أسجد الله لك ملائكته، وسخر لك الكون كله لينظر ماذا تعملون...

لا تتذرع بأن الناجح محارب... وأن الناس لا يريدونه ويضعون العصي في عجلاته... فمن أراد نال... وتذكر توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس يوم كان شاباً في مثل سنك : "وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ". ( رواه الترمذي).

أيها الشاب: دع عنك هاتفك، وخل عنك واتسابك ووسائل تواصلك... ولا تنشغل بالذي هو أدنى عما هو خير... واعلم أنك خلقت لأمر عظيم فلا تغفل عنه...

قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ *** فاربأْ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ

أيها الشاب... لا تعتمد على ما تركه لك الأجداد من أمجاد ...وما خلفه لك الآباء من سمعة طيبة وثناء ... 

إِنَّ الفَتى مَن يُقولُ ها أَنا= ذا لَيسَ الفَتى مَن يُقولُ كانَ أَبي

ولا تكتف بما يوفره لك الآخرون من وسائل العيش الرغيد... وما يرفدونك به من أسباب الرفاهية والراحة والدعة والسكون :

وإنما رجل الدنيا وواحدها *** من لا يعول في الدنيا على رجل

أيها الشاب: 

الكون ينتظرك ....

والتاريخ يسجل عليك ...ولا يعذرك....

والأجل سيدركك...

أيها الشاب :

لا تحتقر نفسك...

وتزعمَ أنك جرم صغير***وفيك انطوى العالم الأكبر. 

ولا تحقرن من العمل شيئاً، ولو أن تكف أذاك عن الناس. 

أيها الشاب :

الآمال معقودة عليك... والأعناق مشرئبة إليك... 

أيها الشاب:

لا تسلم عقلك لكل أحد... ولا ترم بقيادك لكل من أراد... كن عاقلاً... كن يقظاً.. كن فهماً... كن فطناً .... كن مدركاً للمخاطر التي تتهدد حياتك ودينك وعقيدتك وأسرتك ومجتمعك ووطنك. 

وأنت أيها الأب.. أيتها الأم: 

لا تتهربا من المسؤولية... فطالما أنتما على قيد الحياة فلا تخلوان من المسؤولية... ولا تتذرعا بالخوف من أن يكرهكما أولادكما... فصفاء عقيدتهم ومتانة دينهم وسلامة فطرتهم أغلى وأهم من كل شيء في دنياكما. 

لا تخلوا بين أولادكم وبين رفقاء السوء... إنْ في العالم الحقيقي أو الافتراضي... ولا تفعلوا ذلك من باب الحرية أو الديمقراطية، أو ليقول عنكم أبناؤكم : أنتم آباء حضاريون... 

فليست الحضارة في الضياع... وليست الديمقراطية في الشتات... وليست الحرية في فعل من يشاء ما يشاء...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين