معنى الحديث الحسن

قالوا: قد بينت لنا معنى الحديث الصحيح في مقال سابق فشفيتنا وأوفيت الموضوع حقه، واذكر لنا الآن ما معنى الحديث الحسن؟

قلت: استعمله أهل هذا الشأن في ثلاثة معان أيضًا،

قالوا: ما هي؟

قلت:

الأول: الحديث الحسن الصحيح، وهو ما عرف مخرجه وتوفرت فيه شروط الصحيح، وذلك الذي يقول فيه الترمذي وغيره: هذا حديث حسن صحيح.

الثاني: الحديث الحسن (مجردا عن قيد الصحيح)، وهو الذي عرف مخرجه، وتوفرت فيه شروط الصحيح غير الضبط، نقص في راو أو أكثر من رواته، فهذا يسمى حسنا وحده، ولا يقرن به وصف الصحيح، وله أمثلة في سنن الترمذي، وهو الذي يورده البخاري ومسلم في المتابعات، وقد يعتبره غيرهما صحيحا، وإذا تعددت طرقه الجابرة لنقصان وصف الضبط علا وسمي صحيحا لغيره.

قال الخطابي في معالم السنن: "ثم اعلموا أن الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام: حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث سقيم، فالصحيح عندهم ما اتصل سنده وعدِّلت نقلته، والحسن منه ما عرف مخرجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء، وكتاب أبي داود جامع لهذين النوعين من الحديث". قلت: قوله "وعليه مدار .." أي على الصحيح والحسن.

قلت: فالحسن على ما عرف به الخطابي قد يكون صحيحا وقد يكون دون الصحيح، ومن ثم قسمته قسمين: الحديث الحسن الصحيح، والحديث الحسن المجرد، وقال ابن دقيق العيد بعد نقل تعريف الخطابي للحسن: "وهذا الحد صادق على الصحيح أيضًا فيدخل في حد الحسن".

الثالث: الحديث الحسن لغيره، وهو الذي التي توفرت فيه شروط الصحيح في العدالة دون الاتصال أو الضبط، وانجبر ذلك النقصان بحديث مثله، قال الترمذي في العلل له: "وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن، فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا: كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذا ويروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن".

قالوا: نراك غير دقيق في التقسيم، والاضطراب في أساسيات العلوم وتقسيماتها لا يليق بشأنك، لولا قلت: الحديث الحسن ينقسم إلى حسن وحسن لغيره، والحسن ينقسم إلى حسن صحيح وحسن غير صحيح؟

قلت: نحوت في التقسيم النحو الذي نحوته زيادة في الإيضاح وللتأكيد على أن النوع الأول لا يسمى الحسن وحده، بل يقرن بالصحيح.

قالوا: قلت في النوع الأول: "وذلك الذي يقول فيه الترمذي وغيره: هذا حديث حسن صحيح"، قد عرفنا ذلك من عادة الترمذي، فاذكر لنا مثالا له من غير الترمذي.

قلت: قال الترمذي في الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران بن طلحة،عن أمه حمنة بنت جحش قالت:كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه ... الحديث. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح ... قال: وسألت محمدا (أي البخاري) عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن صحيح، وهكذا قال أحمد بن حنبل هو حديث حسن صحيح.

قالوا: فما للشيخين لم يخرجاه وقد صححه البخاري وأحمد؟

قلت: قد ذكرت لكم في مقالي السابق عن معنى الحديث الصحيح أن الشيخين لم يخرجا في الأصول إلا النوع الأول من الصحيح، وهذا الحديث من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل، وليس في الضبط على شرطهما.

قالوا: ائتنا بمثال آخر لهذا النوع مما لم يخرجه الشيخان مبينا لنا علته. قالت: أخرج الترمذي في الطهارة، باب ما جاء في الرخصة في ذلك (أي في فضل طهور المرأة): حدثنا قتيبة حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ منه فقالت: يا رسول الله إني كنت جنبا فقال: إن الماء لا يجنب. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

قلت: وقد رواه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني، وصححه ابن خزيمة، ورواه الحاكم في المستدرك من طريق سفيان الثوري وشعبة عن سماك بن حرب، وقال: هذا حديث صحيح في الطهارة، ولم يخرجاه، ولا يحفظ له علة، ووافقه الذهبي. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قد أعله قوم بسماك بن حرب لأنه كان يقبل التلقين، ولكن قد رواه عنه شعبة، وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم.

وقلت: لم يخرج البخاري لسماك إلا استشهادا، ومسلم وإن أخرج له، ولكن لم يخرج لعكرمة، وحديث سماك عن عكرمة ليس بذاك، قال يعقوب بن شيبة: وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين، ومن سمع من سماك قديما مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه صحيح مستقيم، وحكى عن ابن المديني قوله: رواية سماك عن عكرمة مضطربة. سفيان وشعبة يجعلانها عن عكرمة، وغيرهما يقول: عن ابن عباس.

قالوا: ائتنا بمثال للنوع الثاني.

قلت: قال الترمذي في العلل الكبير: حَدَّثَنا إبراهيم بن سعيد، حَدَّثَنا سعد بن عبد الحميد بن جعفر عن ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء واجعل الماء بين أصابع يديك ورجليك. قال الترمذي: سَألْتُ مُحَمدًا عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن. وموسى بن عقبة سمع من صالح مولى التوأمة قديما، وكان أحمد يقول من سمع من صالح قديما فسماعه حسن ومن سمع منه أخيرا فكأنه يضعف سماعه.

فهذا الحديث لا يبلغ درجة الصحيح، وحسنه البخاري.

قلت: ومن أمثلته: قال الترمذي في العلل الكبير: حَدَّثَنا يحيى بن موسى، حَدَّثَنا عَبد الرَّزَّاق عن إسرائيل عن عامر بن شقيق عن أبي وائل عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم خلل لحيته. قال محمد أصح شيء عندي في التخليل حديث عثمان قلت إنهم يتكلمون في هذا الحديث فقال هو حسن.

قالوا: اذكر لنا مثالا من النوع الثاني مما قيل فيه: إنه صحيح لغيره.

قلت: أخرج الترمذي في الطهارة، باب ما جاء في السواك: حدثنا أبو كريب حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث محمد بن إسحق عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن زيد بن خالدعن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي سلمة عن أبي هريرة وزيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما عندي صحيح، لأنه قد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، وحديث أبي هريرة إنما صح لأنه قد روي من غير وجه.

قالوا: اشرح لنا الثالث بمثال.

قلت: كتاب الترمذي حافل بأمثلته، فلا حاجة إلى الإطالة، ولكن لا بد من التنبيه هنا على أمر بالغ الخطورة، وهو أن الترمذي حينما يحسن حديثا من أجل كثرة الطرق، والحديث له عدة أجزاء، فإنما يعني تحسين الجزء الذي يوافق ترجمة الباب، وقد ظن بعض الناس أنه يحسن الحديث بأجزائه جميعا، فأخطأوا، وكذلك أخطأ العلامة أحمد محمد شاكر والشيخ الألباني رحمهما الله إذ انتقدا الترمذي في بعض الأمكنة أنه حسّن الحديث، مع أن الحسن جزء من الحديث.

قالوا: اشرح لنا الأمر بمثال فإنه كما ذكرت أمر ذو خطر،

قلت: سأفرد مقالا لبيانه إن شاء الله تعالى.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين