أعجوبة الدعاء: المعجزة التي رأيت (2 من 2)

لا ريب أن كثيرين من القراء الكرام رأوا في حياتهم ما يشبه تلك الحادثة الغريبة (التي رويتُها في الجزء الأول من المقالة) ولعلها هي وأمثالها مما يُعَجِّب مَن لم يعرف هذه الحالات الفريدة من استجابة الدعاء، أما أنا فلا أعجب منها لأنني رأيت بعيني ما هو أعجب.

لقد أشعرني الله بوجوده ومعيّته ورحمته في كل يوم من أيام حياتي الطويلة، غيرَ أنه تكرم عليّ مرتين بإجابة دعاء مستحيل بالمقاييس البشرية المادية، مرتين لا أنساهما إلى الممات، سأروي قصةَ واحدةٍ منهما وأحتفظ بالثانية لنفسي. وهي قصة طويلة، وقد كان بوسعي أن أختصرها في سطرين، ولكني أحببت أن يعيش قارئها الحالة التي عشتها بتفاصيلها، فمَن صبر على قراءتها وصل إلى العبرة فيها، ومن استطالها فقفز عنها إلى خاتمتها فلا تثريب عليه.

* * *

كان ذلك منذ اثنتين وثلاثين سنة. كنت قد تركت العمل بالهندسة (التي حملت شهادتها الجامعية) واتجهت إلى العالَم الذي أحبه وأحسّ -إذا فارقته- بما تحسّ به سمكةٌ انتُزِعت من الماء، عالم الكتاب. كنت شاباً فيّاضاً بالهمة والحماسة، فاستأجرت في معرض استهلاكي محلّي مساحةً كبيرةً جداً، أربعمئة متر مربع، وملأتها بالكتب التي اشتغلتُ عدة أسابيع باختيارها من بعض المكتبات التي كنت أتعامل معها في ذلك الوقت. وقد بلغت قيمتُها قريباً من نصف مليون ريال، لم أسدد منها ريالاً لأني لم أكن أملك الثمن، فكان أصحابها يَمُنّون عليّ فيقدمونها لي "على التصريف"، فأبيع منها في المعارض ما أبيع ثم أرد الباقي وأسدد الحساب.

ولكي أخفف العبء اخترت مساحة خارجية مكشوفة، لأن المساحات الداخلية المسقوفة كانت غالية الثمن، وصمَّمتُ سُرادقاً كبيراً مكوَّناً من أربع خيام مربَّعة طولُ ضلع كلٍّ منها عشرة أمتار ومساحتها مئة متر مربع، وصلتها معاً من أطرافها، ثم رفعت كلاً منها على أنبوب معدني طوله أربعة أمتار ثَبّتُّه داخل عمود أوسع قطراً طوله متران. ولعلي استفدت من معلوماتي الهندسية (التي كانت ما تزال حية في ذهني يومها) فقدَّرت أحجام وأقطار الأنابيب التي تناسب ثقل الخيام الأربع، ولكني غفلت عن حساب قوة الرياح العاتية التي شاء الله أن تهبّ على جدة في ذلك اليوم الذي لا أنساه.

في ذلك الوقت من كل عام (في وسط الشتاء) تتعرض جدة ومكة لعاصفة خَماسينية تبدأ برياح هوجاء تملأ الجو بالأتربة، وربما مزّقت لوحات الشوارع الإعلانية واقتلعت بعض الأشجار، ثم تعقبها أمطار غزيرة تفيض منها الطرق والساحات.

كنّا في اليوم الثاني من أيام المعرض، وما تزال الكتب كلها أو جلّها على الأرفف تحت الخيام عندما بدأ الإعصار. لم تصمد الأنابيب المعدنية، فانكسرت في عُقَد الارتكاز (عند امتداد الأنبوب الصغير وسط الأنبوب الكبير) وانهارت الخيام فباتت الكتب على الأرفف في العراء، ثم انفتحت أبواب السماء. في بلاد الشام لا يعرف الناس هذا المطر العجيب الذي يتدفق من السماء كالسيل الدفّاع، نحن نعرف مطراً ناعماً يستمر يوماً وليلة فلا يكاد يبقى منه على الأرض أثر، أما مطر جدة ومكة فتفيض منه الشوارع وربما غرقت فيه السيارات إلى وسطها بعد ساعة أو ساعتين فحسب. لقد بدأت الكارثة.

* * *

كان لي أصدقاء وإخوة في الله كُثُر، والصديق الصَّدوق هو الذي يجده المرء في ساعة الحاجة والضيق، فما لبث هؤلاء الكرام أن تداعَوا فاجتمع منهم في أرض المعرض أكثر من عشرين في أقل من ساعة، وبدأ الجميع يعملون بجهد محموم تحت المطر المتدفق من السماء كالقِرَب المنفتحة: نحضر الصناديق الكرتونية ونكدّس فيها الكتب كيفما اتفق، ثم ننقلها إلى المعرض المسقوف (وقد تكرمت عليّ إدارة المعرض فوهبَتني مساحة صغيرة في الداخل، نحو سبعين متراً). ولكن الكتب كثيرة تملأ مئات الصناديق، والطريق بين الموقعين طويل، فما زلنا نعمل لا نبالي ببلل ولا تعب من العصر إلى الحادية عشرة ليلاً، قريباً من سبع ساعات، حتى فرغنا أخيراً من نقل الكتب كلها وصارت في أمان.

ولكن أكانت حقاً في أمان؟ هل نجت من الكارثة؟

لما وصل آخر الصناديق وعلمت أنها صارت كلها في الداخل بعيداً عن المطر بدأت بفحصها لأنني كنت مرعوباً من إصابة الكتب بالماء. والماء أحد عدوَّين شرسَين للكتاب أحدُهما عدو للآخر، الماء والنار. فأما النار فتأكل الكتاب من فورها، وأما الماء فما يزال الورق يمتصّه ببطء حتى يصبح الكتاب الواحد بسمك كتابَين وتلتصق أوراقُه بعضها ببعض فلا يصلح بعدها لشيء.

فتحت أقرب الصناديق إليّ واستخرجت الكتب العليا فوجدتها مبتلّة بالماء، فسحبت التي تحتها فإذا هي مثلها، والتي تحتها وتحتها، حتى وصلت إلى قعر الصندوق، فإذا الكتب كلها مبلّلة بالماء. ثم فتحت صندوقاً آخر وثالثاً ورابعاً وعاشراً وعشرين وثلاثين، والحال هي الحال. نعم، لقد أنقذنا الكتب من الغرق، ولكنا لم ننقذها من البلل. وكيف، وهي إنما جُمعت وعبئت ونُقلت تحت الماء المنهمر من السماء؟ فماذا نصنع الآن؟

ذهبت فاشتريت ربطة كبيرة من علب المناديل الورقية، ثم اجتمع الشباب فصرنا نفرغ الصندوق مما فيه ونمسح كل كتاب من الكتب من جهاته الستّ جميعاً، فمضت ساعتان ولم نُنْهِ غيرَ عشرة صناديق، وبقي أمامنا أكثر من أربعمئة صندوق! وكان الشباب قد بلغ بهم التعب غايته فبدؤوا بالانسحاب واحداً بعد واحد، وأنا ماض في العمل لا أكاد أبصر شيئاً مما يدور حولي، حتى لم يبقَ إلا واحد فقال: ماذا تصنع؟ حتى لو كنا مئة فلن ننتهي في أقل من ثلاثة أيام، ففي هذه الصناديق ثلاثون ألف كتاب أو أربعون ألفاً أو خمسون، وكل واحد لا بد من تجفيفه بإخلاص حتى لا يتشرّب ورُقه أيَّ بقية من ماء تبقى فيه فتقضي عليه. اذهب فارتَحْ ونَمْ، وسوف نعود كلنا في الصباح فنعمل ما يقدّرنا الله عليه، واحتسب خسارتك عند الله.

كانت الساعة قد جاوزت الواحدة بعد منتصف الليل ولم يبقَ شيء يمكن عمله، فاستسلمت، وذهبت إلى البيت وقد فتك بي الهم والتعب، فاغتسلت ورميت نفسي في الفراش، وعندها بدأت الليلة التي لا تُنسَى.

* * *

لو قلت إني أمضيت الليل لم يغمض لي جفن لخشيت أن أختلط بآلاف الناس الذين لاكُوا هذه العبارة وابتذلوها حتى فقدت معناها، فإنهم يُمضون في الأرق ساعة أو ساعتين وينامون سائر الليل ثم يزعمون ما يزعمون. أما أنا فلم أنَمْ في تلك الليلة لحظة، ولا لحظة واحدة، حقيقة لا على المبالغة والمجاز. أمضيت ساعتين أرِقاً مهموماً متقلباً في الفراش، أفكر في الكارثة التي أصابتني فلا أجد منها مخرجاً. كنت في بواكير حياتي التجارية وقتها، لم آلَف الأرقام الكبيرة بعد، فكنت أرى دَيناً من خمس خانات حملاً يكسر الظهر، فكيف بدَين من ست خانات؟! وكان آخر عمل تركته قبل سنتين يمنحني في الشهر خمسة آلاف، أي أنني سأعمل مئة شهر -بمَورد مثله- لأردّ الدين الذي حَمَّلَتْنيه العاصفة!

لما تصورت الحالة التي تركتُ الكتبَ عليها ورائي وفكرت بالكارثة التي وقعت على رأسي بلغ بي اليأس غايته، فانقطع أملي بالأسباب المادية الدنيوية ولم يبقَ لي إلا الاتصال بحبل السماء. بدأت بالدعاء، ثم استغرقت فيه حتى وصلت إلى حالة عجيبة لم آلفها في نفسي من قبل؛ فقدتُ الصلة بهذا العالم الأرضي الذي كنت أعيش فيه وشعرت كأنني ارتقيت إلى عالم علوي وبِتّ معلّقاً بين الأرض والسماء. أقسم بالله إني ما عدت أحسّ بالدنيا ولا بالناس ولا بالأسباب ولا أرى إلا قدرة الله ورحمة الله، نسيت نفسي ونسيت الزمن وغرقت في الدعاء وقد تعلق قلبي بالله وحده وليس بشيء سواه، حتى سمعت أذان الفجر. وكان الليل طويلاً، كنا في جوف الشتاء، فلعلها مضت أربع ساعات وأنا في تلك الحالة ولم أحسّ بها أكثر من دقائق معدودات!

لما سمعت الأذان قمت فتوضأت وذهبت إلى المسجد القريب فصليت الفريضة مع الإمام، ثم انقلبت إلى المعرض فوصلت قبل الجميع، حتى عمال النظافة لم يكونوا هناك في تلك الساعة المبكرة.

اتجهت من فوري إلى الصناديق وفي ذهني أن نُمضي -أنا والشباب- اليوم بطوله بتجفيف الكتب، لعلنا ننقذ ما يمكن إنقاذه. فتحت أقرب صندوق رأيته أمامي واستخرجت الطبقة العليا من الكتب، فوجدتها كلها جافة كأنْ لم تمسَسْها قطرة ماء قط. أخرجت التي تحتها والتي تحتها، حتى أفرغت الصندوق كله، فما وجدت فيه أي أثر لبلل، ولا لقطرة ماء واحدة! فتحت الثاني وأفرغته، والثالث والعاشر والعشرات، وكلما أفرغت صندوقاً وجدت الكتب جافة جفاف الشوك في نهار الصحراء!

عندئذ سقطت على الأرض وأجهشت بالبكاء! لا أدري أهو بكاء الفرح أم الدهشة أم الشكر والامتنان! أنا ابن هذا العالَم، عالَم الكتب، وقد عشت فيه ثلث قرن وأعرف ما يعني ماءٌ على كتاب. أعرف كيف يمتص الورق الماء حتى يجف وتتيبّس أوراقه ويلتصق بعضها ببعض، ولكني لا أعرف كيف يجفّ كتاب مبلول محشوّ في صندوق مقفل! لا أعرف كيف يحصل ذلك في أي يوم، ولم أعرف كيف حصل في تلك الليلة العجيبة، ولم يهمَّني أن أعرف، كفاني ما عرفت: لقد استُجيب الدعاء وتحقق ما كنت أظنه من المستحيلات.

* * *

على مر السنين طلب مني إخوة أفاضل أن أحكي لهم هذه الحكاية، وكنت دائماً أتهرب من حكايتها، فإني لم أبدأ بروايتها في أي مرة ثم نجحت في إكمالها بغير حشرجة ودموع، وما استطعت كتابتها اليوم إلا بمثل ذلك، أقسم بالله إني أكتبها بعينين فاض فيهما الدمع مع التأثر والانفعال، فإني ما أزال أتذكر تلك الحادثة وأسترجع تفصيلاتها الدقيقة بمشاعرها الكاملة كأنما أعيشها من جديد.

في ذلك الصباح رأيت المعجزة! رأيت قدرة الله ورحمة الله وجلال الله وعظمة الله. في تلك اللحظة عاهدت الله أن لا أكون كراكبي الفُلْك الذين دعَوه فعرفوه ثم جحدوه ، عاهدت الله أن لا أنسى ذلك المعروف ما حييت.

* * *

لو أطلت السرد فاقبلوا مني الاعتذار عن التطويل، وأعود إلى بيت القصيد لأجيب عن السؤال الذي طرحته في مطلع هذه المقالة: كيف يكون الابتلاء في إجابة الدعاء ورفع البلاء؟ حسناً، هذا هو الجواب.

أنا الذي أكرمني الله مرتين فاستجاب دعائي فيهما فيما هو أقرب إلى المعجزة، هل يقبل مني بعدها درجة أقل من اليقين الكامل والطاعة المطلقة والاستسلام غير المشروط لقضائه وتدبيره؟ ابني وزوجته اللذان أراهما الله قدرتَه في ذلك الموقف العجيب، ثم احتاجا إليه مرة أخرى في موقف آخر واستجاب لهما من جديد، هل يقبل منهما بعد ذلك أقل من الإيمان العميق والامتثال الدقيق والتسليم لأمره والرضا بقدره في كل حال؟

أما عن نفسي فلم أنسَ قَطّ كرم الله وفضله عليّ، ولم يبلغ من قلة أدبي مع الله أن أطلب بعدها إثباتاً جديداً على محبته ورعايته، بل عشت دهراً من عمري مستظلاً بهذا الفضل متنعّماً بذكراه، مكتفياً بتلك الرسالة التي أرسلها لي الله لأعيش عليها إلى آخر العمر، حتى ألقاه وهو راض عني بإذنه تعالى (على كثرة ما تنعّمت بنعمه وشهدت إجابة دعواتي في السنين التاليات). وأما ابني وزوجته فإني -من خوفي عليهما- تمنيت من بعدُ لو لم يُستجَب دعاؤهما، فقد حمّلَتْهما الإجابةُ عبئاً أخشى أن ينوء بهما عبر السنين، وهما ما يزالان صغيرَين والعمر أمامهما مديد (لو مَدَّه الله) فما يُدريني ما يطرأ عليهما من ضعف وقوة وإقبال وإدبار في هذا العهد الطويل؟

* * *

هذا هو الذي أسمّيه "الابتلاء بإجابة الدعاء". فما استُجيب لي دعاء إلا تذكرت أصحاب المائدة وتصورت رُكّاب السفينة، وما أجيب دعاء إلا اعتبرت إجابته اختباراً من الله ورجوت الإعانة على النجاح فيه، وما تُرك لي دعاء بلا إجابة إلا ظننته عفواً من الله عافاني بتركه من اختبار ربما تعذّر عليّ النجاح فيه، وفي الأحوال كلها أكون من الراضين ومن الشاكرين.

فيا مَن دعوت ولم يُستجَب دعاؤك على الرغم من الإلحاح بالدعاء: ما يدريك أن الله أحبَّ أن ينجّيك من الامتحان وأن يخفف عنك الحساب، فعوّضك عن دعائك خيراً في الآخرة وترك إجابتك في الدنيا، حتى لا تكون الإجابة حجة عليك وعبئاً وندامة يوم الحساب؟ ارضَ واشكر، فإن الرضا أحد ركنَي "ثنائية الدعاء"، وهذا هو موضوع الحلقة الآتية، وهي الأخيرة في مقالات "الدعاء" بتيسير الرحمن الرحيم.

* * *

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين