تصحيح حديث : إن الله يبعث لهذه الأمة...

شبه إجماع بين الحفاظ والمحدثين على تصحيح الحديث النبوي : إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها

تخريج الحديث : 

قَالَ الحافظ ابن حجر في "توالي التأسيس بمعالي بن إِدْرِيسَ " :

( أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْمَهْرِيِّ .

وَأَخْرَجَهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ يَحْيَى وَعَنْ عَمْرِو بْنِ سَوَّادٍ جَمِيعًا .

وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنِ الربيع بن سليمان المؤذن .

وأخرجه ابن عَدِيٍّ فِي مُقَدِّمَةِ الْكَامِلِ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ سَوَّادٍ وَحَرْمَلَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن وهب بن أخي بن وَهْبٍ كُلُّهِمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قال بن عدي : "لا أعلم رواه عن بن وَهْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ وَلَا عن بن يَزِيدَ غَيْرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ " ، قَالَ الْحَافِظُ : "وَرِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا وَرِوَايَةُ الْأَصَمِّ وَأَبِي الرَّبِيعِ تَرِدُ عَلَيْهِ فَهُمْ سِتَّةُ أَنْفُسٍ رووه عن بن وَهْبٍ" ) اهـ 

نقل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى في مقدمته لرسالة "ما لا يسع المحدث جهله" في ص( 223 )

عن الحافظ العراقي في كتابه "إخبار الأحياء بأخبار الإحياء" في تخريجه لهذا الحديث ، وذكر كذلك قاعدة مهمة عند الاختلاف في رفع الحديث ووقفه :

قال الحافظ العراقي : ( حديث " ان الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة ...." : إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات ، وعلى قول أبي داود " رواه عبد الرحمن بن شريح الاسكندارني لم يجز به شراحيل " قد تقرر في علمي الأصول والحديث أن الحديث إذا رفعه ثقة ووقفه ثقة : فإن الحكم لمن رفعه على الصحيح ، وسعيد بن أيوب وعبد الرحمن بن شريح كلاهما ثقة ، وسعيد الذي رفعه أولى بالقبول لأمرين :

1- أحدهما : أنه لم يختلف في توثيقه ، وأما عبد الرحمن فقال فيه ابن سعد : منكر الحديث 

2- الثاني : أن معه زيادة علم على من وقفه ..) اهـ 

قال الشيخ محمد شمس الحق العظيم آبادي في " عون المعبود شرح سنن أبي داود " : 

( وَقَالَ السُّيُوطِيُّ فِي "مِرْقَاةِ الصُّعُودِ": "اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى تَصْحِيحِهِ مِنْهُمِ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى صِحَّتِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْحَافِظُ بن حَجَرٍ"

وَقَالَ الْعَلْقَمِيُّ فِي "شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ " : "قَالَ شَيْخُنَا اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ"

وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى صِحَّتِهِ مِنَ المتأخرين أبو الفضل العراقي وابن حَجَرٍ وَمِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ

وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي "فيض الْقَدِيرِ " : "أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَلَاحِمِ وَالْحَاكِمُ فِي الْفِتَنِ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ" ، قَالَ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ وَغَيْرُهُ سَنَدُهُ صَحِيحٌ"

وقول أبي داود : "رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ" عَنْ شَرَاحِيلَ بْنِ يَزِيدَ الْمَعَافِرِيِّ ، "لَمْ يَجُزْ بِهِ شَرَاحِيلَ" أَيْ لَمْ يُجَاوِزْ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى شَرَاحِيلَ فَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَدْ أَعْضَلَ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَسْقَطَ أَبَا عَلْقَمَةَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ ، وَالْحَدِيثُ الْمُعْضَلُ هُوَ مَا سَقَطَ مِنْ إِسْنَادِهِ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ بِشَرْطِ التَّوَالِي ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : "وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ ثِقَةٌ اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ وَقَدْ عَضَّلَهُ"

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَدِيثَ مَرْوِيٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ وَجْهٍ مُتَّصِلٌ وَمِنْ وَجْهٍ مُعْضَلٌ

وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عَلْقَمَةَ "فِيمَا أَعْلَمُ عَنْ رسول الله" فَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ الرَّاوِي لَمْ يَجْزِمْ بِرَفْعِهِ" قُلْتُ - شمس الحق آبادي - : "نَعَمْ لَكِنْ مِثْلُ ذَلِكَ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْي إِنَّمَا هُوَ مِنْ شَأْنِ النبوة فتعين كونه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ) اهـ ما جاء في "عون المعبود"

وقد اعتمد الباحث الفاضل في تضعيفه لهذا الحديث على أمرين :

الأمر الأول : في حكمه على أحد رواه الحديث وهو ( شراحيل بن يزيد ) أنه ليس بثقة ولا يقبل حديثه لأنه مستور مجهول الحال .

الأمر الثاني : اعتماده على ما قاله أبوداود بعد إيراده لهذا الحديث : ( رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني، لم يجُزْ به شراحيل ) : فحكم على رواية عبد الرحمن بن شريح عن شراحيل بأنها موقوفة وليست موصولة ، فاستنتج الباحث الفاضل بأن رواية سعيد بن أبي أيوب المرفوعة معلولة وضعيفة ، بناء على قاعدة إعلال الرواية المرفوعة بالموقوفة .

وسأذكر ملاحظاتي وشيئاً مما دار بيني وبين الباحث الفاضل حول هذين الأمرين :

الأمر الأول : عدم توثيقه لشراحيل بن يزيد ، لأنه حسب قناعته هو مستور مجهول الحال ، ولم يعتمد توثيق ابن حبان بحجة أنه متساهل في التوثيق .

وجوابي على هذا: 

1- في حواري مع الباحث الفاضل في أول تعليق لي في صفحته وقبل أن يحكم هو على ( شراحيل بن يزيد ) أنه مستور مجهول الحال ، قلت له : ( إذا لم تأخذ بتوثيق ابن حبان له ، فسيكون مجهولا أو مستورا ، وإذا لم تقبل روايته فهو ضعيف ، وهذا لا ينطبق إطلاقاً على شراحيل بن يزيد لأنه لم يصرح أحد من العلماء المتقدمين أو المتأخرين بجهالته سواء جهالة عين أو حال أو أنه مستور ، بل على العكس من ذلك فإننا نجد كبار النقاد والمحدثين قد قبِلوا بتوثيق ابن حبان واعتمدوه ، فهؤلاء الحفاظ الثلاثة الذهبي والعراقي والسخاوي وغيرهم صرحوا أنه ثقة ، والحافظ ابن حجر صرح أنه صدوق ، وفي عدول ابن حجر عن إطلاق مصطلح ثقة ، إلى صدوق دليل أنه لم يكن يقلد ابن حبان ، بل إنه قال ذلك بناء على نظر وروية لأنه روى عن شراحيل جمع من الثقات ، ولم يأت بما ينكر عليه ؛ولم يذكر فيه جرح ، لذلك حكم عليه بأنه صدوق يحتج به " .

2- وهذا بعض ما دار بيني بينه بشأن توثيق ( شراحيل بن يزيد ) :

أ‌- الباحث الفاضل عندما قلت له بأنك بهذا تحكم على شراحيل بأنه ضعيف ، أنكر عليّ ذلك واعتبرني أنني أقوِّلُـه ما لم يقل ، وقال كذلك : (فالذي قلته في هذا الراوي هو لم أجد فيه قولا لأحد أئمة الجرح والتعديل سوى أن ذكره ابن حبان في الثقات، وهذا لا يكفي في التوثيق، ولم أقل بتضعيفه، وبينهما فرق كبير، أي إنني لم أرَ أنه في مرتبة الثقة، ولم أضعفه ولم أقل عنه مجهول، فخلاصة حاله إذا لم يكن في مرتبة الثقة أن مروياته ليست في مرتبة القبول) .

ب‌- فكان جوابي له : ( حبذا الباحث الكريم أن يذكر لي من خلال كتب المصطلح ماذا نطلق على "شراحيل بن يزيد" طالما أنه في توصيفك له أنه ليس بثقة وليس ممن يقبل حديثه : فماذا يكون مثل هذا إذا لم يكن مطعونا به ولم يكن ضعيفا ؟ ) .

فأجابني على ذلك : ( الراوي الذي ليس في مرتبة الثقة ولا الضعيف مستور ، ربما أنت تريد نصا على ذلك من خلال كتب مصطلح الحديث، ولو كان عندي لذكرته، ولكن هذا لا يجعلني أتوقف، فأنا أكتب ما أراه حسبما فهمته من كلام العلماء ) .

ج- عندما اعترف الباحث الفاضل أنه لم يجد من كتب المصطلح تعريفاً للمستور ينطبق على "شراحيل بن يزيد " ، عندها انتقلت لمطالبته بذكر من جرحه من العلماء ، فقلت له :

( وأما ما أكدتم عليه مرارا من أن ابن حبان متساهل في التوثيق ، فهذا حكم عام ينطبق على الرواة الذين وجد العلماء فيهم جرحاً ، وتعقبوا ابن حبان في ذلك، ولكن هذا لا ينطبق على شراحيل بن يزيد للقرائن كثيرة منها أنه لم يذكر أحد من العلماء فيه جرحاً، قبول كبار الحفاظ النقاد لتوثيقه له منهم : الحفاظ الثلاثة الذهبي والعراقي والسخاوي ، وعدول الحافظ ابن حجر عن مصطلح الثقة الذي استخدمه ابن حبان بحق شراحيل إلى مصطلح "صدوق " قرينة تدل على أنه أصدر ذلك بعد دراسة وتأمل ) .

وإذا بالباحث الفاضل يجيبني على ذلك فيقول : ( أستغربُ ممن يضع نفسه في صف المقدِّرين لعلم الحافظ ابن حجر ولكن كلام ابن حجر إذا جاء على غير هوى النفس انقلب مرفوضا ، ذكرت في الحلقة الثانية من الحوار حول هذا الحديث كلام ابن حجر الذي لخص فيه رأيه في كتاب الثقات لابن حبان حيث قال: «هذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات الذي ألفه» ) .

د- وإنني أقول للباحث الفاضل أن الذي فهمته من توصيف العلماء لابن حبان أنه متساهل في التوثيق يعود لعدة أسباب منها ما قاله الحافظ ابن حجر في توثيقه لمجهول العين ، ومنها توثيقه لبعض الرواة وقد وصفهم هو بنفسه في كتب أخرى له بأنهم من المجروحين أو هناك غيره من العلماء من جرحهم ، وقد يكون فهمي هذا صحيحا وقد يكون غير صحيح ، ولم يصدر في جميع تعليقاتي ما ديل على رفضي لكلام ابن حجر .

وإنني أعتبر كلام ابن حجر حجة على الباحث الفاضل حيث ختم قوله بعبارة لم يأت بها الباحث ، وهذ ما قاله الحافظ كاملا :

( وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة أن يتبين جرحه مذهب عجيب ، والجمهور على خلافه ، وهذا هو مسلك ابن حبان في "كتاب الثقات " الذي ألفه فإنه يذكر خلقاً ممن ينص عليهم أبوحاتم وغيره على أنهم مجهولون ، وكأن عند ابن حبان أن جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور وهو مذهب شيخه ابن خزيمة ، ولكن جهالة حاله باقية عند غيره ) .اهـ 

فقول الحافظ ابن حجر : (ولكن جهالة حاله باقية عند غيره ) فهذا لا ينطبق على توثيق ابن حبان لشراحيل لأن جهالة حاله ليست باقية عند العلماء بل صرجوا بتوثيقه حتى ولو كانوا من المتأخرين ، وهذه العبارة تنفي عن شراحيل جهالة العين وجهالة الحال . 

الأمر الثاني : اعتماده على قاعدة إعلال الرواية المرفوعة بالموقوفة ، وأنه لايخرج عن هذه القاعدة إلا بقرائن .

1- من أبرز ما استدل به الباحث الفاضل على إعلال المرفوع بالموقوف ، القصة المروية عن الإمام البخاري وهي : ( جاء الإمام مسلم إلى الإمام البخاري فقبَّل بين عينيه وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيدَ المحدثين وطبيبَ الحديث في علله، حديثُ أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة المجلس ما علته؟. فقال البخاري: «هذا حديث مليح، إلا أنه معلول، حدثنا به موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب قال حدثنا سهيل عن عون بن عبد الله قوله، هذا أولى». 

فعلق عليها الباحث الفاضل بما يأـي :

( لكنْ من المستبعد ـ عند الأئمة الذين هم أئمة في هذا العلم ـ أن يكونَ سهيل قد سمع الحديث من أبيه يرويه عن أبي هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن عون بن عبد الله من قوله فيرويَه مرة هكذا ومرة هكذا، لأن مَن سمعه بمثل هذين الوجهين فإنه يرويه عادة إما بالوجهين كليهما مجموعين وإما بالوجه المسنَد وحده إذا أراد الاقتصار على أحدهما، وهذا يعني أن سهيلا قد سمع حديث كفارة المجلس بأحد الوجهين ولم يسمعه بالوجهين كليهما، وإذا كان ذلك كذلك فالاحتياط يوجب الاقتصارَ على ما فيه القدْرُ الأدنى، كما يوجب الحكمَ ـ بغلبة الظن ـ على ما فيه القدْرُ الأعلى بأنه خطأ، أي إنه يوجب تثبيتَ روايةِ مَن رواه عنه موقوفا على التابعي وتخطئةَ من رواه عنه مسندا. وهذه طريقة جمهور المتقدمين، ومنهم البخاري . 

وهكذا نجد الإمام أحمد والبخاري ومسلما وأبا زرعة وأبا حاتم الرازيَّين والعُقيلي والدارقطني والحاكم وأبا يعلى الخليلي والخطيب البغدادي قد أعلوا الرواية المرفوعة بالرواية الموقوفة ووافقهم ابن رجب وابن حجر ) .

ملاحظاتي على ما تفضل به الباحث الفاضل :

قبل كل شيء : الطريقة التي صور بها الباحث الفاضل لإعلال الرواية المرفوعة في هذا المثال بالرواية الموقوفة مخالفة للطريقة التي بينها العلماء في كتبهم ، لأنهم لم يكتفوا بهذا بل صرحوا بقرائن تدل على علل أخرى من تدليس ووهم ونسيان ، وهذا ما نراه في "النكت على ابن الصلاح" و" فتح المغيث " وغيرها من الكتب .

أ‌- مع أن الباحث الفاضل نقل عن الدارقطني أنه سئل الدارقطني في "العلل" عن هذا الحديث فقال: [قال أحمد ابن حنبل: «حدَّث به ابن جريج عن موسى بن عقبة، وفيه وَهَم، والصحيح قول وُهيب». والقول كما قال أحمد]

، ولكن الباحث لم يكمل سبب عدم قبول الإمام أحمد الرواية المرفوعة التي رواها ابن جريج عن موسى بن عقبة ، وهذه هي تتمة ما نقل الدارقطني عن الإمام أحمد ، وهذه هي التتمة : ( وَقَالَ : وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ ابْنُ جُرَيْجٍ دَلَّسَهُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، أَخَذَهُ مِنْ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ عَنْهُ ) . 

إذن الإمام أحمد لم يطعن بهذه الرواية المرفوعة لمجرد أنها رويت من طريق آخر موقوفة ، ولكن بالإضافة لذلك لأنه خشي أن يكون ابن جريج الذي رواها مرفوعة قد دلس ذلك ، وأخذه من بعض الضعفاء عن موسى بن عقبة .

ب‌- وكذلك نقل الباحث الفاضل عن ابن أبي حاتم الرازي أنه سأل أباه وأبا زرعة عن هذا الحديث فقالا: «هذا خطأ، رواه وهيب عن سهيل عن عون بن عبد الله موقوفا، وهذا أصح ) ، ولكنه لم يكمل بقية الحوار بين ابن أبي حاتم وأبيه ، وهذه هي التكملة :

( قلتُ لأَبِي : الوَهَمُ ممَّن هو ؟ قَالَ : يَحتملُ أَنْ يكونَ الوَهَمُ مِنِ ابْنِ جُرَيج ، ويَحتملُ أَنْ يكونَ مِنْ سُهَيْل ، وَأَخْشَى أَنْ يكونَ ابْنُ جُرَيج دَلَّس هَذَا الحديثَ ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَة ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ مُوسَى ؛ أخذَه مِنْ بعضِ الضِّعَفَاءِ .

وسمعتُ أَبِي مَرَّةً أُخْرَى يَقُولُ : لا أَعْلَمُ رَوى هَذَا الحديثَ عَنْ سُهَيْلٍ أَحَدً إِلا مَا يَرْوِيهِ ابْنُ جُرَيج ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَة ، وَلَمْ يذكرِ ابْنُ جُرَيج فِيهِ الخبرَ ، فَأَخْشَى أَنْ يكونَ أَخَذَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى ؛ إِذْ لَمْ يَرْوِهِ أَصْحَابُ سُهَيل ، لا أعلم رُوي هذا الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ أَبِي هريرة ) .

وكذلك الحال فإن أبا حاتم لم يرد الرواية المرفوعة لمجرد أنه رويت من طريق آخر موقوفة ، ولكنه كما فعل الإمام أحمد خشي أن يكون ابن جريج دلسه وأخذه عن بعض الضعفاء عن موسى بن عقبة ، ووضع ابن أبي حاتم احتمالاً آخر وهو أن يكون ابن جريج أخذ ذلك عن إبراهيم بن يحيى ، بينما جميع أصحاب سهيل رووه موقوفاً .

ج- ثم يختم الباحث الفاضل بحكم مطلق عجيب فيقول : ( وهكذا نجد الإمام أحمد والبخاري ومسلما وأبا زرعة وأبا حاتم الرازيَّين والعُقيلي والدارقطني والحاكم وأبا يعلى الخليلي والخطيب البغدادي قد أعلوا الرواية المرفوعة بالرواية الموقوفة ووافقهم ابن رجب وابن حجر ) .

مع أنه كما تبين من قبل لم يكن إعلال الرواية المرفوعة بالرواية الموقوفة لوحده ، لأجل هذا السبب فقط ، وإنما كانت هناك كذلك قرائن بسبب التدليس وغير ذلك .

والأغرب من ذلك أن ينقل الباحث عن ابن حجر أنه وافقهم على مجرد الإعلال بالرواية الموقوفة مع أنه في كتابه الذي نقل عنه الباحث وهو " النكت على ابن الصلاح " تكلم على ذلك بصفحات كثيرة في بيان علة الرواية المرفوعة ، وخلص إلى نفي علة تدليس ابن جريج : فقد صرح بالسماع من موسي بن عقبة كما عند الترمذي , وأحمد , والطبراني في الأوسط , والبيهقي , وغيرهم ، وبقيت علة وهم سهيل فيه وإصابته بعلة سببت له النسيان ، وهذا ما صرح به الحافظ ابن حجر في النكت على ابن الصلاح 1/725 : ( وذلك أن سهيلاً كان قد أصابته علة نسي من أجلها بعض حديثه ؛ ولأجل هذا قال فيه أبو حاتم الرازي : " يكتب حديثه ولا يحتج به ") .

وكذلك بَّين هذا الحافظ السخاوي في "فتح المغيث " 1/246 وغيره فقال: (وبذلك أعله البخاري وقضى لوهيب ، مع تصريحه بأنه لا يعرف في الدنيا بسند ابن جريج بهذا إلا هذا الحديث ، وقال : لا نذكر لموسى سماعا من سهيل ، وكذا أعله أحمد وأبو حاتم وأبو زرعة ، والوهم فيه من سهيل فإنه كان قد أصابته علة نسي من أجلها بعض حديثه ووهيب أعرف بحديثه من ابن عقبة على أن هذه العلة قد خفيت على مسلم حتى بينها له إمامه ) .

2- وعندما يتأمل القارئ الطريقة التي عرض بها الباحث الفاضل هذه القاعدة وموقف علماء الحديث منها : يظن أن هناك بوناً شاسعاً بين علماء الحديث المتقدمين والمحققين من علماء الحديث المتأخرين ابتداء من الحاكم وأبي بكر البزار والخطيب البغدادي وابن القطان الفاسي ومن بعدهم مثل ابن الصلاح والنووي والعراقي وابن حجر العسقلاني والسخاوي وغيرهم ، وأن الهوة كبيرة بين الفريقين في مسألة إعلال المرفوع بالموقوف والموصول بالمرسل ، وكأن المتأخرين خالفوا المتقدمين ولم يسلكوا سبيلهم ، وهذا نجده عند تعليل الباحث لتقديم الإمام البخاري وغيره أحيانا الرواية المرفوعة على الموقوفة فقال : ( إن الإمام البخاري رحمه الله قال ذلك في مناسبة خاصة، وقاله الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله في مناسبة خاصة كذلك ، فظنه كثير ممن جاء بعدهم قاعدة مطـَّردة يمشون عليها، فصار منهج كبار الأئمة في علوم الحديث في واد ومنهج أكثر المتأخرين في واد آخر ، ومن المؤسف أن كثيرا ممن ينابذون أئمة المحدثين لا يعرفون مقامهم ولا يقدرونهم قدرهم، لأنهم لا يعرفون شيئا عن علوم الحديث المبنية على نظر علمي دقيق) .

والحقيقة أن في إطلاق هذا القول مبالغة كبيرة ، ولا أراها مناسبة ، مع القطع أن فضل علم المتقدمين ودقتهم لا تقارن بمن جاء بعدهم ، ولكن لو أن هؤلاء المتأخرين خالفوا تماما منهج المتقدمين لكان ذلك صواباً، ولكن عند التأمل نجد أن هناك تقارب بين الفريقين فكلاهما لم يقولوا أن الرواية المرفوعة تُعلُّ أو لا تُعلُّ بالرواية الموقوفة بشكل مطرد ومطلق ، بل بحثوا في القرائن وقد تختلف نظراتهم فيها ، وكذلك حكمهم على ذلك هل هي زيادة في السند مقبولة ممن ثقة يعتمد على حفظه ؟ .

3- لم أجد في كلام الباحث الفاضل إشارة إلى أن هناك من المتقدمين من خالف هذه القاعدة ، وكنت أتمنى أن يعرض علينا المسألة كما أوردها الخطيب البغدادي ( ت: 463 هـ ) قال في الكفاية ( ص 587 _ 588 ) : ) قال أكثر أصحاب الحديث ان الحكم في هذا أو ما كان بسبيله للمرسل ، وقال بعضهم ان كان عدد الذين ارسلوه أكثر من الذين وصلوه فالحكم لهم ، وقال بعضهم إن كان من أرسله أحفظ من الذي وصله فالحكم للمرسل ولا يقدح ذلك في عدالة الذي وصله ، ومنهم من قال لا يجوز أن يقال في مسند الحديث الذي يرسله الحفاظ انه عدل لأن إرسالهم له يقدح في مسنده فيقدح في عدالته ، ومنهم من قال الحكم للمسند إذا كان ثابت العدالة ضابطا للرواية فيجب قبول خبره ويلزم العمل به وان خالفه غيره وسواء كان المخالف له واحدا أو جماعة ) .

ثم بين الخطيب البغدادي القول الصحيح الذي اعتمده فقال : ( وهذا القول هو الصحيح عندنا لأن إرسال الراوي للحديث ليس بجرح لمن وصله ولا تكذيب له ولعله أيضا مسند عند الذين رووه مرسلا أو عند بعضهم الاأنهم أرسلوه لغرض أو نسيان والناسي لا يقضى له على الذاكر وكذلك حال راوي الخبر إذا أرسله مرة ووصله أخرى لا يضعف ذلك أيضا له لأنه قد ينسى فيرسله ثم يذكر بعده فيسنده أو يفعل الأمرين معاً عن قصد منه لغرض له فيه ) .

4- وقد وصف الحافظ ابن رجب في "شرح علل الترمذي" الخطيب البغدادي بالتناقض في هذه المسألة فقال : " ثم إن الخطيب تناقض فذكر في كتاب "الكفاية" للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين ، ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً، كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء وهذا يخالف تصرفه في كتاب "تمييز المزيد" وقد عاب تصرفه في كتاب "تمييز المزيد" بعض محدثي الفقهاء وطمع فيه لموافقته لهم في كتاب "الكفاية") .

علق على هذا الدكتور نور الدين عتر فقال : ( لا عيب على الخطيب في تصرفه في كتاب " تمييز الأسانيد " وذلك لأنه كتاب خاص بنوع من زيادة الثقة في السند لها حكم خاص ، وهو أن يروي ثقة حديثا بسند متصل سمع بعض رجاله من بعضهم البعض ، ثم يروي ثقة آخر فيزيد في السند المتصل رجلاً ، فهذا يكون صحيحا ، حيث يقع للثقة أن يسمع من راو مباشرة ، ويسمع عنه حينا آخر بواسطة ، قد يكون خطأ ، فصنف الخطيب كتابه القيم " تمييز المزيد " لبيان ما يحكم له بصحة الزيادة من هذه الأسانيد المتصلة ، وما يحكم عليه بالوهم ، وقد شرحنا هذا النوع بتحقيق جيد وبينا رأينا في صلته بالمدرج ، والتفريق بينه وبين المرسل الخفي في كتابنا "منهج النقد" ص 341-342 ، فارجع إليه لزيادة استيضاح تصرف الخطيب ) . 

5- وإن من هؤلاء المتقدمين الذي رجح الوصل على الإرسال والرفع على الوقف بشرط أن يكون الراوي ممن يعتد بحفظه الإمام الترمذي ، يقول الدكتور نور الدين عتر حفظه الله في أطروحته لرسالة الدكتوراه " الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين " : ( والذي عليه الأئمة المحققون ترجيح الوصل على الإرسال ، والرفع على الوقف وهو مذهب الترمذي كما يفيده إطلاق عبارته في قبول زيادة الثقة " حيث قال : " وإنما تصح إذا كانت الزيادة ممن يعتد على حفظه" ، وقيل : الراجح الإرسال والوقف وهو قول الجمهور وأكثر أهل الحديث ، والراجح هو القول الأول.

وثَمَّ دقيقة فنية هامة تضمنها كلام الترمذي فقد أفاد "من يعتمد على حفظه " أن الزيادة تقبل من العدل الضابط إذا كان في غاية الضبط والحفظ ، وقد راعى ذلك في كتابه ، لذلك قد نجده يرجح الإرسال على الوصل الذي أتى به الثقة ، لقرينة لاحت له ، في قصور ضبطه عن الرتبة التي يشترطها ) اهـ .

6- وإلى هذا ذهب الحاكم في كتابه " المستدرك على الصحيحن " قال الحافظ ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي : ( وذكر الحاكم أن أئمة الحديث على أن القول قول الأكثرين، الذين أرسلوا الحديث، وهذا يخالف تصرفه في المستدرك ) .

علق على ذلك الدكتور نور الدين عتر : ( لا إشكال في هذا ، لأن الحاكم عندما ذكر أن أئمة الحديث يرجحون رواية الأكثر أراد من قوله "أئمة الحديث" أكثر أئمة الحديث ، م اختار هو رأيا آخر هو الذي عليه المحققون في مسألة زيادة الثقة في السند ، وعمل عليه في المستدرك ، نحو صنيعه في حديث يحيى بن أيوب في التحذير من الرياء ، وهذا هو الذي سلكه الخطيب البغدادي في " الكفاية" فقد ذكر أن الجمهور على ترجيح رواية الأكثر الذي لم يرووا هذه الزيادة ، ثم رجح قبول زيادة الثقة ، وأنها مقدمة على من يرو الزيادة باستدلال قوي جدا .

وهذا يرجح أيضا ما ذهب إليه الترمذي في هذه المسألة ، ويلقي الضوء على تصرفه في كتابه ، وتصرف غيره من المحدثين ، ولماذا تقبل هذه الزيادة في مواضع ، ولا تقبل في أخرى ، انظر مزيد بيان لذلك وإزاحة الإشكالات عن الموضوع في أطروحتنا " الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين" ) .

7- وأخيراً يوجه لي الباحث الفاضل هذا الكلام فيقول لي : 

( لم يقف المعجب بنفسه عند هذا ويتساءلْ: لمَ كان ذلك كذلك؟!. ثم راح يرجح طريقة الحافظ زين الدين العراقي على منهج الإمام النسائي!. )

مع أنني لم أتطرق لذكر الإمام النسائي على الإطلاق ، وإنما ذكرت أن الطريقة التي اتبعها الحافظ العراقي في تصحيحه للحديث تنسجم مع منهج الإمام البخاري في ترجيحه للرواية المرفوعة على الموقوفة لحديث ( لا نكاح إلا بولي) .

وهذا نص كلامي : 

#وأختم_هذا_بأن_الحافظ_العراقي عندما أطلق القول ونسبه لعلماء الأصول والحديث بأن الحديث إذا روي من ثقتين مرفوعاً وموقوفاً ، فيحكم عليه بالرفع ، فهو وإن كان ليس على إطلاقه ، ولكنه لم يعتمد على هذه القاعدة ، بل استعمل القرائن التي ترجح كون الحديث مرفوعاً ، وهذا واضح عندما قال : ( فإن الحكم لمن رفعه على الصحيح ، وسعيد بن أيوب وعبد الرحمن بن شريح كلاهما ثقة ، وسعيد الذي رفعه أولى بالقبول لأمرين :

1- أحدهما : أنه لم يختلف في توثيقه ، وأما عبد الرحمن فقال فيه ابن سعد : منكر الحديث 

2- الثاني : أن معه زيادة علم على من وقفه ..) اهـ 

فترجيحه كان معتمداً على قرينتين :

القرينة الأولى : ان أحدهما أشد وثوقاً من الآخر ولم يطعن به أحد 

القرينة الثانية : وهي زيادة الثقة التي فيها زيادة علم 

وبهذه المرجحات والقرائن فإن هذا ينسجم تماما مع منهج الإمام البخاري في الحكم على الحديث عند الاختلاف برفعه ووقفه .

ولكن الباحث الفاضل اعتمد بشكل مجرد ومطلق على قاعدة "إعلال الرواية المرفوعة بالرواية الموقوفة " في تضعيفة لحديث التجديد فقال : ( ولكن في باب الإعلال فإن رواية عبد الرحمن بن شريح هنا تعلُّ رواية سعيد بن أبي أيوب وإن كان عبد الرحمن دونه في المرتبة، وذلك لأن الخطأ في الروايات يكون غالبا برفع الموقوف ووصل المرسل، وليس العكس، لأن السند المرفوع والمتصل هو الجادة المسلوكة ) .

ولست معه فيما ذهب إليه ، لأن التحقيق والجادة المسلوكة في مثل هذا كما قال السخاوي : ( ومن هنا يتبين أنه لا يحكم في تعارض الوصل والرفع مع الإرسال والوقف بشيء معين بل إن كان من أرسل أو وقف من الثقات أرجح قدم وكذا بالعكس ) .

ومن قبله قال الخطيب البغدادي : (السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه، وينظر في اختلاف رواته، ويعتبر بمكانهم من الحفظ ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط ) .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين