بِطانةُ السُّوء


بقلم: الشيخ نزيه مطرجي


إن الله تعالى إذا أراد بعبد خيراً جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه، وزاجراً من قلبه يُرشده ويَغْشاه! وقد يقيِّض الله للناس قُرناء من الجنّ والإنس، يُزيِّنون لهم ما بين أيديهم وما خَلْفهم، ويَصدّونهم عن السبيل، ويقودونهم إلى النار، فيستوون في الخَسار والدَّمار.
إن رياحاً من السَّموم تحمل المفاسد والشُّرور، تهبّ على المؤمن من مكان قريب غير منظور، فيحار في البحث عن مَنْشئِها، وسبب تكوّنها، وإن مصدرها لهو أقرب إليه من موقع ظلِّه.


ذلك الشرّ المستور، والضّر المَكْنون يكمُن في بِطانة السوء.
إن الله تعالى يَنهى المؤمنين، وبخاصّة أولي الأمر منهم، عن اتخاذ المنافقين بطانةً، يُطْلعونهم على سرائرهم وما يَضْمرونه، يقول الله عزوجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] {آل عمران:118}


إن المنافقين المُفسدين لا يَأْلونَ المؤمنينَ خَبالاً، أي إنهم يَسْعون في مُخالفتهم وفِعل ما يضرُّهم بكلّ مُمكن، وبما يستطيعون من المَكر والخِداع، ويودُّون ما يُحرِجُ المؤمنين وما يشقُّ عليهم. ورد في الصحيح: «ما بَعَثَ الله من نبيٍّ، ولا استخلَف من خَليفةٍ إلا كانت له بِطانتان: بطانةٌ تأمره بالخير وتحضُّه عليه، وبطانةٌ تأمره بالسوء وتحضّه عليه، والمعصومُ من عَصمَهُ الله» أخرجه البخاري.


إن لهذه الطائفة من بطانة السّوء دُخاناً وناراً، أما دُخانُها فيَعلو على صفحات وجوههم، وفَلَتات ألسنتهم من العداوة، وأما النار فتكمن في زَنْدِ نفوسهم بما تحمل من البغضاء، ما لا يخفى على اللَّبيب العاقل, والله تعالى أعلم بما تنطوي عليه ضمائرهم، وما تُكِنّه سرائرهم من الحسد والغِلّ للمؤمنين.


إن بطانة الرجل هم خاصّته الذين يُفضي إليهم بأسراره وخباياه، ومَثَلُهم في القرب كمثل البِطانة من الثوب، التي تلي البَدن. فإذا كانوا من أهل أعوان السّوء كانوا شَرَّ بَلاء على العباد تحت أديم السماء!


إن كثيراً من الوُلاة في شؤون الدنيا والدين، يلوذ بهم أعوانُ السوء، ويطلبون قربَهم، ويخطُبون وُدَّهم، ولا يزالون كذلك حتى يصيروا مقرَّبين من ولاة الأمور كأنهم ربائِبُ في الحجور.


وأعوانُ السوء يسعون إلى اجتياز الاختبار الأصعب بأن يغالوا في التملّق والتقرّب، وفي المديح الكاذب والثناء الباطل، ليحوزوا ثقة أسيادهم واطمئنانهم، فإذا تحقّق لهم ذلك انفسحت الطريق أمامهم لتحقيق المطالب والمآرب، وحيازة المال والنّوال، وبلوغ الجاه والرَّفاه.


ثم يمضي هؤلاء الأعوان في حياكة مكائد المكر والخداع، والغِواية والسِّعاية، وقول الزُّور وشهادة الزُّور، من أجل تسويد بيضِ الوُجوه، وتبييضِ سُودِ الوجوه، وإدناء الكاذبين، وإبعاد الصادقين... وهم يتربّصون بالمخلصين الغَرّات، ويحسدون المَحظيِّين والمُقرَّبين عند ساداتهم، ويرسمون خُطط الدّسائس والوَساوس!


فكم من أصحابٍ متآخين في الله يجتمعون على الله ويفترقون عليه، قد ائتلفوا بينهم ائتلاف حبّات عقد اللُّؤلؤ المنظوم، لا يمرّ النّسيم عليهم إلا بعِطْر، ولا تطلُع الشمس عليهم إلا بزَهر، لا تمرّ أيامُ صحبتهم إلا بصَفاء، ولا يمضي زمانُ لقائهم إلا بوفاء، قد دخل بينهم لما تولّوا الولايات واشون حاسدون، أَفسدوا ما بينَهم من وَشائج وروابط بالغيبة والنّميمة، وبالكذب والبُهتان، والظلم والعدوان، فنالهم من عداء حاسديهم هَمٌّ وبلاء، وعداوةٌ وبغضاء، ثم تفرَّقوا تفرُّق الخُصوم والأعداء.


ما أحوج قادتَنا ووُلاة أمورنا إلى أعوانِ صِدْقٍ يُعينون ولا يَكيدون، ويَنصحون ولا يَغُشّون، ويصدُقون ولا يُخادعون، ويُخلصون ولا يُنافقون, وما أحوجَهم إلى مصاحبة الأخيار ومفارقة الفُجَّار.


فتربَّصوا يا وُلاةَ الأمور، ببطانة السّوء والفجور، ولا تكونوا أُذُناً لكذبهم وخِداعهم، بل أَوصدوا دونهم الأبواب، ورُدّوا في وجوههم المكائد إن كنتم تؤمنون بجَلْب المصالح ودَرْءِ المفاسد




جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين