لماذا لا نستمتع بالعبادة ؟ 

خلق الله عز وجل الإنسان من بدن وروح ،

ولما كان البدن أرضيا سفليا = جعل الله عز وجل غذاءه من جنس ماخلق منه ، فلا ينمو إلا بالأغذية النافعة له من الأطعمة والأشربة

وأما الروح ، فلما كانت علوية سماوية -إذ هي نفخة من الله-

قال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}=

كان غذاؤها سماويا علويا من جنس خلقها .

وهذا الغذاء هو: التقرب إلى الله، والأنس به ، والعكوف بالقلب عليه.

فمن رام السعادة بإشباع لذات بدنه وأهمل روحه = شقي وتألم .

قال تعالى: 

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً}

فإن الحياة الطيبة لا تحصل إلا بالإيمان والعمل الصالح 

قال تعالى :

{مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ }

ولا يغرنك ما تراه من فرح ظاهر على وجوه الفساق والفجار ،

فإنه فرح مصنوع لا حقيقة له؛

ولهذا يفزعون إلى الخمور والمخدرات لتنسيهم آلام أرواحهم ، وتأوهات قلوبهم .

وكثير منهم لا يزال يعاوده الألم - مع غرقه في اللذات البدنية- حتى يتخلص من نفسه = فينتحر .

فإن أردت دليلا من القرآن فاقرأ قوله تعالى :

{فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ }

فإن قيل : إذا كان نعيم الروح كما ذكرت، فلماذا لا نلتذ بغذائها ،فنستروح للعبادة ونأنس بفعلها ونشتاق لتكرارها ؟ 

فالجواب :

أن الله سبحانه وتعالى جعل ارتباطا وثيقا بين البدن والروح، فإذا ثقل البدن بالغذاء والنفس بالشهوات = ثقلت الروح ، وصعب قيادها ، وأعرضت عن غذائها ، ومالت إلى الدعة والكسل ؛ 

ولهذا كان من بين أسرار الصيام خفة البدن بالامتناع عن الطعام والشراب ، ومنع النفس عن الشهوات ،

فتخف الروح وتسبح في ملكوتها ، فيجد المرء في الصيام انطلاقا إلى الأعلى ، وتسهل العبادات عليه ، والإقبال بالقلب إلى الرب عز وجل .

ولهذا المعنى -والله أعلم- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل الصيام ويقول: " إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " .

والمراد- كما قرر ذلك ابن القيم رحمه الله- ما يفيضه الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم من لذة الأنس به، والشوق إليه ما يستغني به عن الطعام والشراب ،

فلما خف البدن بالبعد عن الغذاء والشهوات، وامتلأت الروح بمعرفة الله عز وجل = فاضت الروح على البدن ، وأثرت عليه فلم يعد بحاجة إلى طعام وشراب .

وكذلك بالعكس إذا ثقل البدن = ثقل غذاء الروح ، فبينهما تناسب كما ترى .

ولعله لأجل هذا أيضا كانت الملائكة لا تأكل ولا تشرب فتعبد الله لا تفتر عن عبادته ولا تسأم .

وأيضا مما ينبغي علمه أن أرض القلب إذا امتلأت بالشهوات = أعاقت بذرة الروح أن تخرج ، وإن خرجت كانت ضعيفة، كما أن الأرض إذا امتلأت بالحشائش لم يخرج زرعها مستقيما .

والخلاصة أنك إذا أردت نعيم روحك فطهر أرض قلبك ، واستعن على نعيم الروح بالصيام والذكر تشفَ نفسك ، وتسبح في ملكوت ربك .

والله يعيننا وإياكم على العمل بالعلم ، وأن يفهمنا عنه ويرزقنا لذة الأنس به والعمل له .

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين