حملة

هشام منور


  جاء قرار الحكومة السودانيَّة الأخير بطرْدِ عددٍ من منظَّمات الإغاثة الإنسانيَّة العاملة في دارفور، ليسلِّط الضَّوء على ماهيَّة هذه المنظَّمات وعملِها، والدَّور الذي تلعبه في أزْمة دارفور المستفحِلة.
 ففيما اعتبر الغربُ قرارَ السودان طردَ عددٍ من تلك المنظمات بمثابة إجْراء "انتقامي"، كردٍّ على إصدار قرار توقيفِ الرَّئيس البشير، وأنَّ الصراع السياسي القائم بين السودان والغرْب يَجب ألاَّ ينعكِس على جهود المنظَّمات الإنسانيَّة غير الحكوميَّة، في معْظمها، دافعَ السودان عن قرارِه بامتلاكِه لوثائقَ وملفَّات تُثْبِت تورُّط هذه المنظَّمات، بأعْمال تخرج عن نطاق عملِها "الإنساني" الإغاثي المفترض.
 وإذا كانت قضيَّة دارفور قد احتلَّت مساحة هامَّة على صعيد الاهتِمام العالمي، وبالذَّات في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، فإنَّ الفضل في ذلك يعودُ، بعد الأطْماع الغربيَّة في ثروات الإقليم والسودان بوجْهٍ عام، إلى الدَّور الذي لعبته منظَّمات غير حكوميَّة غربية في تسليط الضَّوء على الإقليم الذي كان حتَّى فترة قريبة مجهولاً، حتَّى بالنسبة لكثير من العرب والمسلمين، فتحوَّلت قضيَّة دارفور إلى واحدةٍ من القضايا المهمَّة، التي تَنَافس مرشَّحو الرِّئاسة في الانتِخابات الأمريكيَّة الأخيرة على تأكيد استِعْدادهم للتصدِّي لها ومعالجتِها، ولعلَّ واحدةً من أهمِّ المنظَّمات التي سعَتْ لوضع أزْمة دارفور على الأجِندة السياسيَّة في الولايات المتَّحدة "حملة أنقِذوا دارفور".
 فقد أُنشِئَتْ حَملة إنقاذ دارفور كتحالُف بين عددٍ من المنظَّمات الحقوقيَّة والسياسيَّة والدينيَّة خِلال مؤتمر دارفور الطارئ، الذي عُقِد في مدينة نيويورك منتصف عام 2004، والذي أُقيم بجامعة مدينة نيويورك، وكانت الجهة القائمة على إعداده وتنظيمه والدَّعوة إليه هو متحفَ الهولوكوست التذْكاري في الولايات المتَّحدة، ومنظَّمة اليهود الأمريكيِّين للخدمة العالميَّة، الأمر الذي اعْتُبر على أنَّ الحملة جاءت بمبادرة خاصَّة من الأقلِّيَّة اليهوديَّة في الولايات المتَّحدة، للاهتِمام بصراعٍ ضحاياه من المسلمين، وفي بلد عربي مسلم؛ ممَّا أثار الشُّكوك حوْل دوافع تكوين هذه الحمْلة.
 وتضمُّ حملة "أنقذوا دارفور" أكْثر من 180 منظَّمة دينيَّة وسياسيَّة وحقوقيَّة، وتجاوز عدد أعضائِها 130 مليون شخص من جميع الجنسيَّات، وتعمل الحملة في مجال الضَّغط السِّياسي من خِلال التعاوُن مع أعضاء الكونجرس، والتقت العديد من السياسيِّين العرب والأفارقة والأوروبيِّين، لشَرْح ما تسمِّيه "أبعاد القضيَّة" وضرورة التحرُّك إزاءها، كما أنشأت الحمْلة اتِّحاد الجمعيَّات من أجْل إنقاذ دارفور، وهو إطار تنظيمي يَجمع أكثر من 200 جمعيَّة تعمل في الولايات المتَّحدة، وتهدف إلى وقف أعْمال "التَّطهير العرقي" في دارفور؛ بغية تَحقيق أجندتِها الخاصَّة والمتمثِّلة في إنْهاء العنف ضدَّ المدنيِّين في دارفور، وتَسْهيل وصول المساعدات الإنسانيَّة إلى الإقليم، وتَهْيِئة الأوْضاع لعوْدة اللاَّجئين، وإحْداث تنمية مستدامة في دارفور، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات التي حصلت في دارفور.
 وقامت حَملة "أنقذوا دارفور" بعددٍ من الحملات الدِّعائيَّة النَّاجِحة، منها حملة "مليون صوت من أجل دارفور" عام 2006 لجمع مليون بطاقة بريديَّة من جَميع أنحاء الولايات المتَّحدة، وإرسالها إلى الرَّئيس بوش؛ بهدف الضَّغط عليه لتشكيل قوَّة متعدِّدة الجنسيات أكبر من تلك الموجودة في دارفور، وحشدت الحملة مائَة ألف من أنصارِها أمام الكونجرس في أبريل 2006 للدَّعوة إلى إنْهاء "سياسة التطهير العرقي" في دارفور، وقامت بتنظيم 41 مسيرة في 41 دولة أخرى، كما سعت لحثِّ الإدارة الأمريكيَّة على زيادة ضغوطِها على الحكومة الصينيَّة لوقْف دعمها للنظام السوداني، عبْر إقْناع الرَّئيس السابق (بوش) بالعدول عن قراره بحضور افتتاح أولمبياد (بكين).
 ونَجحت حملة "أنقذوا دارفور" في إبْقاء القضيَّة على السَّاحة الإعلاميَّة وأمام الرَّأي العام، وصرَّح نائب الرَّئيس الأمريكي (بايدن) عام 2007 عندما كان نائبًا في مَجلِس الشيوخ أنَّ جهود الحملة للضَّغط على الإدارة والكونجرس، وإبقاء قضية دارفور في الصدارة - كان لها تأثير كبير.
 وعلى الرَّغم من النَّجاح الَّذي عرفته حملة "أنقذوا دارفور" في تصْعيد الاهتِمام الرَّسْمي والشَّعبي بالأزْمة الدَّائرة على الإقليم المنكوب، إلاَّ أنَّ أسلوب عمل الحملة قد عرَّضها لانتقادات شديدة، خاصَّة من قِبل بقيَّة منظَّمات الإغاثة الأخرى العاملة في النطاق نفسه، فرغْم الملايين الخمسة عشر التي جمعتْها من التبرُّعات عام 2006، إلاَّ أنَّ أيًّا من تلك الأموال لم يذْهَب إلى دارفور، بل توجَّه للإنفاق على حَملاتِها الإعلاميَّة الكبيرة، كما أنَّها تعاني من الفساد المالي والإداري، الأمر الذي دفع المدير التَّنفيذي للحملة (دافيد روبنشتاين) لتقديم استقالتِه عام 2007.
كما أنَّ أسلوب وإستراتيجيَّة الحملة، المنصبَّ على دفع الأنظِمة والحكومات الغربيَّة للتشدُّد إزاء النظام في السودان - دفَع بقيَّة منظمات الإغاثة إلى انتِقادها، خاصَّة بعد طرحها توسيع حجم العقوبات على السودان ليشْمل حظر منطقة الطيران فوق إقليم دارفور، الأمْر الذي يهدِّد جهود بقيَّة منظَّمات الإغاثة، التي تقدِّم مساعداتِها للمتضرِّرين في الإقليم جوًّا عبر الطَّائرات، فضلاً عن أنَّ نهج حملة "أنقذوا دارفور" يركِّز على الأزْمة و"إشعال" أوارها وتأجيجِه، بدل التَّركيز على إيجاد حلٍّ عادل ومُرْضٍ للأطراف المتنازعة؛ ممَّا يهدِّد عمل المنظَّمات الإنسانيَّة في الإقليم، وسعْيها لتصوير النزاع في الإقليم على أنَّه قضيَّة اضطهاد عرقي ضدَّ الأفارقة من قبل "قبائل الجنجويد"، متجاهِلة انتِهاكات المتمرِّدين في الاتِّجاه المعاكس، رغْمَ أنَّ غالبيَّة سكَّان الإقليم هم من العرب والمسلمين.
بين ظروف النَّشأة المشبوهة على يدِ اللوبي الصهْيوني في الولايات المتَّحدة، وأسلوب وإستراتيجيَّة العمل الملتبسة والقائمة على تأجيج عوامل الصِّراع وظروفه وتفعيله على المستوى الإعلامي، دون القيام بأيِّ عمل إغاثي على المستوى العملي - لا تزال حملة "أنقذوا دارفور" تُسْهِم في تشْديد الخناق على السودان لصالح مآرب وغايات ومطامع إسرائيليَّة وغربيَّة في ثروات الإقليم المضطرب، فهل تنجح الحمْلة في إفْساد شرعيَّة عمل غيرِها من منظَّمات الإغاثة الإنسانيَّة، ومنعها من ممارسة عملها بذريعة التَّشابه في القضيَّة ومجال العمل؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين