الاتفاق والاختلاف وآثارهما ماذا فعل بنا التفرق؟

نرى بأعيننا – كما نرى الشمس نهاراً ولا حائل – أن البلاد التي اتفقت كلمتها على ما تأتي وتذر ، يكون لها من الهيبة في النفوس ما ليس لغيرها من البلاد المختلفة الكلمة ، بمعنى أن أهل العدوان يرهبون البلدة التي بها ألف متفقون رهبة لا تكون منه لبلدة بها آلاف مختلفون ، وبمعنى أن البلدتين إذا اصطدمتا يكون الظفر لذات الألف على ذات الآلاف.

والسر في هذا في غاية الظهور ، فإن ذات الألف إذا حملت حملت بقوّة ألف وهي قوّة هائلة ، فإذا اتجهت هذه القوّة على ذات الآلاف المختلفين كانت متجهة على قوة أفراد.

وغير معقول أن تقف قوّة أفراد متفرقة أمام قوّة مجتمع ، فإن الآلاف المتفرقين – ولو بلغوا ملايين – هم في المعنى فرد واحد ، ومن يتصور أن الواحد من رتبة الآحاد يقف أمام الواحد من رتبة الآلاف؟ وقل هذا في الأقل من البلدة أمام البلدة كالأسرة أمام الأسرة ، وقلّه في الأكثر من البلدة كالأمة أمام الأمَّة.

هذا نظر العقل المجرد إلى هذا المعنى – معنى الاتفاق والاختلاف – ولا تظنن أن عقلاً ينازع في هذا ما دام يطلق عليه اسم العقل ، بل هو موضع اتفاق بين جميع العقول ، وعلى هذا النظر جاء دين الإسلام دين العقل ، فإنَّه أمرنا وفرض علينا الاجتماع والاتفاق ، ونهانا وحرّم علينا الافتراق والاختلاف ، وإنما أمرنا بالاتفاق لتكون لنا القوة فتكون لنا الغلبة وحينئذ تكون لنا العزّة وتكون لعدونا الذلة ، وإنما نهانا عن الاختلاف لئلا نضعف أمام عدونا ويكون له علينا الغلبة فيصبح لفي علياء العزة ، ونصبح في حضيض الذلة ، وإنما نبا بنا ديننا عن أن نقف مغلوبين مقهورين أمام عدونا ، لأن المغلوب أمام عدوه الغالب يتمنى الموت ، فيكون إذن في شر من الموت ، لأن ما يتمنى منه الموت أشد من الموت ، وكيف لا يتمنى المغلوب الموت وغالبه لو شاء أخذَ ماله فعل وهو يرى بعينيه ، ولو شاء أن يهتك عرضه ويتمتع بحرمه بين يديه كان ذلك بلا أيِّ مانع ، ولو شاء قتله وإراقة دمه كان ذلك في لعب كما يلعب الرجل الماجن بالعصفور!!.

وإذا كان هذا قدر تمكُّن الغالب من المغلوب فلا عجب إذا قيل أنه يسخّره في مطالبه ليلاً ونهاراً لا فرق بين مطلب ومطلب حتى حمل برازه على رأسه فضلاً عن حمله هو كما يحمل الحمار صاحبه.

ومن أهون ما يتصوره العقل من الغالب أن يحول بين المغلوب وبين أداء ما فرضه ربه عليه ، بل هو قادر أن يحول بينه وبين الأكل والشرب والمنام ، ومعنى هذا أن المغلوب – ما دام له حسّ وشعور – معذب الروح والبدن أمام غالبه دائماً ، وفي إخلال مستديم بما يقتضيه دينه وبما يتطلبه دنياه ، وإن شئت فقل إن الغالب يستطيع أن يغير دين المغلوب ، وإذن نستطيع أن نقول إن الغالب قادر على أن يسلب من المغلوب سعادته الدنيوية والأخروية ، ويبدله منها شقاء دنيوياً وأخروياً.

لا يظن القارئ أن هذه فروض فقط ، لا يظن هذا ، فقد كان بالفعل وحكى منه التاريخ كثيراً ، وبين أيدينا اليوم منه كثير ، وسيكون لنا في المستقبل منه كثير إن تمادينا على ما نحن عليه.

ولما كان الأمر في الاتفاق والاختلاف ما نحكي – شدد ربنا تعالى علينا في الاتفاق ، ونفَّر سبحانه وحذر من الاختلاف ، فراراً من عواقب هذا إلى نتائج ذاك.

ولهذا المقام الغالي الذي هو الاتفاق مقدمة هي الحب ، ولهذه المقدمة مقدمة أخرى هي الإحسان ، فإذا أحسن كل منا إلى أخيه بفعل ما يحب وترك ما يكره أحبه ولابدَّ ، فإن النفوس مجبولة على حب المحسن ، فإذا أحبه كان هواه حيثما يهوى ، فإذا اندفع اندفع معه ، وإذا أحجم أحجم معه.

لقد كانت هذه الأمَّة وبينها حضرة نبيها صلى الله عليه وسلم في النهاية القصوى من إحسان بعضها إلى بعض ، حتى كانوا يأتون من ضروب الإحسان إلى بعضهم ما لولا أن القرآن هو الذي يحكيه لكان بعيدأ عن تصديق أمثالنا، وكيف لا وقد كان أحدهم يكون في حاجة إلى الطعام يبرّد به حرارة جوعه ، فإذا رأى أخاه في حالة جوع قدّمه على نفسه وقدّم إليه ما بين يديه من طعام ، وربما كان جوعه أشد حرارة من جوع أخيه ، لهذا كانوا في منتهى ما يتصوره العقل من حب بعضهم لبعض ، لذلك كان اتفاقهم غاية الغايات بحيث كانت تضرب به الأمثال، وكان من آثار ذلك أن قال ربنا لنبيه صلى الله عليه وسلم [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] {الأنفال:64} ، أيَّ بلغ متِّبوك في اتحاد القصد واتفاق الكلمة مبلغاً كان عنه من القوة ما يكفيك أعداءك مهما كبروا وقووا.

من أجل هذا كان النصر حليفهم والخذلان قرين أعدائهم حتى وصلوا من العزة بين الأمم مايحكيه التاريخ الصدوق ويقف أمامه العقل في ذهول، وتبعهم على ذلك المبدأ. تابعوهم بإحسان، وكانت العزة هي هي ؛ ثم جاءت قرون بعد تلك القرون المباركة أخلُّوا بالمقدمة ومقدمة المقدمة، فانعكس الأمر عكساً كلياً، وترتب على ذلك من النتائج ما تقطع له القلوب وتنهمر العيون دماء لا دموعاً، ثم خالفت تلك القرون فبدَّلت الإحسان إساءة فتبدل الحب بغضاً فاختلفت الكلمة فضعفت الأمَّة فقوي العدو، وعن ذلك كان ما تراه العيون اليوم، أمّا أنَّ الاحسان تبدل إساءة فذلك مُشاهد بالعين وملموس باليد ومسموع بالأذن، ولقد وصل الأمر في هذا إلى حدِّ أنَّا أصبحنا إذا رأينا خيراً أصاب وأحداً منا ينزل بنا من الغم ما لا يحتمل، وإذا رأينا شراً حاق به قام بنا من الفرح ما يجعلنا نرقص طرباً وسروراً، ووصل أيضاً إلى أنَّ الواحد منا إذا ضعف عن إيصال الإساءة بنفسه إلى أخيه يستعين من يوصله، ولو كلفته تلك الاستعانة مئات الجنيهات، ألذ من كل لذيذ عند أحدنا أن يهتك عرض أخيه ويخونه في أهله، وأن يستولي على ماله بأي طريق من الطرق الفاجرة، وأن يغتاله ويريق دمه كأنه خروف يذبحه، وما إلى ذلك من أنواع الاساءات، حتى أصبحت الأرض تلتهب بها نيران المعاصي التهاباً، ومن يفعل به كل تلك البلايا ثم لا يبغض من يفعلها بغضاً لا حدَّ له ؟ ثمَّ من يبغض أخاه هذا البغض ثم يكون قلبه معه يميل إلى مراد له أو يتمنى تحقيق غرض من أعراضه ؟ انحلت الأمَّة فأصبحت غير أمة فغلبها أعداؤها غلبة صارت بها اليوم ملكاً لهم ، وصار أفرادها عبيداً أرقاء أذلاء ، يسخرهم أولئك الأعداء كما يشاؤون.

هذا حال الأمَّة الإسلامية في هذا الزمان ، بأي واد كانت ، والعجب أننا مع هذه الداهية القاصمة ، لا نزال في تباغضنا واختلافنا ووقوفنا في وجه بعضنا يكيد كل منا لأخيه بكل ما في وسعه ، هذا منا برهان واضح على أنا فقد نا شعور الإنسان ، فإن المادة في هذا النوع أنه ينسى الأحقاد الداخلية إذا ألمت شدة خارجية ، ولي في هذا المعنى:

لا تأمننَّ إذا الشدائد هاجمت=إنَّ الشدائد تذهب الأحقادا

ما كان منا هذا، بل الذي كان ما حكينا لك من تمادينا على اختلاف كلتمنا وتفرق قلوبنا واعتدائنا بعضنا على بعضنا اعتداء يتوالى ما توالت آناء الزمان، وبذلك اجتمعت علينا قوة عدونا وقوتنا، فنحن مدد عظیم لعدونا علينا، وإني أظن أنَّ أذن الوجود لم تسمع مثل هذا.

كان المألوف في مثل هذا الموقف أنَّ ينضم بعضنا إلى بعض انضماماً نكون به كرجل واحد ونقف في وجه عدونا وقوف المستميت ندافع عن دينتا وعن أموالنا وعن أرواحنا وعن أوطاننا ولو كنا أضعف من العدو، فإنَّه إن غلبنا ونحن بتلك الصفة يحترمنا وينظر إلينا بعين الاجلال لقيامنا أمامه بالواجب علينا، وبهذا كان يعاشرنا معاشرة ليس فيها من الاحتقار والازدراء شيء.

أما الآن وهو يرانا أعداء لأنفسنا وحرباً علينا تودّداً وتقرباً إليه فينظر إلينا ضاحكاً منا ساخراً بنا معتقداً أنَّ إلينا المنتهى في الجبن والحقارة.

ولسنا نشك في أنَّه آمن كل الأمن من أنَّ نتحرك حركة غيرة على كرامتنا التي يدوسها بنعله، وكيف لا يأمن من عدوٍ أصبح من جنده - عدو يری من الفخر والعظمة أن يصادقه ويتحبب إليه، عدو لا يری غضاضة في أن يستعين به على كمد نفسه وقهره، نعم هو آمن منا كل الأمن لأنه يرانا نلح في الدعاء أنَّ يدوم حكمه علينا وسيادته لنا، ويرانا نبتهل إلى ربنا أن لا يكون لنا من الأمر شيء، ذهبت عقولنا وفقدنا التمييز لدرجة أن خفي عنا أنَّ الأمر إذا كان لنا لانبيد أنفسنا ولا نقضي على ديننا، بخلاف غيرنا إذا كان الأمر له فإنَّه إن استطاع في لحظة أنَّ لا يبقي أثراً لنا ولديننا فعل مغتبطاً مسروراً.

والمصيبة العظمى أنَّ اختلاف الكلمة دب حتى بين حماة الإسلام فساد لذلك التباغض بينهم لحدِّ يُخيف، وكيف لا ومنهم من يحكم بالكفر على من لا يوافقه على ما يذهب إليه فيستحل بذلك الحكم دم ومال من عداه، ومنهم من يفسِّق كل مخالفيه ويضللهم ويحكم غير متحرج على ذلك المخالف بأنَّه على غير الجادة، وهي أحكام من لوازمها البغض الشديد بين الحاكم بالفسق والضلال وبين المحكوم عليه بذلك، وأخفُ أصناف أهل العلم من يشعر في قلبه ميل شديد إلى من يوافقه على المذهب الذي يتعبد مراعياً له ولا يجد هذا الميل لمن يخالفه في مذهبه، ولذلك آثار لا تخفى حتى ممن يُعدون من أهل الاعتدال بين العلماء.

هذا حال أهل العلم ، و المبشرون يعملون بنا ما عرفت....

إن واجباً على الأمَّة كلها أن تقلع عن هذا الذنب العظيم ذنب التفرق والاختلاف ، وتقف أمام العدو المشترك واضعين وراء ظهورنا ما بيننا ، وحمق لا حدَّ له أن يناوئ بعضنا بعضاً هذه المناوآت وسكين قهر العدو تعمل في أحشائنا.

نعم لابدَّ لنا الآن وفي كل آن أنّ نتحد ونتفق قلباً وبدناً، قولاً وفعلاً، حاكم ومحكوماً، عالماً وجاهلاً، شرقاً وغرباً، فإنَّ الاتحاد هو وحده الأساس الذي عليه يبنى صلاح ديننا وصلاح دنيانا معاً، وما رأينا أمة رَقَتْ إلا بالاتحاد، ولا قَوِيَتْ أمَّة ولا غلبت ولا احترمت بين الأمم ولا سادت إلا بالاتحاد.

هذا معنى يعرفه كل الناس، وهو في نظري كما نقول: السماء فوقنا، والأرض تحتنا، والبحر مغرق، والنار محرقة، وما إلى ذلك من القضايا التي لايجهلها أحد...

ومع بداهة هذا المعنى لا نكون في جهة من الجهات الإسلامية إلا وترى فيها نار الاختلاف بيننا تشتمل اشتعالاً، كأنَّ الله تعالى كتب علينا هذا الاختلاف وطلبه طلباً لا هوادة فيه، وكأنَّه سبحانه حرم الاتفاق تحريماً قطعيَّاً.

وإذا بحثت عن أسباب هذا الاختلاف تجدها أوهاماً لا يقيم لها وزناً من به ذرّة من العقل، هكذا قيمتها ولها تُراق الدماء، وتستباح الأعراض، وتخرّب البيوت العامرة، ويقف المسلم من أجلها أمام أخيه المسلم موقف العدو الألد لا يلقاه إلا عبوساً، ولا ينطق معه إلا بالفحش وهُجر الكلام، وإذا تحرك نحوه كانت حركاته الخطر الداهم.

ولقد قرأت قريباً بعض الصحف أنَّ قطرة من أقطارنا منقسم قسمين بينهما من العداوات ما بينهما، والسبب الوحيد لهذا العداء أنَّ أحد الفريقين يحظر على الفريق الآخر أنَّ يشاركه في إطلاق لقب سيد عليه، وهذا الفريق الآخر يخالفه في هذا، وهذا لولا أنَّا رأيناه بأعيننا وقرأناه بألسنتنا ماصدقنا أنّ يصدر من عقلاء فضلاً عن فضلاء.

ومن أقطارنا الإسلامية قطر استحكم الخلاف فيه لسبب هو أنَّ فريقاً منه عمل على عقد مؤتمر ودعا له من دعا من الأقطار الإسلامية فعمل فريق آخر على إحباط ما يعمل إخوانهم، مع أنَّ هذا المؤتمر كان فخراً لذلك القطر من ناحية، ووراءه ما وراءه من الخير للإسلام والمسلمين من ناحية أخرى، وكل ذنب الداعين إلى عقد المؤتمر عند الفريق الآخر أنَّهم لم يدعوهم إلى العمل في المؤتمر كما دعوا من دعوا.

فهل هذا يجوز أنَّ يكون سبياً لذلك الخلاف القبيح: مع أنَّ عدم الدعوة قد يكون أمراً اتفاقية لا قصد فيه، على أنَّ دعوة كل أفراد القطر ليست في الإمكان.

وقامت زوبعة خلاف في قطر آخر اكتسحت ولا تزال تكتسح من أمواله وأخلاقه وأرواحه ما لا يدخل تحت حصر لسبب هو وقوف رجلين منه أحدهما أمام الآخر كل منهما بحرص على أنَّ يفاوض لحل عقدة مستحكمة بين ذلك القطر وبين قطر آخر أجنبي، وقد كانت البراعة السياسية تقتضي أنَّ يزهد كل منهما في تلك المفاوضة فراراً من تعقيدها وإلقاءاً لتبعتها على عاتق الآخر.

والغريب أنَّ كلاً منهما كان له دور في المفاوضة المذكورة، وما كان له في النجاح في حل تعقيدها.

هذه أمثلة نذكرها للقارئ الكريم ليرى بنفسه الأسباب التي لأجلها نختلف ونتنازع ونتناحر ونخرِّب بيوتنا بأيدينا ونمكن منا عدوِّنا تمكن السيد من عبده، إنَّ مثلنا في اختلافا هذا - مع معرفة نتائجه - مثل من يری السم القاتل فيتحساه وهو يوقن أنه قاتل، وما ذلك من صفة العقلاء الذين يميزون ما یضر مما ينفع.

إذن فلنقطع عنق الخلاف بسيف الوفاق إن كان لنا حظ من العقل والدين، وليبدأ بذلك أعظمنا حقاً وأبعدنا نظراً وأقواناً إيماناً، وإلا فلنتحمل حكم من يجردنا من الأمرين، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

من كتاب النهضة الإصلاحية للأسرة المسلمة

مصطفى أبو سيف حمامي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين