رحلة الحج (21)

يوم الأربعاء 11 من ذي الحجة سنة 1439هـ

وفاة الشيخ محمد هارون الإندوري:

توفي صباح اليوم الشيخ محمد هارون بن منظور أحمد الندوي الإندوري أمين مكتبة شبلي بدار العلوم لندوة العلماء، إنا لله وإنا إليه راجعون، وشعرت بحزن وأسى على وفاته، وهو صهر الشيخ معين الله الندوي نائب أمين ندوة العلماء العام السابق، وكان محببا إلى الناس لحسن أخلاقه ورفقه في الأمور والتأني، وصلتي به قريبة منذ كنت طالبا في دار العلوم وإذ عينت بها مدرسا، يساعدني فيما أحتاج إليه من الكتب والمخطوطات، ناصحا لي وباذلا لي وده وولاءه، غفر الله له ورحمه وأنزله فسيح جنانه.

تفسير سورة الكوثر:

وملخص ما درستهم اليوم من تفسير سورة الكوثر للفراهي:

الوجه الثالث أن الصلاة والنحر جانبان للنحر الحقيقي، وبيان ذلك أن الله تعالى لما خلق الإنسان ذا عقل وإرادة حاكما بالحسن والقبح رفعه أعلى درجة، ومع ذلك أقامه على شفا حفرة، وذلك لأن العبد إذا قطع النظر عن منعمه واستغنى عن ربه حجب عن نوره، وراقه الباطل المزخرف، واتبع مراد نفسه، وصار الهوى إلهه، ولما كان هوى النفس ذا جهتين: سبعية وبهيمية لزمنا أن نكسر كلا جناحيها فهدانا لإهانتها بذبحين: ذبح السبعية وذبح البهيمية.

أما الأول فبالخشوع لله والتذلل بين يديه، وجماعه الصلاة، فإن بها يقمع رأس الكبر، لأن الخشوع من أعظم جهات الصلاة.

وأما الثاني فبالنزوع عما تلتذ به النفس وتحبه في هذه الحياة الدنيوية، ولذلك ثلاث مدارج:

الأولى بذل النفس في سبيل الرب، وأكبر منه ذبح فلذة الكبد.

والثانية تحمل المشاق والأذى في طاعة الرب وترك اللذائذ، فإن ذلك أحب إلى النفس بعد الحياة، ومن هذا الباب الصوم.

والثالثة بذل المال الذي هو مفتاح الملاذ، والزكاة من هذا الباب.

فتبين مما ذكرنا أن الصلاة والنحر طرفان لذبح النفس.

ونبهت في درسي على أهمية إعمال العقل، وإنما المرء لبه وحجاه، فإذا أحرز الفطنة واتبع حكم البصيرة وأمر الرشاد حقق علما موثوقا به وبلغ أدبا يرفعه، وما ضلال الناس إلا بإهمالهم العقل وإبطاله.

لامية ابن الوردي:

ومما شرحت لهم هنا من أبيات اللامية:

أَعـذْبُ الأَلْفَاظِ قَولي لَكَ : خُـذْ=وَأمَـرُّ الْلفـظِ نُطقـي بِلَعَـلّْ

مُلكُ كِسـرى عَنهُ تُغني كِسْرةٌ=وَعنِ الْبحْـرِ اجْتـزاءٌ بـالـوَشـلْ

اَعتـَبر " نحَـن قَسَمنّـَا بَيَنَهُـمُ"=تَلقَـهُ حَقَـا ً وَبـِالحْـقِ نَـزْلْ

لَيـسَ مَا يَحْـوي الْفَتى مِنْ عَزمِهِ=لاَ وَلاَ مـَا فَاتَ يَـومـاً بِالكْسَـلْ

وما أحسن ما قاله جار الله الزمخشري: ومن تأمل في أمر الرزق علم أنه لا يكتسب بالدهاء ولا بالحيل.

رمي الجمار:

خرجنا لرمي الجمار في الساعة التاسعة، وقد خفت الزحمة، فأغذذنا في السير مبادرين، ورمينا الجمرات الثلاث عن كثب ما بيننا وبينهن إلا جدرانهن، ودعونا عند الجمرتين الأولى والثانية بدعوات صالحات، وسألني بعض أصحابي: ما لنا ندعو عند الجمرتين الأوليين دون الثالثة؟ قلت: إن الرمي عهد بالجهاد والدفاع عن الكعبة المشرفة مبرمين به عقدا مع ربنا، والجمرات الثلاث تمثل ثلاث جبهات للقتال صُدَّ عنها جيش أبرهة صدا، الصغرى أبعدها عن بيت الله والكبرى أقربها إليه، فبعد الأولى يدعو العبد الله تعالى وهو في الجهاد ويسأله النصر، وكذلك بعد الثانية، ولما رمى الثالثة فقد وفى بما عاهد الله عليه من الذود عن بيته وإلحاق الهزائم بكائدي الشرور لحرمه، وتحققت له موالاته والبراءة من أعدائه.

المرور بالخيام:

ولقد أبهجنا مرورنا بالخيام في الليل، ووادي منى كلها قباب بيضاء ناصعة غراء، وفوقهن نجوم السماء لوامع في الدجى، والحجاج ماشون من خلالها في موكب معشر صُبر، مرتقين إلى الجمرات أو منحدرين منها، أو متجولين في شوارعها وساحاتها مقابلي أصدقائهم أو قاضي حوائجهم، ورأينا أناسا متحلقين في الطرقات مكتنفين بأصحابهم يتحاورون في جذل وارتياح، وعليهم سيما التنسك والوقار.

رجوع إلى خيمتنا:

ولما انكفأنا إلى خيمتنا صادفنا أصحابنا متهللي الوجوه ومنبسطي الأسارير، طارحين عن أنفسهم هموم الدنيا وخطوبها، وملقين وراءهم أثقال المتاعب والمشاق، ولم أشبه فرحتهم هذه إلا بفرحة الصائم عند الإفطار، فقد فرغوا من مناسكهم إلا رمي الجمار من الغد، وتأخر وصول العشاء إلى ما بعد الثانية عشرة، وهو "برياني" شهي لذيذ من لحوم الأضاحي، فأكلنا وشبعنا، وحمدنا الله ربنا، سبحان من يعطي بغير حساب، وذنب إحسانه العظيم إلينا أننا عاجزون عن تعداده، فيا نفس لا تتعرضي لعطية إلا عطية ربك الوهاب.

الدكتور إسماعيل الجريوي:

وشرفنا بالزيارة في الساعة الحادية عشرة والنصف فضيلة الدكتور إسماعيل بن إبراهيم الجريوي من بني خالد من نجد، ذو معدن زاكي الثرى، يتصل بسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه، جامعا بين سمو النسب وشرف الفعال، وهو محاضر في العلوم القانونية بقسم القانون في كلية الملك فهد الأمنية بالرياض، حاز على الدكتوراة في العقود الدولية من جامعة نيو كاسل بالمملكة المتحدة، وهو صديق لصاحبنا عبد العظيم، استمتعنا بحديثه، وحكى لنا عن بعض الصوفية زعمه زيارة النبي صلى الله عليه وسلم له يقظة، فاستغربنا كيف يتلاعب الشيطان بالعقول، وكيف تختلق الأوهام الخرافات والأباطيل، وكيف توقع الأهواء أصحابها في ورطات وعقبات، وفي إبطال الناس أحكام العلم والفقه عجائب لا تنتهي، وغرائب تبعث على الضحك والبكاء معا.

زيارة بعض العلماء:

وزارنا في الساعة الثانية عشرة ليلا بعض العلماء من المملكة المتحدة، منهم الشيخان عزير خان، وطفيل أحمد، فأما الأول فخريج جامعة تعليم الإسلام بديوز بري، من زملاء الشيخ مجاهد علي، متخصص في القراءة والتجويد، وله إجازات في القراءات العشر، وأما الثاني فهو من مدينة برادفورد، خريج جامعة الهدى، ببليك برن، وكلاهما من أصدقاء صاحبنا الشيخ أندريو بوسو، من العلماء الدعاة المعتدلين المتوسعين، يغلبهما روح التأليف بين المسلمين، بعيدين عن الشقاق والفتن، موفورين في النصح والوفاء لأهل العلم، ورأيت في الفتيين حبا لي وتقديرا، ونسيبك من ناجاك بالود قلبه، وثبتك على النهج القويم لسانه.

تحدثنا عن شؤون الإسلام والمسلمين في بريطانيا، وأعربنا عن أسفنا على تشديد بعض المتفقهة في الفتوى، والتضييق على المسلمين والتعسير عليهم، وإلى الله فيما نالنا نحن المسلمين من هؤلاء نرفع الشكوى، ففي يده كشف المضرة والبلوى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين