أنفاس من عبق دمشق

 

مدينة يهيم بها عشقا كل من استنشق عبير ياسمينها ، وهكذا كان حالي معها منذ زيارتي الأولى لها قبل تسعة أعوام ، وحتى زيارتي لها منذ أيام.

ومع حرصي على زيارة كل شبر من آثارها ، حرصت في زيارتي تلك للقاء أحد أهلها المتيمين بحبها .

وهو ممن اصطفاهم الله لحفظ ذاكرتها وتوثيق ما بقي وما اندثر من معالمها .

إنه الأستاذ "أحمد المفتي" .

والتعريف به متشعب بقدر تشعب مواهبه ، فهو المُعَلّم والإعلامي والكاتب والباحث التاريخي والمدقق الأثري والفنان الذي يجمع بين الشِعر والرسم والتصوير والزخرفة والخط العربي بمختلف أنواعه .

تبادلنا حديثا كله شجون عن معالم دمشق التي تبدلت بحكم الزحف العمراني الجاهل والجائر .

حدثني بأن حدود سور دمشق الشائعة ليست حقيقية ، حيث يقع خارج السور أحياء تجاوز عمرها خمسمائة عام ، وأن العديد من المعالم التي عاصرها هو من تلك الآثار والمعالم لتلك الأحياء الواقعة خارج السور قد اختفت بفعل الهدم والتوسع العمراني الجائر .

أصاب الهدم منطقة من أجمل مناطق دمشق وهي حي "الحريقة" بفعل مدافع الغزاة الفرنسيين عام 1925 . ثم تلاه تغيير متعمد لمعالم المدينة على يد المهندس الفرنسي "إيكوشار" الذي وصفه بأنه المجرم الأكبر في حق دمشق وآثارها وحدائقها ، فهو الذي خطط المدينة وأزال بتخطيطه "سوق ساروجة" الذي كان حديقة غنّاء بها العديد من المنازل والفنادق الراقية . 

واستكمل من جاء بعد رحيل المحتل الفرنسي نفس خطة التدمير وتغيير معالم المدينة ، فقد تم الجور على حدائق دمشق التي تغنى بها زوارها ، بدعوى التوسع العمراني الذي ازداد زحفه في فترة السبعينيات .

ومن لطائف ما حدثني به أن الأرض الممتدة من التكية السليمانية وحتي ساحة الأمويين والتي عليها أرض معرض دمشق الدولي حالياً ، هي أراضي وقف من زمن الأمويين.

أما عن غرض الوقف فهو أمر يستحق الذكر والإشادة، فقد كانت تلك الأرض مزروعة وكانت موقوفة كمرعى للحيوانات التي كبر سنها أو استغنى عنها أهلها أوالتي لا مأوى لها .

ومن أراضي الوقف التي تم التعدي عليها أيضاً المنطقة المقام عليها فندق الفور سيزون حاليا والتي كانت تسمي وادي البنفسج ومازال بها المدرسة الفروخشاهية 579 هجرية ، اوقفتها الخاتون لابنها فروخ شاه ابن شاهنشاه اخي صلاح الدين الايوبي .

وبرغم أن الأصل حرمة التعدي على الأراضي الموقوفة فإن تلك الأراضي تم استثمارها في إنشاء مبان استثمارية، شوهت المكان، وأزالت صفحة من تاريخ المدينة ، وجزءا من رئتها الخضراء التي كانت تتنفس منها .

لم يكتف محدثي المؤرخ الفنان بمفيد الحديث ، بل قدم لي بعضا من صوره الفوتوغرافية التي صورها في شبابه في الخمسينيات لمعالم دمشق التي اندثرت ، ثم قام هو بموهبته الفنية في الرسم برسم تلك المعالم المندثرة من وحي صوره الفوتوغرافية .

وتشعب الحديث بيننا لفن الشعر العربي والخط العربي الذي يمثل عشقا مشتركا بيننا ، وكان ركناه "نزار قباني" في الشعر ، ورائد من رواد الخط العربي في القرن العشرين وهو "بدوي الديراني" رحمهما الله .

أدركت في زيارتي تلك أن ما يقوم به هذا الرجل بمفرده من دراسات وأعمال وبحوث وتوثيق يعجز عن القيام به مؤسسات بكاملها .

والشجون التي أثارها الحديث حول دمشق هي ذات الشجون في كل المدن العربية تقريبا ، حيث لا اعتبار لحجر ولا لبشر ولا تاريخ ولا فن ولا جمال .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين