حَقائِقُ عشر تُوجب العَفوَ والبرّ

إلى من نزغ الشيطان بينه وبين أهله وإخوانه ، فآثر القطيعة والهجر على سلامة الصدر ، والعفو والبرّ .. أهدي إليك هذه الحقائق الإيمانيّة الواعظة ، عسى أن تجد عقلاً راشداً ، وقلباً منيباً .. وكلّ حقيقة منها جديرة أن تكون مُغنيةً كافية ..

1) حَقائِقُ قرآنيّة ذات آفاق واسعة ، وأبعاد متنوّعة : 

أ ـ يقول الله تعالى : {... أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النور:22] . 

ب ـ ويقول سبحانه : {... فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[الشورى:40] . 

ج ـ {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:88 ــ89] . 

د ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيم}[التغابن:14] . 

ويكفيك التدبّر لهذه الآيات ، وما فيها من التوجيه والإرشاد ، والتربية المزكّية للنفس ، لتسارع بالقول بقلب مطمئنّ : ( سمعنا يا ربّنا وأطعنا .. ) .

2) ـ إنّ أمراض القلب يأخذ بعضها برقاب بعض ، ويقود أدناها إلى شرّها وأخبثها ، فيكون الخلاص منها أصعب وأشقّ .. فالغلّ والحقد يقود إلى الحسد والكِبْر ، وهما شرّ ما عُصي به الله عزّ وجلّ .. 

3 ) ـ إنّ خير ما يدعو المؤمن إلى العَفو والبرّ أن يتفكّر بآثار كلا الحالين : على قلبه وإيمانه ، ونفسه وراحة ضميره ، أفلا يستحقّ ذلك منه أن يضحّي ببعض هواه .؟؟ 

4 ) ـ العَفو والبرّ حبّاً وإكراماً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يقول الإمام الشافعيّ رحمه الله :

من نال منّي أو علقت بذمّته * * * سامحته لله راجي منّته 

كيلا أعوّق مؤمناً يوم الجزا * * * ولا أسيء محمّداً في أمّته 

5) ـ العَفو والبرّ من علامات محبّة الله تعالى للعبد ؛ فإذا أحبّ الله تعالى عبداً جعل فيه كلّ ما يحبّ من الأخلاق والصفات ، وإذا أبغض الله تعالى عبداً جعل فيه ما يبغض من الصفات .. وهذا ما يوجب أن يكون تعاملك مع الخالق لا الخلق ..

6) ـ العَفو والبرّ مجاهدةً للنفس على ما يرضي الله تعالى ، والله تعالى يقول : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69] . 

7) ـ وعليك بالعَفو والبرّ حرصاً على راحة النفس ، وصفاء القلب ، وسعادة الوقت ، وإذا لم تعف فإنّ وقتك في ليلك ونهارك في ضيق وغمّ ، وكرب وهمّ . 

8) ـ العَفو والبرّ خوفاً وحذراً من أن تقع في معاداة أحد من أولياء الله تعالى ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إِنَّ اللَّهَ قَالَ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ .. » . صحيح البخاري (8/ 105) . 

9) ـ وإذا كنت محبّاً لله بصدق فإنّك تؤثر مرضاة الله تعالى على حظّ نفسك ، فمحبّة الله تعالى توجب عليك التخلّي عن حظوظ نفسك ، وهي ليست دعوى تدّعى باللسان .. والله تعالى يقول : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للهِ .. }[البقرة:165] .

10) ـ وعليك بالعَفو والبرّ رغبة أن تكون من أهل الجنّة ، ومريداً للآخرة ، كما جاء في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه ، قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ تَنْطُفُ لِحْيَتُهُ مَاءً مِنْ وَضُوئِهِ مُعَلِّقٌ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ مَرْتَبَتِهِ الأُولَى ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ مَرْتَبَتِهِ الأُولَى ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّبَعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِي فَقَالَ : إِنِّي لاَحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لاَ أَدْخَلَ عَلَيْهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَحِلَّ يَمِينِي فَعَلْتَ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، قَالَ أَنَسٌ : فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِي يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ لَيْلَةً أَوْ ثَلاَثَ لَيَالٍ ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ بِشَيْءٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ ، وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلاَةِ الفَجْرِ فَيُسْبِغَ الْوُضُوءَ ، قَالَ عَبْدُ اللهِ : غَيْرَ أَنِّي لاَ أَسْمَعُهُ يَقُولُ إِلاَّ خَيْرًا ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلاَثُ لَيَالٍ كِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ ، قُلْتُ : يَا عَبْدَ اللهِ ، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبُ وَلاَ هِجْرَةٍ ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلاَثِ مَجَالِسَ : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ تِلْكَ الثَّلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَأَرَدْتُ آوِي إِلَيْكَ فَأُنْظِرُ عَمَلَكَ ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَبِيرَ عَمَلٍ ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ ، فَانْصَرَفْتُ عَنْهُ ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي ، فَقَالَ : مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لاَ أَجِدُ فِي نَفْسِي غِلًّا لأَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ ، وَلاَ أَحْسِدُهُ عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو : « هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ ، وَهِيَ الَّتِي لاَ نُطِيقُ » . رواه النسائي في السنن الكبرى (9/ 318) .

ولتكن لك أسوة بأبِي ضَمْضَمٍ رضي الله عنه ، كما جاء في الحديث عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ » قَالُوا : وَمَنْ هُوَ أَبُو ضَمْضَمٍ ؟ قَالَ : « رَجُلٌ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي وَعِرْضِي ، فَلَا يَشْتُمُ مَنْ شَتَمَهُ ، وَلَا يَظْلِمُ مَنْ ظَلَمَهُ ، وَلَا يَضْرِبُ مَنْ ضَرَبَهُ » . رواه البزّار في مسنده (13/474) ، والطبراني في مكارم الأخلاق (ص : 330) .

11) ـ والعَفو والبرّ عنوان من يُرِيدُ الآخِرَةَ ، يقول الله تعالى : {... مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ...}[آل عمران:152] ، فهل أنت ممّن يريد الآخرة بصدق فاعف واعتذر .؟ 

فإن أبيت العَفو بعد كلّ هذه الحقائق الموجبة للعفو وسلامة الصدر فاعلم أنّك تؤثر الحظّ العاجل الزائل ، على الأجر العظيم ، والفضل والتكريم .. ولا أملك لك شيئاً ، فهذا اختيارك .. وسترى عواقب أمرك .. ولله الأمر أوّلاً وآخراً . 

ولكن لا تدّعي أنّك ممّن يريد الآخرة ، فتخدع نفسَكَ وتخدعُك .. فليست الآخرة بالدعاوى ولا الأمنيات ..

واختم بالقول قطعاً لدابر وساوس الشيطان : إنّ اعتذارك ولو كنت محقّاً فيما تظنّ يزيدك عند الله فضلاً ونبلاً ، ومغفرة وأجراً .. فلا يخدعنّك الشيطان عن المسارعة إلى الاعتذار .. ولعلّك تذكر قول نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم ولا تنساه : « .. وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام » . 

حتّى ولو كنت تريد الدنيا فلمصلحة دنياك أن تعفو وتعتذر .. لأنّ الجماعة تستغني عن الفرد ، والفرد لا يستطيع أن يستغني عن الجماعة ، والمَرء قويّ بإخوانه .. وليست عاقبة القطيعة إلاّ الإثم والندامة .. فانظر لنفسك خير شأنيك في الدنيا والآخرة ، ولا تكن ممّن يريد أن ينفع نفسه فيضرّها .. والحمد لله ربّ العالمين .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين