لماذا لا يريد المظلوم السلام؟

لو أنك أخذتَ بيدِ طفلٍ ثمَّ اشتريتَ له ألذَّ الحلوى، وفي طريقِ العودةِ أخبرته أن ما فعلتماه يدعى مأساةً، فإنَّه سوف يعشق المأساةَ ويريدها، وعندما يصل إلى مسمعه لفظها فإنَّ هرمونات السعادة سوف تُنقذف في أنحاء جسده، وسوف يقفز على قدمٍ واحدةٍ طلباً لأن يحصلَ على قليلٍ منها أي على قليلٍ من الذهابِ لتذوق الحلوى.

ذلك أن الطفل أول نشأته لا يفهم الألفاظَ إلا من خلال المعنى الذي عاشَه معها، ومن خلال الحالة الشعورية التي كانت مستولية عليه عندما التقطت أذناه ذلك اللفظ، ومع الربط المتكرر ما بين الأمرين يتخزن التنبيه المشترك في عقله.

غير أن ذلك ليس مقتصراً على الأطفال؛ فالإنسان أيًّا كانَت مرحلته العمريَّة وحصيلته العلميَّة فإنَّه تبقى لديه القابليَّة لأن يعيش مع الألفاظ بغير معناها الأصلي، وبالتالي تَنبني لديه محاكمات عقليَّة غير صائبة. لكن كيف يحدث ذلك؟

قد يحدث ذلك باختيارِ الإنسان لنفسِه، تمامًا كحالِ مراهقٍ أفهمَ نفسَه أن السعادةَ هي جرعة مخدِّرات يُتَواظب على أخذها، أو أنَّه يحدث من خلالِ تضليل المحيط للإنسان، كرجلٍ فهمَ عن بعض الوعَّاظِ أن التواضعَ يعني الذلَّ، فلا تراه إلا يجلد نفسَه ويحتقرها، فهذا الشخص يريد تحقيق شيء جيد لنفسه والمتمثل في التواضع، ولكن لمَّا كان المعنى المرتبط بهذا المفهوم خاطئاً لديه انقلبتْ إرادةُ إصلاحِه إفسادًا.

وفي كلا الحالين ليست تكمن خطورة حقيقية، لأن جماعة الناس على دراية بهذه الأخطاء الفرديَّة وبهذا التحوير لمعاني الألفاظ، لكن الخطورة تكمن وبكل رعب في أن يهجم ذلك الزيغان في التعاطي مع الألفاظ على الجماعة كلها ويلتهم عقولهم واحداً تلوَ آخر في بلادة عقليَّة لهم وتصديق.

من ذلك، وهنا تتفاقم الفاجعة، ما يتعلق بالسلام، فهذه الكلمة التي تمثل أرقى معاني الإنسانيَّة تحولت عند البعض إلى مصدر قلق وخوف بعد أن كان من المفترض أن تكونَ مرتعًا للسكينة البشريَّة وروضًا لنبذ الخلافاتِ الفرديَّة والاستظلالِ بظلِّ الألفة، بل وصارَ البعض يتشاءم ويطلق الأَفؤُلَ السوداويَّة إذا ما طرقَتْ هذه اللفظة غشائي طبلِ أذنيه، أو حتَّى واحدًا منهما.

الأصل في مفهوم السلامِ الأمانُ، وهو إحساسُ الإنسان بأنه محميٌّ ومصانٌ عن الأخطار المعنوية والجسمانية التي قد تبغَتُه، وبأنَّ إنسانيته في مأمنٍ من أن يتعرَّض لها أحد بأذى دونَ ذنبٍ، وليسَ ذلك لأحد غير الإنسان ممن يدبُّ على الأرض.

في الحقيقةِ فإنَّ نفسَه بطبيعتها جبلَت على السلام وقامتْ به، لكنْ لمَّا كان لزامًا عليه في دنْياه أن يحتكَّ بغيرِه بحثًا عن المعيشة لكي يضمن البقاء؛ كان لا بدَّ من ضغوطات الحياة التي عكَّرت على النفس أمانَها، فتحوَّل سلام الإنسان من أساس إلى حالة وافدة على حياتِه، وبالتالي كان لا بدَّ من تصدر هذا المفهوم لتعاطيات البشر حول الحقوق الإنسيَّة.

هذا السلام المعنوي الأصيل هُمِّشَ للأسف، وصارَ المنظور السائد للسلام أنه حالة الحياة بعيدًا عن الحرب، والواقع أنَّ سِلْمَ الدولة على المستوى الخارجيِّ ما هو إلا نتيجةٌ لسلامها الداخلي الذي يتنعَّم به الأفراد وهو المَعنِيُّ الحقيقي بهذه الكلمة.

لم يتمَّ التعريج على أهمية المدنيَّة التي تسعى للعدالة في صناعة السلام الحقيقي وذلكَ أدَّى إلى كوارث اجتماعيَّة رهيبة.

من خلال هذا الإلغاء الجماعي لمعنى السلام الأصلي صودرت الحريات من الإنسان تحت اسم الحفاظ على السلام وعانى الإنسان من التشتت الداخلي غير المفهوم.

لقد أوهمَه الديكتاتوريون أن الأمان لا يأتي إلا إذا قبلَ بالذل والاضطهاد وتمت مصادرة مواهبِه ووأدُها، وكان لا بدَّ وهو في موقف الضعف أن يقبل بذلك التعريف الخاطئ للفظ السلام ويبدأ بتقديم التنازلات التي سوَّدت عليه حياته شيئاً فشيئاً.

لم يمضِ وقت طويل لكي ينفرَ هذا المستعبَد باسم السلام من السلام بعد أن حُطِّمت ذاتُه وأُلْغيَ تفرُّده، ولقدْ صار يبحث عن سلام يحميه من ذلك السلام الذي صنعه أعداء السلام.

كم تحتاج الإنسانيَّة إلى إعادة شرح لكثير من المصطلحات علَّها تُفْهم بالشكل الصحيح؟ كم يحتاج الإنسان لئلا يساقَ إلى الألم من خلالِ ألفاظٍ قد أُفرِغت من معناها؟ كم تحتاج المعمورةُ إلى أفعالٍ إصلاحيَّةٍ لا إلى مجرَّد كلماتٍ كماء السراب؟

نكتب الأمر ما نكتب، ونحن نشاهد الآلام لعلَّ في الغد القريب يبزغ فجرٌ حقيقيٌّ من السلام ليعمَّ البشرية جمعاء، فلنرتقب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين