توريث العداء الحصاد المر

  مرعيد بن عبدالله الشمري


من المسائل الاجتماعية التي يلاحظها الإنسان على بعض الناس، مسألة "توريث العداء"، وهي أمر منكر ينبغي التنبيه عليه والتحذير منه، فقد تقع مشكلة -صغيرة كانت أو كبيرة- بين طرفين -سواء كانوا فرداً أو جماعة- فيقوم أحد الطرفين أو كلاهما بتوصية الأقارب من أبناء وإخوة وغيرهم ببغض الطرف الآخر، ويحثونهم على عداوته أو إيذائه وعدم الكلام معه، وغير ذلك من صور العداء، التي يورثها جيل للجيل الذي يليه، فتنشأ أجيال متعادية، مع أنها قد لا تعرف سبب هذا العداء.
وعلى هذا فلابد من التنبيه على عدة وقفات، يمكن إيجازها في الآتي:


** الوقفة الأولى: الأصل أن يجتنب المسلم عداوة أخيه المسلم، وأن يبتعد عن أسبابها وأن يحرص على صفاء قلبه من الغلّ والبغض، فيكون كما قال الله تعالى مادحاً المؤمنين [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {الحشر:10}


وجاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بحضور الصحابة رضوان الله عليهم ثلاثة أيام متوالية عن رجل من أهل الجنة يدخل عليهم من باب معين، فيدخل في جميعها رجل من الصحابة غير مشهور، فعندما سُئل عن السبب قال: "... غير أني لا أبيت وفي قلبي غلّ على مسلم". وهناك الكثير من النصوص التي تتحدث عن ذم العداوة، وكلها تبين أنه يجب على المسلم أن يكون بعيداً عن البغض والعداوة والغل على المسلمين، وفي المقابل فإن تصفية القلب من الغل والنفس من عداوة الناس من أهم أسباب السعادة وطمأنينة البال.


إصلاح المتخاصمين
** الوقفة الثانية: أنه ينبغي أن يحرص الإنسان على مسألة الإصلاح بين الناس والسعي في حل المشكلات؛ فقد يوجد من المتخاصمين من يتمنى الإصلاح وترك القطيعة لكن يمنعه الخجل أو التخوف، وغير ذلك من وساوس الشيطان، فيأتي المصلح فيقرب ويجمع      بين القلوب بأيسر طريقة، بل يوجد كثير من المشكلات أسبابها تافهة جداً، والمتخاصمون كل يتمنى حل المشكلة، لكن يمنع من ذلك عدم وجود المصلحين وللأسف. ولذا ينبغي معرفة فضيلة الإصلاح، وما رتب الله عليه من الأجر العظيم، حيث يقول تعالى وتقدّس: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً). [النساء: 114].
** الوقفة الثالثة: أن يحرص الطرفان المتنازعان -إذا لم يُتمكن من الصلح ومن حل المشكلة- أن تكون المشكلة بينهما فقط، ولا يقحموا فيها أُناساً وأطرافاً أخرى فتتسع دائرة المشكلة. ومن القواعد الفقهية الذي ذكرها العلماء (أنه يرتكب الأدنى من المفسدتين عند اجتماعهما) فمفسدة فردين متخاصمين أدنى مفسدة من أطراف وجماعات ومؤسسات متنازعة ومتخاصمة، فترتكب المفسدة الأدنى؛ لأنها أخف ضرراً، لكن ليس معنى ذلك تبرير التهاجر بين اثنين بحجة ارتكاب أي المفسدتين، فإنهما في إثم من ارتكاب هذا الذنب ومطالبين بحل الخلاف وترك الهجر.
سنة سيئة


** الوقفة الرابعة: جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها". فالبادئ في زرع وتوريث العداء والخصام لمن بعده عليه وزره ووزر من عمل بهذا العمل والعياذ بالله؛ فالأمر جد خطير، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!
** الوقفة الخامسة: إن توريث العداء يعني تربية للأجيال والأبناء والصغار على المنكر وعلى العداوة وعلى فساد القلوب، فكيف بطفل صغير يسمع أباه أو أمه يأمره ببغض فلان من الناس أو عدم التحدث معه أو إيذائه، فهذا فيه أعظم الفساد لهذا الناشيء  الصغير.


فبدلاً من تربيته على القرآن والأخلاق الحسنة والخير والصلاح، تتحول التربية عند هؤلاء إلى تربية سيئة من أجل الأمور الشخصية، وقد يقوم البعض بتربية أبنائه على الخير والصلاح، لكن يزرع في نفوسه هذا العداء المنكر، فيكون في ذلك هدم سريع للبنيان الذي بناه على الخير.
التحرّر من الضغوط


** الوقفة السادسة: ينبغي للمتخاصمين، وكذلك من يتلقون مثل هذا الإرث السيء، ألاّ تأسرهم الضغوط الاجتماعية، والأمور الشخصية، والنفس الأمارة بالسوء، واتباع الهوى والشيطان، عن الإصلاح فيما بينهم، وأن يزيلوا هذا الخلاف؛ فالبعض قد يكون عنده همّ من ذلك وتراود نفسَه فكرةُ الإصلاح، لكنه يخشى أن يتحدث الناس بأنه ذلّ لخصمه أو أنه عاقّ لأبيه؛ لأنه تحدث مع خصم والده، والواجب على المسلم الحرّ، في مثل هذه الحالة، أن يتحرر من هذه الأسوار، فيرضي مولاه جلّ وعلا.


** الوقفة السابعة : ينبغي معرفة إثم الهجر والتباغض، وأن الأعمال تُرفع في كل يوم اثنين وخميس إلاّ المتخاصمين كما جاء في الحديث، كما أن العداء مخالف لأمر الله تعالى حيث قال [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] {الحجرات:10} ).. وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ولا تباغضوا).


** الوقفة الثامنة: ينبغي كذلك معرفة فضل العفو، والصفح عن الناس، والتجاوز عن زلاتهم، ويقول تعالى مادحاً: (والعافين عن الناس). [آل عمران: 134] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما زاد الله بعفو إلاّ عزاً"، وإن الإنسان عندما يكون هو البادئ بالسلام أو بالعفو يكتسب بذلك رفعةً ومحبة عند الله ثم الناس، ولابد أن يكون العفو من أجل الله تعالى، وليس لكسب رضا الناس وثنائهم.


** الوقفة التاسعة: يجب على المسلم أن يكون مدار الحب والبغض عنده هو الله سبحانه وتعالى، فعليه أن يحب لله، وأن يبغض من أجل الله، وأن يعادي من عادى الله، وأن يوالي من والى الله،  فبذلك تُنال ولاية الله تعالى كما قال ابن عباس رضي الله عنه، وهذا من أكبر العلامات الدالة على إيمان العبد    


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين