هل كانت الأوطان إلا راحة للمتعبين

تأبى النفس البشريَّة أن تدرك معنى الأشياء ودرجتها من الأهميَّة ما لم تفقدها وتكتوي بالحاجة إليها. فلوعة النفس تجاه المفقودات هي الرابطة بين الطرفين التي لا جهالة بعدها.

وإنَّ النفسَ تستصعب فقدان الأشياء التي تعوَّدت عليها حتى وإن كان ليسَ لفقدانها الأثر الكبير، وكلما ازدادت متانة العلاقة بينها وبين المفقود تضاعف اعتصار داخلها المؤذي، وتسارع سكونها العميق بالتشظي الموجع الذي لا هدوء معه إلا والمفقود بينَ أحضانها.

والنفس لا تبلغ من التشظي والإحساس بولاداتِ الغُرْبة المتعاقبةِ كما يحدث عندما يكون مفقودها هو الوطن، فراقُه لذاتِه وفراق الناس والأحداث التي تقوم به، فراق الاغتسال من ماء سمائه، والاكتساء بشمس نهاره، فراق الثقة بالنفسِ إذ تنسب نفسكَ إليه على أرضِه.

مهما تأقلم الإنسان في بلاد الغُرْبةِ يبقى كالضيفِ فيها، تربة جسدِه تشتاق لأصلِها كما تشتاق روحه لنصيفها، تلفحه الذكريات بحرارتِها فتقوم كرياته الحمراء بثورةٍ بعد ثورة، يريد العودة فلا يستطيع، فتستمرُّ الثورات وتتعالى الصيحات باطشة بعرشِ أمانه.

أن يفقد الإنسان الاختيار في معادلة عودته لوطنه يعني جمراتٍ إضافيَّةً تُنِيخ رحالَها أمام منفذ قلبه للحياة، يلاحق تصريحات الساسة التي تتعلَّق بمستقبله، فلا يفهم عنها إلا طلاسم يسهل على الإنسانِ أن يعيد صياغتها عددًا غير متناهٍ من المرات لكن دون أمل في فهم شيء منها.

ينخرط في الحياة التي بين يديه لعله ينسى فيفجأه حرمانٌ متعمَّد من مقام بسبب وطنه، لا يحزن على نفسِه المُساء إليها بقدر ما يحزَن على وطنه أنَّه لمْ يُقْدَر قدرَه، يرجع ينسى فتحوم الأصابع المهاجمة من حوله صوبه تذكِّره بأنَّه ليس من هنا وعليه أن يرحل.

يلومونه على عدم الرحيل وقد أذابته في خلوتِه إرادة الرحيل، فيزداد بعذلهم لوعة وطفولة، وتَتَكثَّر بانصراف وجوههم عنه غربته انحدارًا، فيُختزل مفهوم الذاتيَّة لديه في معنى الوطن ويئنُّ بحثًا عن السعي في الحياة بينَ جناحيه.

كيف لا وذاتيَّة المرء لا يرعاها مثل وطنه، تراه لا يفطِمُه عن حبلِه السري إلا لكي يحرِّضَه على الإنتاج، ولا يشعره بأمانه وعطف رابطته به إلا ليدفعه لكي يثبت للعالم أنَّه بعطائه كان من هذه الأرض ولها يعمل؛ والله من وراءَ كلِّ قصد.

يريد العودةَ لكنَّه في تردُّد. يخاف أن يرجع فلا يرى ذلك الحضن الرؤوم الذي كان يتوقَّع انتظارَه. يخاف أن يرجع فتتنكَّر له وجوه الأقربين بعد أن فعل الأبعدون. يخاف من أولئك الذين سوَّدوا وجهَ الوطن في وجهه بقاءهم على عهدهم القديم، واستمرارهم في كفران أخوَّة الأرض والضمير. فهل سيرجع إلى وطن أم إلى حبس ضخم يسمُّونه وطنًا؟ هل سيعود إلى الحياة أم بعودته سيخرج منها؟

كلُّ تلك الأشياء تتهافت على عقلِه كلَّ مساء فيحلم ويُكْثِر من الأحلام، لكنْ وفي كلِّها يكون استيقاظه على عَزْم واحد لا يتغيَّر؛ عَزْمُه أن سيرجِع إلى جذوره الأولى حتمًا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين