سرّ الدعاء المستجاب

-1-

لعلكم تذكرون سلسلة المقالات التي نشرتها عن الدعاء قبل ست سنين. قرأها من قريب أخٌ فاضل فطلب مني أن أكتب خاتمة لها تتضمن شروط إجابة الدعاء، ففكرت ثم قررت أن لا أفعل، ليس كسلاً أو استخفافاً بطلبه يشهد الله، وإنما لأنها مما تمتلئ به كتب الدعاء، فإنه لا يكتب أحدٌ عن الدعاء إلا ويفصّل تلك الشروط، فلماذا أكرر وأعيد ما هو معروف لكل الناس؟

إلا أني لم أستطع أن أقاوم دافعاً ملك عليّ نفسي وأغراني بالكتابة في عنصر واحد، واحد فقط، وجدت له في حياتي أكبرَ الأثر في إجابة الدعاء، وأحب أن أشارك فيه إخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي من القرّاء الكرام.

-2-

أنا الآن في الحادية والستين، ولست أذكر متى بدأت بالدعاء على التحقيق، فلنقل إني كنت ابنَ عشر، فأنا أدعو -إذن- من نحو نصف قرن. ولئن دعوت في أول عمري دعاء متقطعاً فإني واثق من أنني لم أترك الدعاء في يوم من الأيام منذ سنين طويلة، ربما منذ ثلاثين سنة على الأقل، فقد صار الدعاء عندي (كما هو عند كثيرين) أقربَ إلى العادة، لا يخلو منه يوم أبداً، تماماً كما لا يخلو يومٌ من صلاة وطعام ومنام.

ولقد دعوت في كل وقت وفي كل حال: دعوت في جوف الليل وفي أعقاب الصلوات وفي ساعات يوم الجمعة كلها، ودعوت قائماً وراكعاً وفي القعود وفي السجود، ودعوت في الإقامة والسفر وفي الصحة والمرض، ودعوت في كل حال من الأحوال وبكل لفظ من الألفاظ، فاستُجيب دعائي في أحيان ولم يُستجَب في غيرها. ولم أستطع أن أدرك فرقاً حاسماً في نتيجة الدعاء بين وقت ووقت ومكان ومكان، ولكني أدركت الفرق في حالة واحدة، حالة متميزة من بين كل حالات الدعاء، فعلمت أنها هي السر في الدعاء المستجاب.

-3-

لقد أدركت أن أعظم أسباب إجابة الدعاء على الإطلاق هي حالة محددة تسيطر على القلب في أثناء الدعاء، ولقد جرّبت ذلك مرات أعجز عن إحصائها، بين صغائر الدعوات الهيّنة وأكابرها العِظام.

إن كلمة السر في المسألة هي: "اليأس واليقين". اليأس من الأسباب المادية الدنيوية جميعاً، واليقين المطلق بأن ما أطلبه لا يستطيع مخلوق أن يحققه، لا يستطيع أن يحققه إلا الربُّ العظيم.

كلما كنت أكثرَ يأساً من الأسباب المادية وأقربَ إلى اليقين بأن ما أطلبه من الله لا يستطيع أن يصنعه سواه صار الدعاء أقربَ إلى الإجابة، فإذا وصلت إلى حالة اليأس المطلق من نفسي ومن الناس جميعاً وعلمت علم اليقين أن طلبي لا يجيبه إلا الله واتجهت بقلبي كله إليه فإنني أعلم أن الاستجابة متحققة بإذن الله، لأن الله لن يردّني خائباً خاوي اليدين بعدما أقبلت عليه وأنا على تلك الحال. ولعل هذا هو المعنى الحقيقي لإجابة دعاء المضطر، فليس كل مضطر دعا يصل إلى الدرجة العليا من الاضطرار.

-4-

إن الثقة المطلقة بالدعاء تصل بالمرء أحياناً إلى حالة من اليقين الغريب الذي قد يبدو -في عين مراقب خارجي- ضرباً من الجنون. سأروي لكم مثالاً يصوّر هذه الحالة.

لما كنت صغيراً كان لأبي -رحمه الله- صديق من النوع الذي يصفه العوام بأنه من أهل الله، تَغْلب عليه السكينة والرضا وحسن الظن بالله في كل حال. كان مرة على سفر، وقد وعده أبي بإيصاله إلى المطار، وشغله شاغل فأخّره تأخيراً شديداً، حتى هَمّ أبي بإلغاء الرحلة لأنه أيقن أنه لن يدرك الطيارة. لكن الرجل أصر على الذهاب، وأمضى الطريق يدعو هادئاً كأنه صيّاد سمك رمى صِنارته في الماء ثم استلقى مسترخياً على ضفة البحيرة! كان أبي يكرر طول الطريق: لا أمل، لن تدرك الطيارة. فيردّ بيقين: "بل سأدركها بإذن الله"، ثم ينصرف إلى دعائه. عند الوصول إلى المطار ظهر أن الطيارة أغلقت أبوابها وبدأت تَدرُج على المَدْرج، ثم بدا للطيار ما حمله على التوقف والعودة إلى مربض الطيارة الأول لفحصها، فتأخر الإقلاع ساعة أو نحوها... وسافر الرجل!

قد تبدو القصة للقارئ من الموافقات الغريبة التي تتكرر بين حين وآخر، أما بالنسبة لي فقد بدت أعجوبة، ولولا التعريف الصارم للمعجزة لقلت إنها معجزة. ربما لم يكن تأخر الطيارة وإدراك صاحبنا لها أعجوبة من الدرجة الأولى بالفعل، غيرَ أن ما أبداه من يقين لا يتسلل إليه أدنى قدر من الشك، هذا اليقين الكامل الهائل هو الذي رأيته أعجوبةً من الأعاجيب.

-5-

ما أكثرَ ما اختبرت في حياتي تَوافقَ اليقين بالله واليأس من سواه مع استجابة الدعاء! أقسم لكم -غيرَ حانث- أني لمست بين الأمرين ارتباطاً عجيباً لا يمكن تفسيره بقوانين الاحتمالات، فإنّ احتمال الاستجابة يزداد كلما دعوت وأنا أشدّ يأساً من نفسي ومن دنيا الناس وأعظم يقيناً بأن ما أطلبه لا يقدر عليه إلا رب الناس، ولولا أن أطيل عليكم وأحوّل المقالة إلى صحائف من الذكريات لرويت لكم قصصاً وحوادث لا تكاد تصدَّق.

ولا يقتصر الأمر على كبائر حوادث الحياة وحدها، بل يشمل صغائرها وكبائرها على السواء، ولا تُستثنى من الإجابة المعجَّلة إلا الأدعية التي تحتمل الإجابة ضمن الأجل الطويل، فهذه قد تتأخر إجابتُها زماناً يقصر أو يطول، فإذا تحققت (ولو بعد حين) تذكرت دعائي وعلمت أنها ثمرة دعاء القلب اليائس مما عند الناس الواثق بما عند الله.

لقد تتبعت هذه المسألة فوجدت أن ما عرفته أنا بالتجربة عرفه عددٌ لا يُحصَى من الناس سواي. قرأت قصص كثير منهم وسمعت عن كثيرين، ولم يكن الجامع بينهم هو التديّن العالي، بل كان فقط وباختصار: "الإقبال على الدعاء بقلب معلّق بالله وباعتماد كامل عليه، يترافق مع اليأس الكامل من النفس ومن الناس وما في أيدي الناس".

-6-

بل إني لأزيدكم عجباً فأقول: إن الإسلام لم يكن شرطاً لإجابة الدعاء عندئذ، فإن الإنسان إذا وصل إلى تلك الحالة من اليأس من الأسباب المادية والاضطرار إلى الله ودعا أصدقَ الدعاء وأخلصَه بالقلب المنقطع إلى الله لم يردّه الله خائباً، حتى لو كان من العصاة أو من المشركين. فأما القصص التي سمعتها وقرأتها فكثيرة، وأما الدليل ففي كتاب الله: {أمّن يُجيب المُضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟} فأطلق ولم يقيّد، فشملت الآية كل مضطر مسلماً وغيرَ مسلم على السواء. وقال تبارك وتعالى: {وإذا مسّكم الضُّرّ في البحر ضلّ مَن تدعون إلا إياه، فلما نجّاكم إلى البَرّ أعرضتم، وكان الإنسان كفوراً}.

فدلّت هذه الآية وأمثالها على أن الله أجاب دعاء الداعي عندما بلغ به اليأس والاضطرار غايتَه، وكما هو معلوم فإن القلب يتجه في تلك الأحوال إلى الله وينقطع أمله من الناس أجمعين، ولا سيما عندما يجد نفسه بعيداً عن برّ الأمان ضعيفاً عاجزاً في بحر الماء أو في جو السماء. وما أكثرَ ما يعود إلى الله المذنبون والعصاة وما أكثرَ ما يعرف اللهَ منكروه إذا أصابهم الخطر في الماء أو في السماء، فيدعون الله فيستجيب لهم الدعاء، فإذا أمِنُوا ووطئت أقدامُهم البرَّ نسوا الله الذي دَعَوه وعادوا إلى العصيان والنكران!

-7-

لعل هذا هو أهم سر من أسرار الدعاء. وإني والله ما بلغ بي اليأس من نفسي ومن الناس أقصاه ثم دعوت الله وقلبي حاضرٌ عامر باليقين إلا رأيت أثر ذلك الدعاء، مع أني لست إلا واحداً من عامة الناس لا أتميز بعبادة ولا تقوى ولا أدّعي الصلاح، بل إني لأستصغر نفسي كلما رأيت غيري من أصحاب الطاعات والقربات. فما مررتُ به أنا من تجارب الدعاء يمكن أن يمرّ به أي واحد من القراء.

فيا عبد الله المكروب: إذا بلغ بك اليأس غايته من حَوْلك وقوتك ومن الناس ومن دنيا الناس وأيقنت يقيناً تاماً جازماً مطلقاً بأن أحداً لا يستطيع أن يساعدك إلا الله، إذا وصلت إلى تلك الحالة وتلبّسْتَها بصدق كامل فارفع يديك إلى السماء واطلب من الله ما شئت وأنت موقن بأنه مجيبٌ دعاءك لا محالة، ثم انتظر الفرج غيرَ بعيد.

فإذا وصلت لتلك الحالة ثم دعوت وثابرت على الدعاء فلم يُستجَب الدعاء فاعلم أن إصرار الله على عدم الإجابة رسالةٌ لك، أن الله قد سمع دعاءك وقرر أن يستجيب له بطريقته وليس بطريقتك، فيختار ما "يعلم" أنه خير لك لا ما "تظن" أنت -أيها العبد الضعيف المسكين- أنه الخير. فاحمد الله في كل حال وارضَ بقضائه، وانتظر الخير الذي أعدَّه لك ولو بعد حين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين