تَعَرَّفْ على حبيبك صلى الله عليه وسلم

عناصر المادة

1- محبته شرط الإيمان 2- الاسم على المسمى 3- بشرٌ ليس كغيره من البشر 4- مجمع الفضائل والمكرمات

1- محبته شرط الإيمان

بين الحين والآخر لابد للمسلم من أن يتفقد قلبه الذي أراد الله تعالى له أن يكون مفعماً بالإيمان القويم والحب الصادق، ولكنْ أيُّ حبٍّ ذلكم هو الحب؟ هو الحب الذي يعينُهُ ويثبِّتُهُ على نهج الاستقامة، إنه حبُّ النبيِّ المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، ذلك الحبُّ الذي يُعبِّرُ عن صدق الإيمان، ويقودُ إلى الطاعة والانقياد، وينتهي بالإنسان المؤمن إلى رضوان الله وسعادة الدنيا والآخرة. 

ولطالما أدرك المؤمنُ الواعي بعقله وقلبه أنه لا بد من تعميق المعرفة بمن وجبت محبته، وكانت شرطَ الإيمان، من أجل ذلك كان لزاماً على المؤمن الواعي أن يزدادَ معرفةً برسوله صلى الله عليه وسلم لتُفتح أمامَهُ سبلُ الوقوفِ على جانبٍ مضيءٍ من تلك الشخصية الجامعة لمعاني الإيمان والخيرِ، المشتملةِ على صورِ الكمالِ البشريِ، التي تجلَّتْ واضحةً في سيرة هذا النبي الكريم.

المعرفةُ سبيلُ القربِ، وإنَّ المؤمنَ ليحتاجُ بحقٍ إلى أن يكون قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قريباً من الكتاب الكريم الذي أُنزل عليه، وعلى صلة دائمة وثيقة ليواجه التحديات الكبرى التي يحاول الشانؤون أن يثيروها، ولن تجد أقوى من العلم وأثبت من المعرفة.

فحين نحاول أنْ نقرأ أو نتكلَّمَ عن أوصاف هذا الأسوة، نتكلم عن معصومٍ شَرَحَ اللهُ صدرَهُ ووضَعَ عنه وزرَهُ، ورفَعَ له ذكرَهُ؛ نزل عليه الوحي، وهَبَطَ عليه جبريلُ، ووصل سِدرةَ المنتهى، له الشفاعةُ الكبرى، والمنزلةُ العظمى، والحوضُ المورودُ، والمقامُ المحمودُ، واللواءُ المعقودُ؛ نذكُرُهُ كلما لاح ذكرُهُ تعبُّداً لله جل وعلا، نصلي فنأتسي به، قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي). [ 1 ]

ونحجّ فنذكُرُهُ لأنه يقول: (لتأخذوا عني مناسككم). [ 2 ]

وفي كلِّ طرفةِ عينٍ نتبع هديه ونلتزمه، لأنه يقول: (من رغب عن سنتي فليس مني). [ 3 ]

وفي كل شأنٍ نجد فيه الأسوة والقدوة، لأن الله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].

2- الاسم على المسمى

محمد صلى الله عليه وسلم، الاسمُ على المسمّى، جَمَعَ المحامِدَ، وحاز المكارمَ، واستولى على القيم، وتفرّد بالمثلِ، وتميّز بالريادة. 

محمودٌ عند الله لأنه رسولُهُ المعصومُ، ونبيُّهُ الخاتِمُ، وعبدُهُ الصالحُ وصفوتُهُ مِن خلقه، وخليلُهُ مِن أهلِ الأرضِ.

محمودٌ عند الناسِ لأنه القريبُ من القلوب، حبيبٌ إلى النفوس، رحمةٌ مهداةٌ، ونعمةٌ مسداةٌ، مباركٌ أينما كان، محفوفٌ بالعناية أينما وُجِدَ، محاطٌ بالتقدير أينما حَلَّ وارتحَلَ، حُمِدَتْ طبائعُهُ لأنها هُذّبت بالوحي، وشَرُفَتْ طباعُهُ لأنها صُقِلَتْ بالنبوة، فالله محمودٌ ورسولُهُ محمدٌ:

وشَقَّ له مِنِ اسمِهِ ليُجِلَّهُ فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمّد

صاحبُ الحوضِ المورودِ، واللواءِ المعقودِ، والمقامِ المحمودِ؛ صاحبُ الغرُّةِ والتحجيلِ، المذكورُ في التوراة والإنجيل، المؤيّدُ بجبريل، وهو خَيارٌ مِن خَيار، إلى نسبه يعودُ كلُّ مختارٍ، آباؤه ساداتُ الناسِ، وأجدادُهُ رؤوسُ القبائلِ، جمعوا المكارمَ كابراً عن كابٍ، واستولوا على معالي الأمور.

اختار اللهُ له مِن بقاعِ العالمِ ومن بين أصقاعها أحبَّ البلادِ إليه سبحانه، البلدَ الحرامَ، ولد في مكة حيث صلى الأنبياءُ، وتهجَّدَ المرسلون، وهَبَطَ الوحيُ، وطَلَعَ النور، وأشرقت الرسالة، وسطعت النبوةُ، وانبلَجَ فجرُ البعثةِ، وحيثُ البيتُ العتيقُ، والعهدُ الوثيقُ، والحبُّ العميقُ؛ فمكةُ مسقِطُ رأسِ المعصومِ، وفيها مهدُ طفولتِهِ، ومعاهِدُ شبابِهِ، ومراتِعُ فتوّتِهِ، ورياضُ أنسِهِ. 

في مكةَ صَنَعَ ملحمتَهُ الكبرى، وبَثَّ دعوتَهُ العظمى، وأَرسَلَ للعالمين خطابَهُ الحارَّ الصادقَ، وبَعَثَ لأهل الأرض رسالتَهُ المشرقةَ الساطعةَ، حتى إنه لما أُخرِجَ من مكةَ ودَّعَها وداعَ الأوفياءِ، وفارَقَها وما كادَ يتحمّلُ هذا الفراقَ: (اللهُ يشهدُ أنكِ أحبُّ البقاعِ إلى قلبي، ولولا أنّ أهلَكِ أخرجوني ما خرجتُ).

3- بشرٌ ليس كغيره من البشر

هو طفلٌ لكن لا كالأطفال، عينُ الرعايةِ تلاحِظُهُ، ويدُ الحفظِ تعاونُهُ، وأغصانُ الولايةِ تُظلِّلُهُ، فهو هالَةُ النورِ بين الأطفال. 

حَفِظَهُ اللهُ من الرعونةِ ومِنْ كلِّ خُلُقٍ رديءٍ، لأنه مرشَّحٌ لإصلاح العالم، مُهَيَأٌ لإسعاد البشريةِ، مُعَدٌّ بعنايةٍ لإخراجِ الناسِ من الظلمات إلى النور. 

فهو الرجلُ لكنِ النبيُّ، والإنسانُ لكنِ الرسولُ، والعبدُ لكنِ المعصومُ، والبشرُ لكنِ الموحى إليه0 

صالحٌ مصلِحٌ، هادٍ مهديٌّ، معه كتابٌ وسنةٌ، ونورٌ وهدى، وعلمٌ نافعٌ وعملٌ صالحٌ، فهو لصلاح الدنيا والآخرة، ولسعادة الروح والجسد.

أما علمُهُ فإنه ليس عالماً فحسب، بل يُعلِّمُ بإذن الله العلماءَ، ويُفقِهُ الفقهاءَ، ويُرشِدُ الخطباءَ، ويَهدي الحكماءَ، ويَدُلُّ الناسَ إلى الصواب: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].

وكلُّهم مِنْ رسولِ اللهِ مُلتَمِسٌ غَرفاً من البحرِ أو رَشْفاً من الديم

لم يكنْ مَلِكاً يبسُطُ سلطانَهُ وينشُرُ جنودَهُ وأعوانَهُ، بل إمامٌ معصومٌ ونبيٌّ مرسلٌ، وبشيرٌ ونذيرٌ لكلِّ ملكٍ ومملوكٍ، وحرٍّ وعبدٍ، وغنيٍّ وفقيٍ، وأبيضَ وأسودَ، وعربيٍّ وعجميٍّ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّارَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

ويقول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يَسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديٌ ولا نصرانيٌ ثم يموتُ ولم يؤمنْ بالذي أُرسِلْتُ به إلا كان مِن أصحاب النار). [ 4 ]

وأما شبابُهُ، فهو زينةُ الشبابِ وجمالُ الفتيانِ، عفةً ومروءةً وعقلاً وأمانةً وفصاحةً؛ لم يكن يَكذِبُ كذبةً واحدةً، ولم تُعْلَمْ له عثرةٌ واحدةٌ ولا زلةٌ ولا منقصةٌ، فهو طاهرُ الظاهرِ والباطنِ، زكيُّ السرِّ والعلنِ.

لم يستطع أعداؤه حفظَ زلةٍ عليه مع شدةِ عداوتهم وعظيمِ مكرِهِمْ وضراوةِ حقدهم، بل لم يعثروا في ملفِّ خُلُقِهِ الكريمِ على ما يعيبُ، بل وجدوا كلَّ ما غاظهم من نُبْلِ الهمةِ ونظافةِ السجلِّ، وطُهْرٍ في السيرة، وجدوا الصدقَ الذي يباهي سَناءَ الشمسِ، فهو بنفس الغاية في كلِّ خُلُقٍ شريفٍ، وفي كلِّ مذهبٍ عفيفٍ؛ فكان في عنفوان شبابه مستودعَ الأماناتِ، ومردَّ الآراءِ ومرجعَ المحاكماتِ، ومضرِبَ المثلِ في البرّ والسموّ والرشد والفصاحة: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.

4- مجمع الفضائل والمكرمات

اللهُ هو الذي أدّبه فأحسن تأديبه، فهو أحسنُ الناسِ خُلُقاً، وأسدُّهم قولاً، وأمثلُهم طريقةً، وأصدقُهم خَبَراً، وأعدلُهم حُكماً، وأطهرُهم سريرةً، وأنقاهم سيرةً، وأفضلُهم سجايا، وأجودُهم يداً، وأسمحُهم خاطراً، وأصفاهم صَدراً، وأتقاهم لربه، وأخشاهم لمولاه، وأعلمُهم بالأمة، وأوصلُهم رحِماً، وأزكاهم منبتاً، وأشجعُهم قلباً، وأثبتُهم جناناً، وأمضاهم حُجةً، وخيرُهُم نَفَساً ونسباً وخُلُقاً وديناً.

فهو جميلُ الصفاتِ مُشرِقُ المحيّا، قريبٌ من القلوب، حبيبٌ إلى الأرواح، سهلُ الخليقةِ، مباركُ الحالِ، تعلوه مهابةٌ، وترافِقُهُ جَلالةٌ؛ على وجهه نورُ الرسالةِ، وعلى ثَغرِهِ بسمةُ المحبةِ، حيُّ القلبِ، عظيمُ الفطنةِ، سديدُ الرأيِ، رَيّانُ المشاعرِ بالخير، يَسعَدُ به جليسُهُ وينعَمُ به رفيقُهُ، ويرتاحُ له صاحبُهُ، يُحِبّ الفألَ ويكرَهُ الطيرةَ، يعفو ويصفَحُ، ويسخو ويَمنَحُ، أجودُ من الريح المرسلة، وأكرمُ من الغيث الهاطل، وأبهى من البدر، وسِعَ الناسَ بأخلاقه وطَوَّقَ الرجالَ بكرمه، وأَسعَدَ البشريةَ بدعوته، مَن رآه بديهةً هابَهُ، ومن خالطَهُ أحبَّهُ واصطفاه؛ كلامُهُ يأخُذُ بالقلوب، وسجاياه تأسِرُ الأرواحَ.

ثبّتَ اللهُ قلبَهُ فلا يَزيغُ، وسدَّدَ كلامَهُ فلا يَجْهَلُ، وحَفِظَ عينَهُ فلا تخونُ، وحَصّنَ لسانَهُ فلا يَزِلُّ، ورعى دينَهُ فلا يَضِلُّ، وتولى أمرَهُ فلا يَضيعُ، فهو محفوظٌ مباركٌ ميمونٌ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159].

يقول: (إني أتقاكم وأعلمكم بالله أنا). [ 5 ]

ويقول: (خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيرُكم لأهله). [ 6 ]

ويروى عنه أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). [ 7 ]

فسبحان من اجتباه واصطفاه وتولاه وحماه ورعاه وكفاه، ومن كل بلاء حسن أبلاه.

تمت الاستفادة في هذه الخطبة من كتاب "محمد كأنك تراه" للشيخ عائض القرني.

1 - البخاري: 631

2 - مسلم: 1297

3 - البخاري: 5063 ومسلم: 1401

4 - أخرجه مسلم

5 - أخرجه البخاري

6 - أخرجه الترمذي 3895

7 - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 20571

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين