التعليم في المناطق المحررة آلامٌ . . وآمال(4)

إذا كان التعليم الأساسيّ منقذًا للطلاّب والمجتمع من حالة الأميّة والجهل، فإنّ دَور التعليم العالي والمتوسّط لا يقلّ أهمّيّة عن غيره؛ حيث تظهر نتائجه من خلال دفع عجلة التطوّر في المجتمع بواسطة الكفاءات من الخريجين الذين ينهضون بسوق العمل، ويعملون على نهضة المجتمع من خلال الدّور الحقيقيّ لهم في البحث العلميّ.

ولذلك كان لزامًا على طلبة الجامعات السوريّة وكوادرها ألّا يتخلّفوا عن المشاركة في الحراك الثوريّ, إذ كانت لديهم أسبابهم الإضافيّة الخاصّة؛ ألا وهي الثورة على الفساد الراسخ في التعليم الجامعيّ والمناهج النظريّة البالية ودور الرشوة والوساطة في تحديد النجاح وتزوير النتائج والتلاعب في المعدلات، أضف إلى ذلك الفساد الإداريّ.

انطلق الناشطون في المجال التعليميّ لإيجاد الحلول فكانت انطلاقة المعاهد المتوسّطة لإعداد المدرسين في بداية عام 2014م، وأضحت الملجأ والملاذ للطلاب الذين حصلوا على الشهادة الثانوية في المناطق المحررة لأولِّ مرة عام 2013م، وتعدّ مرحلة التعليم المتوسّط بالغة الحساسية والأهمّيّة، فهي حجر الأساس في عمليّة اكتساب المهارات الضروريّة والمعرفة اللازمة للارتقاء بالمجتمع بشكلٍ عامٍّ والتعليمِ بشكلٍ خاصٍّ، فهذه المرحلة تمتاز بأنّها قادرة على رفع التميّز الشخصيّ والمهنيّ لتنمية المجتمع، وكذلك مدّة الدراسة فيها سنتان ممّا يساهم في رفد المجتمع بالكوادر المؤهّلة خلال فترةٍ وجيزةٍ.

بدأ المختصّون بوضع استراتيجيّة تهدف لتركيز الموارد والجهود للعمل تحقيق قفزة نوعيّةٍ في معايير التعليم للمعاهد المتوسّطة، وكان التركيز على الأهداف الآتية:

- تأهيل كادر تدريسيّ تعليميّ قادرٍ على تنشئةِ جيلٍ واعٍ، وسدّ ثغرة غياب المعلم بسبب ظروف الحرب.

- استيعاب الطلاب والطالبات الحاصلين على الشهادة الثانويّة العامّة والشرعيّة في المناطق المحرّرة.

- الحفاظ على الكفاءات العلميّة والتدريسيّة من الهجرة وتأمين فرص عمل لهم.

اعتمدت المعاهد في بداية انطلاقتها على دعم المجالس المحليّة ووجهاء المجتمع، وبعد ذلك تمّ الاتّفاق بين وزارة التربية وبعض المؤسسات الإنسانية من أجل دعم المعاهد وتقديم منح مالية مساعدة للكوادر الإدارية والتدريسية.

أشرفت الوزارة على المعاهد وبدأ العمل على إعداد النظام الداخلي والمناهج الدراسية؛ وأُقيمت من أجل ذلك العديد من ورشات العمل، وشُكّلت اللجان المختصة التي بدأت العمل على إعداد المناهج وتوحيدها في فروع المعاهد المنتشرة في المناطق المحررة، والبالغ عددها /21/ فرعًا في المحافظات ( حلب /8/، إدلب /4/، ريف دمشق /1/، حمص /3/، ريف اللاذقية /1/، درعا والقنيطرة /2/) وفي لبنان فرعان أيضًا.

اعتمدت المعاهد على نخبةٍ من أهل الخبرة في مجال التدريس من حملة الدكتوراه والماجستير والإجازات الاختصاصيّة، حيث بلغ عدد الكادر التدريسيّ في فروع المعاهد /400/محاضرًا ومدرّسًا، إضافةً إلى ما يقارب /200/ إداري من ذوي الخبرة الطويلة والكفاءة العالية في المجال الإداريّ والتوجيهيّ.

وتعتدّ المعاهد بجَودَةِ التعليم الذي اكتسبَهُ طلبتُها وخريجوها من خلال التزامها بضمان توفير بيئةٍ دراسيّةٍ تُشجّعُ التعليمَ وتُعزّز روحَ القيادة والمسؤوليّة الاجتماعيّة؛ لبناء القدرات وتطوير مهارات التعليم كونها سبيلًا مهمًّا لتحقيق أهداف المعاهد وغايتها التي أُنشئت من أجلها.

وقد وصل عدد الطلاب الذين التحقوا بالمعاهد المتوسّطة لإعداد المدرسين المنتشرة في المحافظات المحرّرة ومدنها / 6000 / طالب وطالبة, وتمّ تخريج الدفعة الأولى في العام الدراسي: 2015/2016. وبلغ عدد الخريجين /1062/ معلّمًا في كافة الاختصاصات وهي: (اللغة العربية - اللغة الإنكليزية - الرياضيات - معلم الصف - العلوم العامة - اللغة الفرنسية)، وقد كان لمعاهد التعليم الشرعي دور أساسي في رفد المدارس بمدرسي العلوم الإسلامية وسد نسبة كبيرة من حاجة المساجد إلى الأئمة والخطباء والمدرسين، ومن أشهر هذه المراكز الشرعية، معهد مكة الذي تشرف عليه رابطة العلماء السوريين، ومعهد الإمام النووي للعلوم الإسلامية ومجمع سلطان العلماء وغيرها.

التحق القسم الأكبر من خريجي المعاهد الاختصاصية بالمدارس بعد خضوعهم لمسابقات مديريّات التربية، فيما التحق القسم الآخر بجامعة حلب في المناطق المحرّرة، حيث صدر قرار بقبول الطلاب الخرّيجين في السنة الثالثة في الكليّات المماثلة لاختصاصهم.

تجربة جامعة حلب:

وبما يملك شعب بلدنا من وعيٍ بأهمّية التعليم عامّة والتعليم الجامعيّ خاصة استكمل دورَهُ الحضاريّ في افتتاح الجامعات في المناطق المحرّرة، حيث قامت وزارة التربية والتعليم في الحكومة السوريّة المؤقّتة بتشكيل لجنةٍ عليا لإدارة وتشغيل جامعة حلب في المناطق المحرّرة، وانطلق العام الدراسيّ الأوّل بتاريخ: 12/12/2015م, وبلغ عدد المسجلين قرابة / 2000/ طالبٍ وطالبةٍ وزّعوا على تسع كليّات وستة معاهد أهمّها كليّة الطبّ البشريّ والصيدلة وكليّات الهندسة والآداب والتربية، وكان العمل وفق نظام الوحدات الأوربيّ الحديث؛ حيث قامت الجامعة بفتح شعب وأقسام للكليات في المحافظات الأخرى، وتمّ الاعتماد على تدريس مناهج جامعة حلب لضمان الاعتراف؛ وذلك من خلال التواصل مع الدول التي أبرمت اتفاقيّات مع جامعة حلب قبل الثورة لإعطاء صفة الاعتباريّة كجامعةٍ مُنشأةٍ في المناطق المحرّرة.

وكذلك تُواصل الجامعةُ الحرصَ على توافر المعايير العالميّة للجامعات من خلال تجهيزها بالوسائل التعليميّة والمخابر التخصصيّة وغيرها.

ولم يقتصر الأمر على استقبال الطلاب المستجدّين, وإنما وُضعت خطّة لإكمال طلاّب الجامعة المنقطعين عن جامعاتهم من خلال مَنحَيَين, الأول: إكمال الطلاّب في الكليّات المفتتحة, والثاني: سيكون إكمالٌ لطلاّب السنوات الأخيرة من خلال دوراتٍ امتحانيّةٍ استثنائيّةٍ.

تجربة جامعة إدلب:

بعد تحرير إدلب في آذار 2015 بدأ العمل على استثمار الكليّات والمعاهد الموجودة في المحافظة لإطلاق عمليّة التعليم العالي, وفي شهر آب من العام نفسه أُطلق العمل في /25/ كلية ومعهد, منها كليات قديمة تمّ إعادة تفعيلها, ومنها كليات جديدة تمّ استحداثها, وأهمها: الصيدلة, والهندسة المدنيّة والميكانيكيّة, وكليّة الشريعة، وبلغ عدد الطلاب الملتحقين والمتابعين لدراستهم /5000/ طالب وطالبة.

ورغم الاعتماد على الأكاديميين المتخصصين من حملة الدكتوراه والماجستير في تدريس المقرّرات الجامعيّة, كانت المشكلة الكبرى والهاجس المؤرّق لدى الطلاب هو الاعتراف بالشهادة التي سيحصلون عليها.

تجربة جامعة الشام العالميّة:

أُنشئت جامعة الشام العالمية في ريف حلب الشمالي برعاية من منظمة /IHH/ التركية في عام 2016م, وقد تميَّزت الجامعة بالفروع الهندسيّة واستقبال الطلاب الذكور فقط, وبلغ عدد المسجّلين فيها /600/ طالب, حيث اعتمدت نظام المنح وتقديم المساعدة للطلاب المسجّلين لاستكمال تحصيلهم العلميّ، وتقدّم الجامعة السكن المجانيّ والطعام للطلاب بالإضافة للكتب الدراسيّة, كما يتمّ منح الطلاب الملتزمين بالدوام منحًا شهريةً تتراوح بين 100 و150 ليرة تركيّة.

وتضمّ الجامعة خمس كليّات: (الإدارة - الاقتصاد - العلوم السياسيّة - الشريعة والقانون - كليّة الهندسة والتي تتألف من أربعة أقسام: الهندسة المدنيّة - الهندسة المعلوماتيّة - الهندسة الكيميائيّة - الهندسة الفيزيائيّة).

تجربة الجامعات الخاصة:

يلاحظ المتابع لشؤون التعليم العالي في المحافظات المحرّرة انتشار عددٍ لا بأس به من الجامعات الخاصّة, وخاصّة في ريف إدلب ومنطقة درع الفرات, حيث تَستقبِلُ الطلابَ بأقساطٍ سنويّة مرتفعةٍ جدًّا بالنظر إلى الأوضاع الماديّة ودخل أبناء هذه المناطق، وتتراوح الأقساط بين /1000 و 2000 / دولار سنويًّا, وهذا ما جعل إقبالَ الطلاب عليها محدودًا, حيث لاقت إقبالًا لدى عددٍ من الطلبة ميسوري الحال خصوصًا.. ومن هذه الجامعات: (جامعة أكسفورد - جامعة الزهراء - جامعة إيبلا - جامعة روما - جامعة ماري - جامعة باشاك شهير).

وتتميّز هذه الجامعات فيما يخصّ تجهيز أبنيتها وأثاثها وتوفير الوسائل التعليميّة والمختبرات المناسبة ووسائل الشرح الإلكترونيّة والتجهيزات الصوتيّة التي تساعد في إيصال المعلومات، ولكنّ هذا التميّز قد لا يُعطيها التفوّق على الجامعات العامّة لما يوجدُ من سلبيّات خطيرة على الطلبة ومستقبلهم أهمّها عدم وجود اعتراف دوليّ بكثير منها، فما هو مصير الطلاب بعد تخرّجهم منها؟ ومن هي الجهة الرسميّة التي ستصدر شهادة التخرّج منها؟

تحديات وآمال:

وبعد مضيّ ثلاث سنوات على انطلاق الجامعات في المناطق المحرّرة وصل عدد الطلاب إلى ما يقارب / 15000 / طالب بحسب إحصائيّات وزارة التعليم العاليّ في الحكومة المؤقّتة.

ومع اقتراب العام الدراسيّ الرابع من نهايته واستعداد الجامعات لتخريج الدفعة الأولى مع نهاية هذا العام؛ لا يخفى على أحد تلك العقبات والتحديّات التي تواجه إصرار العاملين على العمل في الداخل المحرّر لتأسيس البنية التعليميّة القويّة لتمكين الطلاّب من استكمال تحصيلهم العلميّ ليكونوا قادرين على خدمةِ بلدهم والمساهمة العلميّة الفعالة في إعادة إعماره.

ويعتبر الاعتراف بالشهادة الجامعيّة من أهم التحدّيات التي تواجه الطلبة فهذه الجامعات حديثة النشء ممّا يزرع المخاوف في نفوسهم من عدم وجود اعترافٍ دوليّ بها، فوجود اعترافٍ دوليٍّ بشهاداتِ الطلاب الخريجين أمرٌ مهمٌّ لتلبية طموحاتهم دون أيّة مخاوف مستقبليّة.

وكذلك تعدّ الظروف الأمنيّة الصعبة, وقيام نظام الأسد وحلفائه باستهداف المنشآت التعليميّة من أكبر التحديات التي تمنع وجود بيئةٍ آمنةٍ وأماكن محصّنةٍ لخلق ظروفٍ تعليميّةٍ مناسبةٍ.

وبسبب توزّع الكليّات وشعب الجامعات على محافظات متعدّدة؛ لا يوجد حرم جامعيّ مشترك وخاصّة في جامعة حلب أو إدلب, وهذا يؤدّي إلى صعوبة الانتقال بالنسبة للطلاب والإداريّين ويسهم في صعوبة العمل الإداريّ والتشغيليّ للجامعة, أضف إلى ذلك عدمَ وجودِ مدنٍ جامعيّة أو مساكن للطلاب ممّا يصعِّب عمليّة الالتحاق بالجامعة.

وفيما يتعلّق بالتمويل تعاني الجامعات جميعها من نقصٍ في التمويل وفي حال وجودِه فهو مؤقّت, وبذلك تنعكس النتائج على الجامعة وطلابها من حيث صعوبة تأمين المناهج الدراسيّة مطبوعة, وعدم وجود المباني الجامعيّة المتناسبة مع التعليم العالي, والنقص في المخابر العلميّة المتطوّرة وكفايتها.

وعلى الرغم من وجود هذه التحدّيات والمعوقّات إلا أنّ الأمل بواقع تعليمي أفضل يبقى هدفا للمؤسسات التعليمية في مناطق الثورة.

لا تزال مؤسسات التعليم في المناطق المحررة تطمح إلى تطوير العملية التعليمية على عدة محاور منها:

- الأبنية التعليمية: فهي بحاجة إلى مزيد من العناية لتوفير بيئة تعليمية صحية ومناسبة، وأكثر ما يبعث على الحزن المراكز التعليمية التي لا زالت في الخيم والمباني الضيقة مسبقة الصنع وما تزرعه في نفوس الطلاب من إحساس بالحزن والانكسار.

- الكوادر التعليمية: لا تزال الكوادر تعاني من نقص شديد وتحتاج إلى وضع مخطط متكامل لتدريبها والارتقاء بمستواها.

- المناهج: إن المناهج والكتب التي يتم الاعتماد عليها في المناطق المحررة تعاني من التنظير القاتل الذي اتسمت به أيام تسلط النظام الطائفي ونحن بحاجة اليوم إلى منهاج يجمع بين التنظير والتدريب العملي لفتح الآفاق الحياتية العملية أمام طلابنا.

- الإدارة: إن تنظيم العملية التعليمية من خلال إدارة رشيدة لا يقل أهمية عن ضبط المناهج والرتقاء بمستوى الكادر التعليمي أو صيانة الأبنية والارتقاء بمستواها، فالإدارة لها دور مهم في الارتقاء بمؤسساتنا التعليمية الناشئة.

وأخيرا: إننا نعيش حالة حرب على كل المستويات الاجتماعية والإنسانية والعلم مع الأخلاق هو ما يحفظ مجتمعنا وهو ما يميزنا عن باقي الأمم أو يجعلنا محط احترام دولي، وإن العلم مع الإنسانية هو الطريق الأوحد لحضارة إنسانية قوية تخدم الآخرين وتقدم لهم الخير والنفع... وما نطمح إليه اليوم هو أن نعيش حياة إنسانية كريمة تنقذ شعبنا من الضياع الذي يعانيه والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

المصدر: العدد الثالث من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين