جهود الإمام عبد القادر الجيلاني وتلامذتهِ في الإصلاح السُّني وبناء المدارس -3-

المبحث الثالث

مفهوم التصوف عند الشيخ الجيلاني

قال الجيلاني في معرِض حديثه عن التصوف:(التصوف هو الصدق مع الحق وحسن الخُلقُ مع الخَلْق) (1) ، وعرّفه أيضاً بقوله: (هو تقوى الله وطاعته ولزوم ظاهر الشرع وسلامة الصدر وسخاء النفس وبشاشة الوجه وبذل الندى وكفّ الأذى وتحمّل الأذى والفقر وحفظ حُرمات المشايخ والعشرة مع الإخوان والنصيحة للأصاغر والأكابر وترك الخصومة والإرفاق، وملازمة الإيثار ومجانبة الادّخار وترك صحبة من ليس من طبقتهم والمعاونة في أمر الدين والدنيا).

يوضح الشيخ الجيلاني معالم التصوف الحقيقي، والذي لا يحيد عن منهج سلفنا الصالح مبينا ذلك في ثمان صفات هي: 1- السخاء 2- والرضى 3- والصبر 4- وسرعة الفهم بالإشارة 5- وصفاء النفس 6- واصطفاؤها، 7- والتأمل والتفكر في آيات الله في الكون والنفس ويسميها الصوفية السياحة، 8- وأخيرًا الفقر ويكون فيه العبد ذليلًا منكسرًا بين يدي ربه معتمدًا عليه مخلصًا في دعائه وتضرعه.

وهذه المعاني أو الصفات إذا تحققت في العبد بلغ مرحلة الاصطفاء كما يرى الشيخ الجيلاني، فالصوفي عنده (من صفاء النفس أو العبد الذي أصبح صافيًا من آفات النفس خاليًا من مذموماتها سالكًا لحميد مذاهبه ملازمًا للحقائق غير ساكن إلى أحد من الخلائق) (2) ؛ ولذلك وضع معنى اصطلاحيّا للصوفي بقوله: (الصوفيّ من صفا باطنه وظاهره بمتابعة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والصوفي الصادق في تصوفه يصفو قلبه عما سوى مولاه عز وجل، وهذا شيء لا يجيء بتغيير الخرق وتعفير الوجوه وجمع الأكتاف ولقلقة اللسان وحكايات الصالحين وتحريك الأصابع بالتسبيح والتهليل، وإنما يجيء بالصدق في طلب الحق عز وجل والزهد في الدنيا وإخراج الخلق من القلب وتجرّده عمّا سوى مولاه عز وجل) (3).

ومن هذه المعاني والمفاهيم وضع الشيخ الجيلاني كتابين يانعين ما تعين هما:(الغنية) و (فتوح الغيب)،واللذان كانا منهاجًا لمدرسة تربوية سعى من خلالها لتنقية التصوف من شوائب البدع والخرافات والشطحات البعيدة عن الكتاب والسنة وإظهار معدن التصوف الأصيل... فالفهم الصحيح ينتج عنه سلوك صحيح، ولا يكون هذا إلا من خلال تهذيب النفس وتنشئتها على الأخلاق الحميدة والعقيدة الصحيحة؛ لذا قرر الجيلاني على تلاميذه جملة من الآداب والواجبات التي تنقي النفس وتسمو بها إلى مراتب الصفاء الروحي والنفسي وهي: التمسك بالكتاب والسنة والتزامهما كمنهج عملي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق مع الله وإخلاص العمل له ومجاهدة النفس في سبيل مرضاته وصحبة الصالحين؛ لأن في صحبتهم حفظًا للنفس من التقصير في الطاعة، وترك أصحاب القيل والقال والابتعاد عن مجالسهم، والتحلّي والاتّصاف باليقين والكرم، فبهما تسمو النفس فلا تخشى قلة بعد عطاء وبذل، وتهذيب النفس عن طريق الجوع والحرمان فلا تُلبّى بكل ما تطلبه، وفي هذا يقول الشاعر: (والنفس راغبةٌ إذا رغّبتها ---- وإذا تردُّ إلى قليلٍ تقنعُ}

كما كان يأمر تلامذته بالابتعاد عن مجالس الشهرة كي لا يصل العُجبُ إلى النفس فيدخلها الهوى وحُب الظهور، وأن يتضرع الفرد منهم دائمًا إلى الله بأن يستره ويعينه على ترك الذنوب والمعاصي وأن يرزقهُ التوفيق والصلاح، ويأمرهم بالإيثار وهو أن يؤثِر المريد أقرانَه على نفسه فلا يتقدمهم في مجلس شيخ ولا في بيت عالم وأن يكرمهم قدر المستطاع، وعلى المريد أن يتعلم كظم الغيظ والمسارعة في الصفح والعفو، وتناسي إساءات الناس إليه ثم التحبب إليهم، كما أن من أدب العلم ملازمة الشيوخ ونيل الرضا والتودد إليهم... كما على كل منهم أن يعامل الناس على قاعدة الحب في الله والبغض فيه، يقول الشيخ الجيلاني موضّحًا ذلك: (إذا وجدت في قلبك بغض شخص أو حبَّه فاعرض أعماله على الكتاب والسنة، فإن كانت فيهما مبغوضة، فأبشر بموافقتك لله عز وجل ولرسوله، وإن كانت أعماله فيهما محبوبة وأنت تبغضه، فاعلم بأنك صاحب هوى تبغضه بهواك ظالمًا له ببغضك إيّاه وعاصيًا لله عز وجل ولرسوله مخالفًا لهما فتُبْ إلى الله عز وجل) (4).

هذا هو موقف الشيخ عبد القادر الجيلاني من التصوف ومفهومه ومقاصده، تصوف يسمو بالعبد إلى أعلى درجات العبودية لله موقنًا حقّ اليقين أنه لا معبود بحق سوى الله، ومترجمًا هذا بسلوكه مع نفسه ومع الناس ومع البيئة المحيطة به زاهدًا بمتاع الدنيا، وليس الزهد الذي يغيّب صاحبه عن هموم أمته والنظر في أحوالها فهذا الصوفي الزاهد يبقى واحدًا من أفراد الأمة يصيبه ما يصيب المسلمين، ولا يظن نفسه بمنأًى عمّا ينزل فيها من بلاء.

الحلقة الثانية هنا

المصدر: مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

======

(1) - ابن القيم: زاد المعاد، ج1، ص71.

(2) - الصلابي: عصر الدولة الزنكية، ص381.

(3) - الفتح الرباني، مجلس 25، ص90.

(4) - الجيلاني: فتوح الغيب، ص50.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين