قراءة نقدية لكتاب : مفهوم الإيمان في علم الكلام الإسلامي

قراءة تحليلية نقدية في كتاب
"مفهوم الإيمان في علم الكلام الإسلامي: تحليل دلالي للإيمان والإسلام"
تأليف: توشيهيكو إيزوتسو - ترجمة: الأستاذ الدكتور عيسى علي العاكوب
د. محمود مصري
مدرج ابن خلدون –  كلية الآداب بجامعة حلب – 3/5/2010م


- هذا الكتاب "مفهوم الإيمان في علم الكلام الإسلامي" هو الحلقة الثالثة في الترجمة العربية لسلسلة مؤلفات الأستاذ توشيهيكو إيزوتسو الإسلامية، فقد ترجم له الدكتور عيسى العاكوب من قبل: "الله والإنسان في القرآن"، و"المفهومات الأخلاقية الدينية في القرآن".
- والمؤلف أستاذ متخصص في الدراسات الإسلامية، وله ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة اليابانية. وقد نقل المترجم في مقدمته كلاما مهما للدكتور سيد عربي عيديد مفاده أن إيزوتسو استطاع أن يشرح الإسلام في سياقاته الدينية – الروحية والحضارية معًا لبقية العالم، على نحو أكاديمي.
- مترجم الكتاب الأستاذ الدكتور عيسى العاكوب عضوُ مجمع اللغة العربية بدمشق، وعميدُ كلية الآداب في جامعة حلب، عرفناه أستاذًا كبيرًا فاضلًا من أعمدة اللغة والأدب في هذا البلد، أوتي من سحر البيان، وجزالة اللغة، ودقة التعبير، وعلمية التفكير، أوتي من ذلك كله قدرًا يدهشك اجتماعه في رجل واحد. ومن العجيب أنه يستطيع أن يحلق بك في ترجماته كما يحلق بك في كتاباته، وكأن شخصيته الأدبية المتميزة تأبى إلا أن تبرز لك وتطالعَك من وراء السطور التي يخطها، وذلك من خلال حسن اختياره لما يترجم، وقوة صلته بما يترجم من جهة، ومن خلال السبك الفني المحكم، والصياغة الأنيقة للنص المترجَم من جهة أخرى. ولعلي لا أبالغ إذ أقول إن الدكتور عيسى -فضلا عن مواهبه الكثيرة- يُعَد الآن صاحب مدرسة متميزة في الترجمة، تقوم على أسس علمية واضحة ودقيقة يحاول أن يبين لنا شيئا من ضوابطها في مقدمات كتبه، وتقوم أيضا على أسلوب فني شائق يكتشفه القارئ بنفسه عند مطالعة الترجمة.
- نأخذ على سبيل المثال ما كتبه الدكتور عيسى -في كتابه هذا الذي نعرّف به اليوم- فيما يتعلق بالترجمة، فقد بيّن منهجه قائلًا: "وقد اعتمدنا في الترجمة أن نورد الأصل العربي للمادة المقتبسة، في الأعم الأغلب من الحالات، وأن نورد التعليقات الخاصة للمؤلف حين تكون موجودة. وفي اجتهادنا أن هذا المسلك يحقق قدراً أكبر من المصداقية العلمية. وراعينا من وجهة أخرى اعتماد المصطلحات الكلامية العربية نفسها، غاضين الطرف عن المقابلات العربية لترجمتها الإنكليزية.
ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً أننا أثبتنا أرقام الأصل الإنكليزي داخل المتن العربي المترجم، لكي يسهل ذلك على القارئ الكريم المقارنة بين الترجمة والأصل، إن هو شاء ذلك".
- تحدث المؤلف في مقدمة الكتاب عن هدف مزدوج يسعى لتحقيقه من كتابه يتمثل أولا في وصف التطور النظري لمفهوم الإيمان عبر تاريخ جمهرة المسلمين، وثانيا في التحليل الدلالي لـ "الإيمان" ولمفهومات مفتاحية أخرى مرتبطة به. لاسيما وأنه يرى أن مفهوم الإيمان هو الأهم بين المفهومات الكلامية في الإسلام، وقد أثار مناقشاتٍ حادةً منذ القرون الأولى، كما بيّن المترجم في مقدمته المهمة للكتاب.
- إن الحقل الدلالي الذي تؤلفه كلمة "إيمان" المفتاحية مع الكلمات المفتاحية المصاحبة لها يشكل عند المؤلف أهمَّ المفهومات المفتاحية في علم الكلام الإسلامي، وقد أجاد الأستاذ الدكتور أحمد قدور من خلال عرضه التحليلي للكتاب، أجاد في بيان منهج المؤلف في تتبع الحقل الدلالي، من خلال طرق ارتباط الكلمات المفتاحية. وسوف أقتصر في ورقتي على تناول قضايا عقيدية في الكتاب، حسبما يتسع له المجال، وذلك عبر وقفات ثلاث: الأولى تتعلق بمقدمة المؤلف وخاتمته، والثانية اخترتها من القسم الأول من الكتاب، إذ يتناول فيه المؤلف قضية الكفر، والثالثة اخترتها من القسم الثاني من الكتاب، الذي يتناول فيه المؤلف قضايا الإيمان.
- الوقفة الأولى: في الواقع نقطة مهمة استوقفتني في مقدمة المؤلف وهي إدراكه أن "الإيمان ظاهرةٌ وجوديةٌ شخصيةٌ". يقول الأستاذ إيزوتسو: "وفي هذا الاعتبار ربما يقول المرء إنه لا يُكشف عمقُه الحقيقي –أي الإيمان- إلا عندما يُتناول من وجهة نظر غيرِ مدرسية، وإنه بهذا المعنى يمكن أن يُقال إن فهم المفهوم نفسِه عند الصوفية يمضي أعمقَ كثيرًا في لبّ المسألة أو صميمها، ولن أتردد في إقرار هذه النظرة". ويتابع في مكان آخر: "إن الإيمان من وجهة كونه مفهوما كلاميا يعكس ويكشف الطبيعة الحقيقية لـ"الإيمان" بوصفه حدثا وجوديا، أي شيئا عاشه فعليا -في مسيرة التاريخ- المؤمنون المسلمون وعَمَر قلوبَهم". وقد فهم المترجم هذه العبارة فهما عميقا، وأدرك ما أراده المؤلف، وعبّر عن ذلك بدقة فقال ناقلا ومعلقا: "إن علم الكلام الإسلامي لا يعدو أن يعالج معالجة شاملة مسائل الإيمان التي عمرت قلوب المسلمين على امتداد العصور. وهذا يعني، عنده، أن المعالجةَ الكلامية المدرسية لمفهوم الإيمان أقربُ إلى ملامسة الجانب الخارجي الشكلي للمسألة، ذلك لأنها معالجةٌ عقليةٌ لمسألةٍ وجدانيةٍ ضاربةِ الجذور في أعماق النفس، لكن هذا الخارجي الذهني، فيما يُرى، تجلِّ ذاتيِّ لـ "الداخليّ".
وهذا المعنى في افتتاح الكتاب يؤكِّده المؤلف بصورة أخرى في اختتام كتابه فيقول: "على امتداد هذا الكتاب كنا نتتبع عملية عقلنة الإيمان، تلك العملية التي واصل بها المسلمون الظفر بتبصر تحليلي وعقلاني متّقدٍ دائما في ماهيّة الإيمان، كما انعكس في وعيهم. وبهذا الصنيع نجحوا في كشف البِنية المفهوميّة للإيمان، لكن شيئا شخصيَّا جدًّا، شيئًا حيويًّا حقًّا، أَفلت من الشبكة الدقيقة لتحليلهم... فإذا شاء أحدٌ الظفر بفهمٍ شاملٍ حقًّا للإيمان في الفكر الإسلامي، فسيكون عليه أن يُعِدّ عملًا تحليليًّا مشابهًا للعمل الذي بين أيدينا في شأن ماهيّة التقوى وتطورها ومفهومات مفتاحيّة أخر في التصوف. وإنه فقط عندما تُجمع النتائج المحصول عليها في العملَين التحليليين كليهما: الكلاميّ والصوفيّ، ويُنسّق فيما بينها، نستطيع أن نأمل الحصول على صورة كاملة للإيمان على غرار ما فهم في الإسلام".
من الواضح مما تقدم أن المؤلف قد أدرك البعد الروحيّ العميق للإيمان، وأنه يحتاج إلى معالجة مختلفة، إذ المسائل الكلامية العقلية لا تغطي كامل صورة الإيمان في أعماق المؤمن. ومن خلال إدراكه هذا ربط الإيمان بمفهوم التقوى التي تعمّق الإيمان وتزيد المعرفة بالله، وهذا ما نجده في قوله تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله). إن صورة الإيمان في مقام الإحسان، ترقى بمفهوم الإيمان وتنقلنا إلى طيف واسع من التنوع الدلالي.
وقد ذكر أهل المعرفة أن من شرط كمال الإيمان أن يصير الغيب عند المؤمن كالشهادة سواء، ويسريَ منه الأمان في نفس العالم كله، فيأمنه المؤمنون الكاملون على القطع على أنفسهم وأموالهم، وأهليهم. فالمؤمن من تولاه الله بالإيمان الذي هو القول والاعتقاد والعمل الصحيح. ولهذا قال الله تعالى في حقهم: (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم)، يريد ما قدموه من الأعمال الصالحة الموافقة لإيمانهم. وعرّفوا هذا الإيمان بأنه علم ضروري يجده المؤمن في قلبه لا يقدر على دفعه، لأنه نور يقذفه الله تعالى في القلب.
وقالوا في علامة صحة الإيمان: من صح إيمانه لم ينظر إلى الكون وما فيه، لأن خساسة الهمة من قلة المعرفة بالله تعالى. وقالوا في صدق الإيمان: هو التعظيم لله، وثمرته الحياء من الله. وقالوا في حقائق الإيمان: حقائق الإيمان أربعة: توحيد بلا حد، وذكر بلا بتّ، وحال بلا نعت، ووجد بلا وقت. ومعنى حال بلا نعت: أن يكون وصفُه حالَه، ووجد بلا وقت: أن يشهد تجليات الحق في كل وقت.
وقد جاءت المطالبة من الحق تعالى بهذا الإيمان العالي في قوله: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله)، فهو يطلب من المؤمنين الإيمان، ولا بد في هذه الحال أن يكون الإيمان الثاني غيرَ الأول، وإلا كان الكلام تحصيل حاصل، فإذا كان الإيمان الأول يخاطب العقل من خلال علم الكلام، فإن الثاني يخاطب الروح من خلال علم تهذيب النفوس والرقي بها إلى أن تبلغ كمالها الذي قُدر لها في علم الله تعالى. ويلزم من هذا الإيمان الثاني معايشة تجليات فعل الحق تعالى في قضائه وقدره، فينظر إليه نظرة العارف ببروزه من حضرة العلم الأزلي. وهذا ما  نجده في قوله : "ولا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه".
إن عدم صيانة الإيمان بالمستوى الروحي، والاقتصار على الجانب العقلي، سيقود إلى خلل في الفهم، ومن هنا أريد أن تكون الوقفة الثانية عند قضية مهمة للغاية، وهي تكفير المخالف، تلك القضية الشائكة التي نعاني منها اليوم، والتي اتخذت صورة سلبية زادت الفُرقة بين المسلمين، وأعطت غير المسلمين انطباعا خاطئا عن الإسلام. 
عالج المؤلف قضية الكفر في الفصول الثلاثة الأولى. وإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن كتابا عنوانه: "مفهوم الإيمان في علم الكلام الإسلامي"، ليس من المناسب أن يبدأ بثلاثة فصول عن الكفر،إذ إن الإيمان هو الأصل الذي يتناسب وفطرة الإنسان، والكفر هو الانحراف عن تلك الفطرة، لكن سرعان ما يجد المرء تفسيرًا لذلك عندما يعلم أن المؤلف يتتبع المفهومات المفتاحية من خلال سياقها التاريخي، الذي ارتبط بقضية الخوارج.
فقد أدرك المؤلف أن المفهومات المفتاحية التي تعامل بها الخوارج لها أساسًا جانبان مختلفان، يشير كل منهما إلى اتجاه مختلف تماما: الأول: سياسي، والثاني: كلامي. وفي البدء، أي في المرحلة الأموية المبكرة، كان الجانب السياسي هو الأكثر أهمية، بينما مع تقدم الوقت آل الجانب الكلامي إلى أن يكون شيئا فشيئا أكثرَ بروزًا، فأوضح المؤلف أن مرتكز المناقشاتِ في البداية كان مسألةَ الخلافة، فالمقصود هو مواجهة الخصوم السياسيين من الأمويين والشيعة، وبالتالي صاغوا مسألتهم على النحو الآتي: هل من يتبع عليا ويؤيده كافر أو مؤمن، وكذلك في حق من يتبع معاوية. فهؤلاء عندهم كلُّهم كفارٌ لأنهم مرتكبو كبيرة، وبالتالي: هل من يرتكب الكبيرة بشكل عام مؤمن أو كافر؟ وهكذا برزت مسألة مرتكب الكبيرة كمسألة كلامية. ولا يمكن الإجابة عن ذلك إلا بتحديد مصطلح الإيمان، وما الذي يجعل الإنسان مرتكبا للكبيرة. وقد تنبه المؤلف إلى دلالة كون الخوارج لم يسألوا أولا "ما الإيمان"، ولا حتى سألوا "ما الكفر" وإنما سألوا: "من الكافر". وهذا لا تخفى دلالته على نمط تفكيرهم المنحرف، فالمطلوب هو عزل فئة محددة عن الإسلام وتكفيرُها، ثم تطور الأمر إلى تنظيرٍ يتعلق بمسألة تكفير مرتكب الكبيرة بشكل خاص، ولكن دون أن يتعبوا أنفسهم حتى في تحديد مفهوم الكبيرة على المستوى النظري، ربما ليتمكنوا من أن يخرجوا من الإسلام من يريدون في أي وقت يريدون. فقد استوجب الكفرَ عندهم مَن قَبِل بالتحكيم، واستوجب عليٌّ الكفرَ عندهم أيضا لسبب إضافيٍّ هو أنه لم يقاتل الفئة الباغية، وهذا الانحراف الفكري قد تسبب في إراقة دماء كثير من المسلمين، وأصبح أتقى الناس لا يأمن على نفسه أن يوصم بالكفر، ويطرد قسرًا من الحمى، ويهدر دمه. والتاريخ يعيد نفسه اليوم.
وهكذا يضع المؤلف يده على الانعطاف الأول لمفهومي الإيمان والكفر عن البنية القرآنية البسيطة المبنية على تمييز واضح بين المسلمين والكافرين، يجعل خارج دائرة الإسلام من لا يؤمن بالله وبرسالة سيدنا محمد ، فالإنسان إما مؤمن أو كافر. وكان يَدخل في دائرة الإسلام كل من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم نقل الخوارج المفاصلة لمن هم بالأصل ضمن دائرة الإسلام فميزوا بين مسلمين حقيقيين منهم ومسلمين مزيفين، هم مسلمون بالاسم برأيهم وليسوا على الحقيقة إلا كفارا يجب أن يقتلوا، وهؤلاء ليسوا كفارًا بالمعنى البسيط للكلمة، فقد خضع مفهوم الكفر لتغيير جذري لأول مرة، فهؤلاء كفار منشقون عن عقيدة. بينما بقي هؤلاء مسلمين عند أنفسهم، وكذلك عند المسلمين من غير الخوارج. وهكذا بين المؤلف أن الخوارج هم الذين جاؤوا بمفهوم الكفر إلى وسط الجماعة المسلمة.
وقد علق المؤلف على استعمال الأزارقة الذين هم أكثر فرق الخوارج  تطرفًا لكلمة "مشرك" يصمون بها المخالف، فقال مفسّرًا: "والأكثر ترجيحًا في أية حال أنهم ببساطة نبذوا المعنى الأصلي للكلمة، واستعملوها تعبيرًا عاطفيَّا انفعاليًّا. ولنقل بطريقة أخرى: استعملوا التعبير علامةً على موقفهم الذاتي في الكراهية الفطرية العنيفة لأسوأ شيء يمكن تصوره من وجهة نظر الدين كما فهموه، محتفظين فقط بالقيمة السلبية التي رُبطت بالكلمة". وهذا أراه كلاما جيدا يشير إلى أن استعمالهم لكلمة "مشرك" يقوم على شيء لا رابط له بهذه الكلمة، سوى أنها الأسوأ دلالة على البعد عن الإسلام الذي هو دين التوحيد، وهذا ما يفعله كثير من الغلاة اليوم، فيجعلون من المسلمين مشركين، لأسباب لا علاقة لها بالشرك ألبتة، غير أنهم يريدون وصفهم بالكلمة الأسوأ دلالة. 
وأريد أن أشير هنا إلى الفرق بين اعتقاد الخوارج بالنسبة لمرتكب الكبائر واعتقاد المعتزلة، الذين يرون أيضا أن الكبائر تزيل الإيمان، لكنها لا تُدخل في الكفر، وهذا ما يسمى بالمنزلة بين المنزلتين، وهم ينطلقون في حكمهم من القول بأن الأعمال جزء من الإيمان، مستندين إلى قوله : "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن... الحديث"، فأخذوا بظاهر الحديث الذي بين أهل السنة أن المراد منه: وهو مؤمن بأن الله يراه، أي حاضرُ القلب مع الله تعالى، فلو كان كذلك لما استطاع المعصية حياء من الله، وهي رتبة عالية من الإيمان تحدث عنها النبي ، وليس المقصود هنا نفي الإيمان الذي هو ضد الكفر، وبالتالي فإن هذا المفهوم سيضعنا أمام حقيقة أنه لا يلزم من كون العبد يحجب عنه الإيمان، المتقدم توضيح دلالته، أن ينتفي عنه الإيمان بوجود الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. لذلك قال علماؤنا: "الإيمان يتخصص في كل موطن بما يناسبه بحسب السياق" الذي هو فيه. وهنا نكتة خفية ذكرها الشيخ محي الدين بن عربي، وهي أن العبد المؤمن لا يخلص له قط معصية محضة فلا بد من أن يشوبها طاعة، وتلك الطاعة هي إيمانه بأنها معصيةٌ تسخط الله تعالى، وكرهه لها، وندمه عليها، فهو من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، عسى الله أن يتوب عليهم. أي يرجع عليهم بالرحمة. قال العلماء: وعسى من الله واجبة الوقوع، من حيث أن رحمته بالمسلمين سبقت غضبَه عليهم. ويرى الشيخ محي الدين أيضًا أن بعض الناس قد ينفعه ذنبه، فيرد إبليس خاسئًا، وذلك كما إذا كان عند العبد عجبٌ بأعماله، وكبْرٌ على إخوانه، ونحوُ ذلك، فيقع في معصيةٍ فيحصل له ذلٌ وانكسار وندم فيزول مرضه ويكتب من التوابين، وهذا ما نجده في قول ابن عطاء الله: رب معصية أورثت ذلًّا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزًّا واستكبارا. فشتان بين هذه النظرة ونظرة من ينظر إلى مرتكب المعصية على أنه كافر.
ثم ما أحب أن أشير إليه في هذه المسألة أيضًا هو موقف الطرف المقابل من مسألة التكفير، فالذين صدّقوا الرسول في قوله ولكنهم أخطئوا في التأويل مع كونهم من أهل القبلة، كالمعتزلة والنجارية والروافض والخوارج والمشبهة وغيرهم، فإن جمهور العلماء أجروا عليهم أحكام المسلمين، لدخولهم في صدق اسم المسلمين عليهم، وهم من أمة الإجابة بلا شك، فمن سماهم كفرة فقد ظلم وتعدى، وإنما يقال فيهم فسقة ضالّة مبتدعة. ومن سماهم كفرة فإنما ذلك على سبيل التشديد والتغليظ لما هم عليه من الخطأ الفاحش، فشبه ذلك بالكفر لمقاربته له، كما ورد في الحديث: المراء في القرآن كفر، وبين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، وإذا قال المسلم للمسلم يا كافر  فقد باء فيه أحدهما، فكل ذلك ورد على سبيل التغليظ والزجر، فإن الشيء يطلق على الشيء الآخر بنوع شبه (يعني أدنى مناسبة)، ولا يقتضي حقيقةَ الحكم عند التفصيل. كما يقول الشخص لأجنبي: أنت أخي، أو ولدي، على سبيل التقرب والإكرام، ثم لا يرثه إذا مات. وحجة الجمهور الذين لم يقولوا بتكفير المتأولين أنه قد ثبت عصمة دمائهم وأموالهم بقولهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولم يثبت لنا أن الخطأ في التأويل كفر.
ولذلك لما سئل سيدنا علي رضي الله عنه عن الخوارج: أكفار هم؟ فقال: لا، إنهم من الكفر فروا، فقيل: أمنافقون هم؟ فقال: لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، وهؤلاء يذكرون الله كثيرًا، فقيل: أي شيء هم؟ فقال: قوم أصابتهم فتنة فعموا وصموا. قال الخطابي: إنما لم يجعلْهم كفارًا لأنهم تعرضوا لضربٍ من التأويل.
ومثل هذا  ينقل عن الإمام الأشعري، فإنه لما حضرته الوفاة قال بعد أن جمع أصحابه: اشهدوا على أنني لا أكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، لأنني رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد، والإسلام يشملهم ويعمهم.
وكذلك فإن الماتريدية لا يكفّرون أحدًا بذنب، ولا ينفون أحدًا من الإيمان، ويرون أن محلّ الإيمان هو القلب، أما محل الطاعات فهو الجوارح، بتعبير آخر: يحدثان في محلّين مختلفين تمامًا، ولذلك لا ينفي أحدهما الآخر.
وهذا ينقلنا إلى الوقفة الثالثة التي أريد أن أقف عندها، وهي العلاقة بين فعل القلب وفعل الجوارح من خلال الإيمان، وقد أحكم بيان تلك العلاقة الإمام الأشعري بقوله: "الإيمان هو التصديق بالقلب وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه، فمن صدّق بالقلب، أي أقر بوحدانية الله تعالى واعترف بالرسل تصديقًا لهم فيما جاؤوا به من عند الله تعالى بالقلب، صح إيمانه". لقد أدرك المؤلف في الفصل السابع من الكتاب الذي هو: "الإيمان بمعنى التصديق"، أن هذا القول الذي نقله الشهرستاني عن الأشعري يجمع بين قولين نُقلا عن الأشعري حول الإيمان في الإبانة واللمع، توهم المؤلف اختلافهما بداية، غير أن في هذا القول الجامع إعطاء كل واحد من العناصر الثلاثة للإيمان، وهي التصديق والقول والعمل، محله الصحيح. فقد جاء في الإبانة قوله: "نزعم أن الإسلام أوسع من مفهوم الإيمان، وليس كل إسلام إيمانًا، وأن الإيمان قول وعمل، وقابل للزيادة والنقصان"، وجاء في اللمع: "الإيمان تصديق بالله". أقول إن الإمام الأشعري أراد فيما نقل عنه أولا أن يرد على المخالفين، كما فعل عندما قال: الوجود عين الموجود، فما أراد إلا أن يرد على المخالفين من المعتزلة الذين يرون أن للأشياء تقرر في الخارج قبل وجودها. وواضح أنه في المرة الثانية أراد تعريف حقيقة الإيمان، دون ذكر مستلزماته، ويدلنا على ذلك قوله المتقدم الذي جمع بين القولين.
وفي قوله السابق في الإبانة بأن الإيمان يزيد وينقص اختلاف مشهور، بين من قال: لا يزيد ولا ينقص، كالإمام أبي حنيفة، وشاهده قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)، ومن قال بأنه يزيد وينقص، وشاهده قوله تعالى: (ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم)، فأحب أن أشير هنا إلى جمعٍ جميلٍ بين القولين ذكره العلماء، فقالوا: الإيمان إيمانان، إيمان بالله، وهو أصل، وهو الاعتقاد والإقرار، وهذا لا يزيد ولا ينقص، وإيمان لله، وهو فرع، وهو الطاعات كلها، وهو الذي يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.  
ونقطة أخرى في قول الإمام الأشعري المتقدم أود الإشارة إليها، وهي قوله: "نزعم أن الإسلام أوسع من مفهوم الإيمان، وليس كل إسلام إيمانًا"، فأقول: لما كان الإسلام استسلام وانقياد، وبعض الانقياد انقياد القلب واستسلامه، وهو الإيمان، كان الإيمان جزءًا من الإسلام، والإسلام أعم. وهذا يوافق جواب النبي ، حين سئل أي الإسلام أفضل، فقال: الإيمان.
خاتمة: أخيرًا فإن مثل هذه الترجمات لأمثال هؤلاء الأعلام من المؤلفين لها أهميتها في أن يطلع العرب على إبداعات غيرهم من شرق أو غرب في معالجة قضايا فكرية وثقافية عربية إسلامية. وقد كان هذا دافعا مهما لدى مترجم الكتاب الأستاذ الدكتور عيسى العاكوب للقيام بمثل هذا العمل. وبعد الاطلاع على الكتاب نضم صوتنا إلى صوت الأستاذ المترجم الذي يَعُدّ مؤلفَ الكتاب من المعاصرين الذين يؤسسون لبناء أرضية معرفية جيدة لقراءة القرآن الكريم والثقافة التي أشاعها، قراءةً واعيةً عميقةً على قدر من المنهجية العلمية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين