هل الأمم كالأفراد ؟ (1)

لا يستطيع أحد أن ينكر أن الأفراد يتفاوتون في أقدارهم ، فمنهم الرفيع ، ومنهم الوضيع ومنهم الشريف ، ومنهم الخسيس ، ومنهم الوجيه ، ومنهم الخامل .

وكذلك لا خلاف في أن احترام الفرد ومعاملته تكون على حسب قدره عند الناس، ولذلك نرى بعض الأفراد إذا مشى التف الناس حوله يتشرفون بالنسبة إليه ، وإذا جلس جلسوا بين يديه بغاية الأدب والوقار ، يريدون أن يُروا في ناديه لتنظر إليهم العيون نظر اكبار وإجلال ، وكثيراً ما تسمع من ألسنة الكثير أنهم يمشون إلى فلان العظيم بصلة القرابة ، أو الصداقة أو صداقة الصداقة أو المصاهرة ، يصرحون بذلك ليكون لهم الفخر معرفة ذلك العظيم ، وبينما نرى نيران الاعتداءات في التهاب - ترى هذا العظيم في أمن تام من أن ينزل به أي اعتداء لا هو ولا بيته ، ولا كل ماله به صلة ، بل ولا كل من يتصل به ، يكرمهم الأشقياء من أجله لرغبة فيه أو رهبة منه ، ذلك شيء معروف لا يحتاج لبرهان يثبته .

هذا حال بعض الأفراد ، وهناك أفراد آخرون لا يشعر بهم أحد إن ذهبوا أو جاءوا ، ولا يلتفت أحد لحركاتهم لأنهم لا قيمة لهم ، ولا يتهيب عادٍ أن يغير على أموالهم أو أعراضهم أو دمائهم لضعفهم وعدم الناصر لهم ، إلى هذا الحد يتفاوت أفراد هذا النوع الإنساني من هذه الناحية التي ذكرناها .

وإني أرجو أن يفهم القارئ أن الأمم في ذلك كالأفراد تماماً ؛ فمن الأمم أمة في الذروة من الاحترام بين الأمم ، تقول الكلمة فتدوي كلمتها في الدنيا ، تنحني لها الرءوس إذا صدرت ، وتعمل بمقتضاها دون أدنى تلكؤ، ويكتفي لاحترام أذل الخلق كل الاحترام - أن يقول إني في حماية دولة كذا ، ومن الأمم أمة لايسوغ لها مركزها أن تتكلم كلمة ، ولو تكلمت كان كلامها موضع ضحك وسخرية من الأمم الأخرى ، هذا على أقل تقدير، وقد يكون كلامها ينبوع بلية من أشد البلايا لها ، وقد يكون السبب لقتلها شر قتلة ومحوها من الوجود ،

قد تقول : كيف تموت أمة والأمة عدد عظيم من الأفراد يتوالد كلما مات جيل منه خلفه جيل آخر كسائر أفراد الأمم ؟

فأقول : أن موتها ليس معناه أن أفرادها أو أعقاب أفرادها تموت ، وإنما يصل بها المرض والضعف إلى درجة لا تستطيع معها حفظ كيانها ولا الدفاع عن شخصيتها التي تتألف من لغتها ودينها وعاداتها ، فتُغير عليها أمَّة من الأمم القوية فتحول كل ما هي عليه إلى ما تريد هذه الغيرة من لغة وعادة ودين ، وحينئذ تصبح وحركاتها وسكناتها لاباختيارها هي بل بأختيار الأمَّة القوية التي قضت على شخصيتها ، وإذن من رآها لا يتردد في أن أفرادها ليسوا أفراد تلك الأمَّة الذاهبة ، بل يوقن اليقين كله أنهم من أفراد هذه الأمَّة العادية لما يرى من أئتمارهم بأوامرها وانتهائهم بنواهيها ، هذا معنى موت الأمم ، ولو فهمت قولنا السابق إن الأمم كالأفراد ما سألت هذا السؤال ، فإنك تعلم أن الفرد يكون صحيحاً ويكون مريضاً ويطرأ عليه الموت ، وقد يكون قصير العمر وقد يكون طويله ، إن الأمر هكذا بلا فارق ، وقد عرفت معنى موت الأمم فاحفظه ، وإن شئت فاقرأ قوله تعالى : {ولكل أمة أجل} .

ولو راجعت التاريخ لحدثك عن أمم يكذب من يحصرها، ربما كانت إحداها تقول الكلمة فتقوم بها الدنيا وتقعد ، ومع ذلك لانسمع اليوم باسمها بل وقد لايعرفها التاريخ

نحن نحدثك بهذا لنصل بك إلى الكلام عن هذه الأمَّة المحمدية ، ونرجو أن نصل بك من ذلك إلى مبلغ ما هي عليه من المرض - إسلامية وغيرها - وتذكر تلك الأسباب التي أفضت بها إلى ذلك بكلمات تنشر إن شاء الله وتقرؤها ، فانتظر . وإن غدا لناظره قريب ، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

من كتاب النهضة الإصلاحية للأسرة المسلمة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين