نقض منهجيّة القراءة المعاصرة للنّصّ القرآنيّ عند المهندس محمد شحرور(1-7)

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين، وبعد: 

عندما تطورت المناهج التاريخية واللغوية تطورًا كبيرًا في أوروبا، وخصوصًا في ألمانيا، إبان القرن التاسع عشر، وبعد أن طبقوا منهجية النقد التاريخي على الآداب اليونانية والرومانية، وخرجوا بنتائج باهرة، قالوا: لماذا لا نطبقها على النصوص الدينية؟ فهي أيضًا مُشَكَّلة من حروف وألفاظ، وجمل وعبارات، ومرتبطة بظروفها وعصرها.

ونتيجة لذلك بدؤوا يطبقونها على التوراة والإنجيل، أو العهد القديم والعهد الجديد، وفوجئوا بأشياء عجيبة لم تكن تخطر لهم على بال، فقد اكتشفوا مثلًا: أن التوراة ليست من تأليف النبي موسى عليه السلام، كما يعتقد اليهود والمسيحيون منذ آلاف السنين، بل هي من تأليف متأخر، لأنها تحتوي على إشارات ومرجعيات وألفاظ ما كان يمكن أن توجد في عصر النبي موسى عليه السلام، وبرهنوا بالأدلة القاطعة على أطروحتهم هذه، عندئذ أصيب الوعي الإيماني المسيحي في الصميم.

لكن الليبراليين قبلوا بالنتيجة، وقالوا: إن العلم لا يدمر الإيمان، كما يزعم الأصوليون المتحجرون بل يضيئه وينعشه!

وهنا بدأت معركة تأويل النص عند الغرب، وهي المعركة التي يريد أن يستورد العلمانيون العرب أدواتها، (المنهج التاريخاني (1) واللسانيات)كمحمد أركون (2)، والمهندس محمد شحرور (3)وغيرهما، لإجراء العملية الجراحية الغربية نفسها، لكن مع فارق وحيد أنهم يجرونها على العضو السليم وهو النص القرآني الذي ثبت قطعًا أنه نص إلهي، ليس لبشر فيه يد؛ حتى النبي المبلغ له عليه الصلاة والسلام.

وشكلت موجة ما يسمى (القراءة المعاصرة) آخر موجات الصراع المستمرة حول تأويل النص القرآني.

فلا يزال الوحي والنص المقدس ساحة صراع بين من يحاولون امتلاك ناصية الفهم الحق، والتعبير عن مراد الله تعالى من الخطاب الإلهي، وبين مقلدة الغرب من أصحاب القراءة المعاصرة، وكثيرًا ما تتأثر هذه المعارك الفكرية بالأحداث السياسية، وتكون رجعًا للصراعات الاجتماعية.

فبعد كل حالة من الانكسار التي تتعرض لها الأمة تعلو بعض الدعوات التي تحاول إعادة تفسير الإسلام من جديد، على صورة تحل فيها معضلة التناقض التي يتصورها الشباب المسلم الحائر بين النص والوحي من جهة، وبين التجربة والواقع من جهة أخرى.

وقد ظهرت في سوريا قديمًا دعوة الأستاذ جودت سعيد لمذهب ابن آدم الأول بعد الصراع الدامي بين الإسلاميين والبعثيين، وكانت قراءة جديدة متأثرة بالواقع الغائم والنكبة المرة.

وكذلك بعد وقوع العالم الإسلامي تحت نير الاستعمار الغربي ظهرت كثير من الدعاوى التي تدعو إلى تفسير النص القرآني والإسلام تفسيرًا جديدًا يحل الإشكالية التي أفرزتها الحالة السياسية والصدمة الحضارية، كما فعلت البهائية (4) في إيران، والقاديانية (5) في القارة الهندية.

وإن كان بعضهم يكتفي بتفسير مثل هذه الدعوات بأنها صنعة إنكليزية محضة، أو مؤامرة استعمارية بحتة، فإنني هنا أريد تناول الموضوع من وجهة نظر أخرى، تتجاوز عقدة المؤامرة، إلى المحاكمة العقلية لهذه المناهج المحدثة.

ونجد أن المفكر والشاعر الهندي الكبير محمد إقبال (6) شرح تلك الدعوات بناء على المؤدى والنتيجة منها بشكل عميق ودقيق، وأشار إلى أنها تلغي مفهوم العبودية والربوبية التي هي جوهر الأديان كلها، لأنها تحرر الإنسان، وتستعبد الدين فيصبح الدين مقلوبًا رأسًا على عقب، ويتحول العبد معها - وهو الإنسان هنا - إلى سيد، والدين إلى عبد خاضع؛ يلبي شهوة الإنسان ورغباته، وقد عبر عن ذلك إقبال شعرا فقال:

وإن شئت فالقرآن تأويل لاعب ** فجدد لنا شرعًا يلائمه العصر 

رأيت بأرض الهند أيَّ عجيبة! *** فإسلامها عبدٌ ومسلمها حر (7)

واليوم نعود لنلحظ هذه الشنشنة التي نعرفها من أخزم، تشرئب مجددًا، وتحاول أن تقدم تفسيرًا جديدا للنص، يكاد يكون فهمًا بديلًا عن الإلحاد، وإن كان في أصله نوعًا من الإلحاد في آيات الله.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة فصلت: آية40] والإلحاد هنا كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما هو: أن يوضع الكلام في غير موضعه (8)، لينتهي الأمر إلى إفراغ الدين من محتواه، والذي قد يجتذب كثيرًا من الشباب المصدوم بالخطاب التكفيري، الذي مثلته داعش، أو الناقم على الخطاب الانهزامي أو الخرافي الذي أشاعته الفتاوى الجامية، وبعض منحرفي المتصوفة.. كما شكل خطاب المؤسسات الدينية الحكومية حالة من الصدمة لدى الشباب المسلم من خلال موقفها من الظلم الممارس على الشعوب المسلمة في فترة الربيع العربي، مما أدى إلى فقدان الثقة بكل من يمثل الدين، أو حتى الشك بالدين نفسه.

وبين دعوات الجمود على التراث، وبين دعوات تجديده، تستبطن العلمنة تارة والإلحاد تارة، وبين السقوط الأخلاقي لبعض الدعاة في معركة الحرية والظلم؛ تجد مثل هذه القراءات رواجًا بين الشباب بما تضفي على نفسها من مسحة عقلانية تستهوي البعض.

وهنا أذكر المهندس محمد شحرور نموذجًا في قراءته المعاصرة للقرآن في عدد من كتبه والتي يعد من أهمها كتابه ((الكتاب والقرآن قراءة معاصرة)) والذي حدد فيه منهجه اللساني في تناول تفسير آيات القرآن الكريم (9).

وهنا لا أريد الغوص في النوايا كما يفعل البعض، فأمر ذلك لرب العالمين، ولا يهمني إن كان شحرور عميلًا صهيونيا، أو شيوعيا ماركسيًا.. لكن ما لفت انتباهي في ظاهرة شحرور مسألتان:

الأولى: كثرة الشباب المفتونين، والمعجبين بفكره وبضاعته التفسيرية المبهرجة بغلاف من عقلانية خادعة وشهوانية طاغية.

والثانية: كمية الردود السطحية والعاطفية التي يرد بها بعض من الدعاة على المهندس شحرور، مما يزيد دعوته قوة وتأثيرًا، ويزيد من ردود الباحثين عليه ضعفًا بعين الشباب المثقف المتابع لصليل هذه المعركة.

وفي أحسن الأحوال هناك من رد على إنتاجه التفسيري بطريقة تناول الجزئيات التفسيرية في قضايا معينة، مثل قضية الحجاب والميراث والصيام، وهو جهد مبارك.. ولكن تناول المنهج المعرفي الأبستمولوجي والغوص والحفر في عمقه وتحليله يبقى ردًا قاصرًا، يعالج المنتج، ولا يمس المنهج.

لذلك اخترنا الرد بنقض المنهج الأصولي لشحرور، ودحض منهجه المعرفي من أصله وأساسه، بدلًا من التيه والدوران في ملاحقة منتجاته الفكرية الشاذة في قضايا الإرث والحجاب وغيرها، لنحقق غاية بسيطة، وهي أننا ببيان فساد الأصل والمقدمات سنظهر بطلان كل ما يتولد عن ذلك من فروع ونتائج ومخرجات.

وهنا نشرع بتفكيك أهم المقدمات والأصول الفاسدة التي يقوم عليها منهج شحرور في قراءته المعاصرة للقرآن الكريم.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

========-

(1) (التاريخية) أو (التاريخانية) كلمة وضعها المفكرون الحداثيون العرب في مقابل المصطلح الأصل في اللغة اللاتينية (Historicisme)*، وهذا الانتقال الترجمي يحتاج إلى وقفة اصطلاحية، وأما من حيث أصله اللغوي فـ(التاريخية) مصدر صناعي[(التطبيق الصرفي/ص73) للراجحي، و(جامع الدروس العربية/ص177) للغلاييني]، يدل على خصائص التاريخ، أي التطور والتغير والحركة، وأما اصطلاحا فقد عرفه دايموند أرون بقوله: (المذهب الذي يدعو إلى المعرفة التاريخية للقيم والفلسفات ونسبيتها) (La Philosophie Critique de l Histoire /p289).

(2) محمّد أركون يدعو إلى ضرورة توظيف علم الألسنيات أو علم اللغة؛ لأنّ الخطاب القرآني "لم يكن مكتوبًا في البداية، وإنّما كان كلامًا شفهيًّا أو عبارات لغوية شفهية تنبثق على هوى المناسبات والظروف المتغيّرة، وقد استمرّ ذلك عشرين سنة" راجع "محمّد أركون، العلمنة والدّين، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1996، ص 83

(3) المهندس محمد شحرور تاريخ الولادة: دمشق – 1938بدأ في دراسة التنزيل الحكيم وهو في إيرلندا بعد حرب 1967، وذلك في عام 1970، وقد ساعده المنطق الرياضي على هذه الدراسة، واستمر بالدراسة حتى عام 1990، حيث أصدر الكتب التالية ضمن سلسلة (دراسات إسلامية معاصرة) الصادرة عن دار الأهالي للطباعة والنشر في دمشق: (الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة) عام 1990. (822) صفحة، (الدولة والمجتمع) عام 1994. (375) صفحة، (الإسلام والإيمان – منظومة القيم) عام 1996. (400)، و العديد من الكتب (نقلا عن موقعه الرسمي).

(4) البابية والبهائية حركة نبعت من المذهب الشيعي الشيخي سنة 1260ه‍/1844م تحت رعاية الاستعمار الروسي واليهودية العالمية والاستعمار الإنجليزي بهدف إفساد العقيدة الإسلامية وتفكيك وحدة المسلمين وصرفهم عن قضاياهم الأساسية.. أسسها الميرزا علي محمد رضا الشيرازي 1235ـ1266هـ (1819 ـ 1850 م)، أفكاره: بدأ غلام أحمد نشاطه كداعية إسلامي حتى يلتف حوله الأنصار ثم ادعى أنه مجدد وملهم من الله ثم تدرج خطوة أخرى فادعى أنه المهدي المنتظر والمسيح الموعود ثم ادعى النبوة وزعم أن نبوته أعلى وأرقى من نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يؤولون القرآن تأويلات باطنية ليتوافق مع مذهبهم، يحرمون الحجاب على المرأة ويحللون المتعة وشيوعية النساء والأموال. المصدر "الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إشراف وتخطيط د. مانع بن حماد الجهني، طبعة دار الندوة العالمية".

(5) القاديانية حركة نشأت سنة 1900م بتخطيط من الاستعمار الإنجليزي في القارة الهندية، بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فريضة الجهاد بشكل خاص؛ حتى لا يواجهوا المستعمر باسم الإسلام، وكان لسان حال هذه الحركة هو مجلة الأديان التي تصدر باللغة الإنجليزية.. مؤسسها هو ميرزا غلام أحمد القادياني (1839 - 1908م) أداة التنفيذ الأساسية لإيجاد القاديانية، وقد ولد في قرية قاديان من بنجاب في الهند عام 1839م.. المصدر "الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إشراف وتخطيط د. مانع بن حماد الجهني، طبعة دار الندوة العالمية".

(6) هو إقبال ابن الشيخ نور محمد، كان أبوه يكنى بالشيخ تتهو أي الشيخ ذي الحلقة بالأنف ولد في سيالكوت، إحدى مدن البنجاب الغربية (1877 - 1938م).

(7) من ديوان ضرب الكليم لمحمد إقبال، نقله للعربية الدكتور عبد الوهاب عزام، ص42

(8) جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م، ج 21 ص 478 

(9) يقول شحرور في شرح مستنده في تطور دلالات اللغة: لقد وضع الخليل وسيبويه قواعد اللسان العربي على مبدأ الشكل: المرفوعات والمنصوبات والمجرورات، وهو ما يُسمّى علم النحو، ثمّ جاء علم البلاغة (المعاني) وكأنّه قام بالفصل بين النحو والبلاغة كلّ على حدة، بحيث نجد أنّ سيبويه والجرجاني وابن جنّي وأبا علي الفارسي وكلّ علماء اللغة ظهروا في القرون الهجرية الأولى، ونحن الآن في بدايات القرن الحادي والعشرين، نعلم أنّ علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك والطبّ وكلّ العلوم الأخرى تقدّمت تقدّمًا هائلًا لا يقاس أصلًا بالماضي، إضافة إلى علوم اللسانيات، لكنّ علماء الدين نسوا أنّ علوم اللغات تطوّرت أيضًا تطوّرًا هائلًا، فكيف لنا نحن ألّا نأخذ في الاعتبار هذا التطوّر الهائل لعلوم اللسانيات عند دراسة آيات التنزيل الحكيم لفهمها بنحو أفضل ومعاصر؟ المصدر: موقعه الرسمي [https://shahrour.org/?page_id=3 ].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين