سنوات بَطل فيها الحج

إن بيت الله الحرام قد جعله الله -تعالى- مهوى للأفئدة؛ فلا ينقطع الشوق لزيارته، وملء العيون بأنواره.

والبشرية جيلاً بعد جيل يصطفي الله منها من يزوره في بيته، وقلما يخلو هذا البيت من الزوار.

ولكن التاريخ قد سجّل أوقاتًا لم يحج الناس فيها إلى البيت العتيق. وذلك على العكس من البيت المعمور، الذي لا يخلو أبدًا أبدًا من الزائرين من الملائكة منذ الأزل وحتى قيام الساعة.

ففي حديث المعراج وبعد وصول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- للسماء السابعة رفع له البيت المعمور، فسأل جبريل -عليه السلام- عنه فقال: “هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم”([1]).

وباستقراء كتب التاريخ وقفنا على بعض الأوقات التي خلا فيه البيت العتيق من الزوّار كليًّا أو جزئيًّا.

والخلو الكليّ للبيت العتيق -فيما أرى- لا يعني أنه لم يزر البيت زائر، ولكني أظن أنه قد تعطل وصول الوفود من أغلب الأقطار؛ إذ لا يمكن أن يتصور أن أهل مكة لن يتمكنوا من الحج والزيارة، وهم أهل الحرم الأصلاء. وهذا الخلو الكليّ قليل جدًّا، ونادر الحدوث في هذه الأمة.

لكن الخلو الجزئي هو الذي تكرر كثيرًا؛ إذ لا تستطيع جهة من الجهات أو قطر من الأقطار أو عدة أقطار أن تصل إلى البيت الحرام.

يقول ابن تغري بردي عن حوادث سنة (428هـ): “وفيها لم يحجّ أحد من العراق، وحجّ النّاس من مصر وغيرها”([2]).

وفي حوادث سنة خمسين وستمائة يقول: “وفيها حج بالنّاس من بغداد بعد أن كان بطل الحج منذ عشر سنين من سنة مات الخليفة المستنصر”([3]).

ويقول عبد الملك العصامي: “وفي موسم خمس وخمسين وستمائة لم يحج أحد من أهل الحجاز، ولم ترفع راية من رايات الملوك لأحد بمكة”([4]).

وفي أحيان لم يسلم الحجيج وهم في الحرم، فيتعطل الحج لمقتل الحجيج، يقول المسعودي: “ثم كانت سنة إحدى وخمسين ومائتين، فوقف بالناس إسماعيل بن يوسف العلويُّ، وَبَطَلَ الحج إلا يسيرًا؛ لأن إسماعيل هذا طلع على الحاج وهم بعرفَةَ في جموعه، فقتل من المسلمين خلقًا عظيمًا حتى زعموا أنه كان يسمع بالليل تلبية القتلى، وكان شأنه في الفساد عظيمًا”([5]).

وباستقرائنا لكتب التاريخ رصدنا بعض الأسباب التي عطلت أداء فريضة الحج، ومن هذه الأسباب:

القرامطة

وهم من أعظم الناس خطرًا، وتسلطًا على الحجيج، حتى إنهم قد استولوا على الحجر الأسود عام 317هـ، حتى قال سبط ابن الجوزي: “والظاهر أنَّه لم يحج أحدٌ [منذ] سنة سبع عشرة وثلاثمائة إلى سنة ست وعشرين وثلاثمائة خوفًا من القِرمِطي”([6]).

فطريق أهل العراق للحج كان محفوفًا بالمخاطر؛ حيث القتل في انتظارهم؛ لذا تعطل الحج من جهة أهل العراق سنين عددًا.

ثم توسّط الشريف أبو عليّ بين الخليفة المطيع وبين القرامطة لرد الحجر الأسود، والذي بقي عندهم إلى سنة 335هـ، وقيل: سنة 339هـ، فاستجابوا له بعد أن أخذوا مالاً عظيمًا، وجاءوا به إلى الكوفة وعلّقوه على الأسطوانة السابعة بين أساطين الجامع، ثم حملوه إلى مكانه.

فلولاه ما تم حج([7]).

الخلاف بين خلفاء الدول الإسلامية

معلوم أنه بعد زوال الدولة الأموية في المشرق تعددت حواضر الخلافة في البلدان الإسلامية؛ فصارت خلافة عباسية بالمشرق، وأخرى أموية بالأندلس، ثم صارت خلافتان بالمشرق، هما الخلافة العباسية ببغداد وفاطمية بمصر والمغرب.

وقد كانت المناوشات بينهما في بعض الأحيان تؤثر على أداء فريضة الحج، فعند الحديث عما وقع من الحوادث في سنة 372هـ يقول ابن تغري بردي: “قيل: إنّه لم يحجّ أحد من العراق من هذه السنة إلى سنة ثمانين، بسبب الفتن والخلف بين خلفاء بني العباس وبين خلفاء مصر بني عبيد”([8]).

الحروب بين السلاطين

بعد ضعف الخلافة العباسية صار يتحكم فيها ملوك وسلاطين، وهؤلاء الملوك والسلاطين قد يتنازعون فيما بينهم، يقول ابن الجوزي عند إيراده لأحداث سنة إحدى عشرة وأربعمائة: “ووقع حرب بين السلاطين عند واسط فاشتدت مجاعتهم، فقطعوا عشرين ألف رأس من النخل فأكلوا جمارها، ودقوا الأجذاع واستفوها، وأكلوا البغال والكلاب، وبيع الكر الحنطة بألف دينار قاشانية، وبطل الحج في هذه السنة”([9]).

هجمات الأعراب

قد احترفت بعض القبائل قطع الطرق، ولم تجد غضاضة في سلب الحجاج أموالهم، بل وسلبهم أرواحهم، يقول الحافظ ابن عساكر: “ولي على دمشق سعد الأعسر في سنة اثنتين وسبعين ومائتين، وكان سعد الأعسر قد فتح طريق الشام للحاج؛ لأن الأعراب كانوا قد تغلبوا على الطريق قبل ولاية سعد، وكان قد بطل الحج من طريق الشام ثلاث سنين، فخرج سعد إلى الأعراب وواقعهم، وقتل منهم خلقًا عظيمًا وفتح الطريق للحاج”([10]).

ومن القبائل التي احترفت قطع الطريق على الحجاج والتي لم تتورع عن قتلهم بنو سليم وبنو هلال([11]).

ويقول السيوطي عن أحداث سنة (417هـ): “وفيها انفرد المصريون بالحج، ولم يحج أهل العراق والمشرق لفساد الأعراب، وكذا في سنة ثماني عشرة وفي سنة تسع عشرة لم يحج أحد من أهل المشرق ولا من أهل الديار المصرية -أيضًا، إلا أن قومًا من خراسان ركبوا في البحر من مدينة مكران، فانتهوا إلى جدة، فحجوا، وفي سنة عشرين حج أهل مصر دون غيرهم”([12]).

الفتن الداخلية

قد تثور بين طوائف المجتمع الدينية ما يكون سببًا في تعطيل فريضة الحج، فعند الحديث عن حوادث سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة يقول الذهبي: “فيها ثارت العامة ببغداد على النصارى، فنهبوا البيعة وأحرقوها، فسقطت على جماعة من المسلمين، فهلكوا، وعظمت الفتنة ببغداد، وانتشر الدعار، وبطل الحج من العراق في هذه السنة”([13]).

فساد الطريق

قد ينشغل الحكام عن تأمين طرق الحجيج، فضلاً عن إصلاحها، فلا يتيسر السبيل للحج، فعند ذكر حوادث سنة ثلاث وأربعمائة يقول ابن الجوزي: “وفيها ورد حاج خراسان، ووقف الأمر في خروجهم إلى مكة لفساد في الطريق، وغيبة فخر الملك، فانصرفوا، وبطل الحج من خراسان والعراق”([14]).

برودة الجو

إن فصول العام لتدور على المناسك والعبادات والأركان، وقد تكون بعض الفصول حائلاً بين الحجيج وبين البيت العتيق، يقول ابن الأثير في أحداث عام (417هـ): “في هذه السنة كان بالعراق برد شديد جمد فيه الماء في دجلة والأنهار الكبيرة، فأما السواقي فإنها جمدت كلها، وتأخر المطر وزيادة دجلة، فلم يزرع في السواد إلا القليل. وفيها بطل الحج من خراسان والعراق”([15]).

الفيضانات

إذا زادت الأمطار عن معدلاتها فإنها قد تسبب الكوراث، ومنها قطع السبل والطرق، ففي أحداث سنة سبع وثلاثين وثلثمائة يقول ابن تغري بردي: “فيها كان الغرق ببغداد، وزادت دجلة إحدى وعشرين ذراعًا، وهرب الناس ووقعت الدّور، ومات تحت الرّدم خلق كثير. وفيها لم يحجّ أحد في هذه السنة من العراق”([16]).

المصدر: موقع اسلام أونلاين

----------

([1]) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في “بدء الخلق”، باب: “ذِكْرِ الْمَلاَئِكَةِ …”، ح(3207) من حديث مالك بن صعصعة -رضي الله عنه.

([2]) النجوم الزاهرة، (5/24).

([3]) السابق، (7/25).

([4]) سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، (4/237).

([5]) مروج الذهب ومعادن الجوهر، (4/310-311).

([6]) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، (17/6).

([7]) انظر: الشجرة المباركة في الأنساب الطالبية، ص(130)، والفخري في أنساب الطالبيين، ص(203)، وجمهرة أنساب العرب، ص(58)، ومراصد الاطلاع، (1/382)، ونهاية الأرب في فنون الأدب، (23/151)، وشفاء الغرام، (2/263)، وآثار البلاد، ص(118)، ومعجم البلدان، (2/224)، وتاريخ ابن خلدون، (7/218)، وتاريخ الإسلام، (7/429)، والمنتظم، (6/296)، وأخبار الراضي بالله والمتقي لله، ص(141، 205، 240)، وتوضيح المشتبه، (4/89).

([8]) النجوم الزاهرة، (4/141).

([9]) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي، (15/143).

([10]) تاريخ دمشق، (20/407) باختصار.

([11]) العبر في خبر من غبر للذهبي، (2/111).

([12]) حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، (2/285).

([13]) تاريخ الإسلام، (8/685).

([14]) المنتظم، (15/92).

([15]) الكامل في التاريخ، (7/696).

([16]) النجوم الزاهرة، (3/297).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين