زلَّةُ العالِـم زلَّةُ العالَـم

هذه التغريدةُ من الدكتور الشنقيطي غريبةٌ حقا ، وترجع غرابتها إلى الأسباب التالية : 

( الأول ) أنها صادرة من رجلٍ كُنَّا وما زلنا نُحسن فيه الظنَّ على غير معرفة شخصية بيننا ؛ سوى ما نقرأ له من مقالات ، أو نسمع منه أثناء ظهوره على بعض القنوات ، وإننا لنرجو في قرارة أنفسنا أن يكون ما جاء في التغريدة المنسوبة إليه غير صحيح النسبة إليه ، أو أنه كلام قاله في وقت مضى ، ثم تراجع عنه .. 

( الثاني ) أن تاريخ هذه التغريدة كما ترون يعود إلى يوم 19 / 12 / 2012 م مما يعني أنه مضى على كتابتها خمس سنوات ونصف السنة .. فما الذي جعل الناس يسكتون عنها كل تلك الفترة ، ثم تُنبش الآن من مخبئها للنقد بعد هذه السنين .؟ 

( ثالثا ) : وبِغَضِّ النظر عن قائل هذه التغريدة ، وعما يقصدُ وما لا يقصد من قوله فيها ؛ فالغريبُ حقا أنْ يزعم كاتبها أن في الفقه الإسلامي مصائبَ ؛ مناقضةً لبدَهيَّات القرآن وفطرة الإنسان ؛ وذكر منها [ رجم الزانى وقتل المرتد وفقه أهل الذمة وفقه الرق ] .. وكأنَّ لديه مصائبَ فقهية أخرى ؛ سكتَ عنها في تغريدته لضيق المقام .؟ ولست أدري كيف استساغ نَظْمَ هذه القضايا في سلك المصائب ، وهي مما عُني به الشرعُ الحنيف في تنظيم الحياة الاجتماعية بين رعايا الدولة الإسلامية من مسلمين وغير مسلمين على ضوء الكتاب والسنة . 

فــ ( رجم الزاني ) و (قتل المرتد ) حدَّان من حدود الله ، ثابتان بقوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيّبُ الزاني , والنفسُ بالنفس , والتاركُ لدينه المفارقُ للجماعة " رواه البخاري ومسلم .

و ( إقامةُ حدِّ الزِّنا على الذميّ ) هو مما ثبتَ بالسنة الصحيحة أيضا ، وقد وقع الخلاف فيه بين الأئمة ؛ تبعا لاختلافهم في التأويل . ومدار خلافهم على حديث ابن عمر رضي الله عنه في رجم يهوديين زنيا [ عن نافع عن بن عمر رضي الله عنه : أن يهوديين زنيا فأتي بهما إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأمر برجمهما قال فرأيت الرجل يقيها بنفسه ] مسند أحمد .

فالشافعيُّ أخذَ بهذا الحديث ورأى أن الذميَّ يكون محصنا بالزواج .. ومالكُ لم يأخذ به ، لأنه لا يرى غير المسلم محصنا ، ويجيب عن رجم اليهوديين بأن النبي صلى الله عليه وسلم نفذ عليهما حكم التوراة ، ولم يكن نزل عليه بعدُ في حد الزنا شيء يومئذ .. وأبو يوسف يرى أن أهل الكتاب يُحصِن بعضُهم بعضًا ، ويُحصِنُ المسلمُ النصرانية ، ولا تُحصِنُه النصرانية . 

أما ( مسألةُ الرقّ ) فما أَذِنَ الإسلام بالاسترقاق إلا ضرورة ؛ عملا بمبدأ معاملة الأعداء بالمثل ، ولولا أن الرقَّ كان عرفا دوليا عاما لما شُرع في الإسلام ، لأنه منافٍ لكرامة الإنسان { ولقد كرَّمنا بني آدم } لهذا فرض الإسلامُ تحريرَ الرقيق فرضاً في (كفارة القتل الخطأ) ، وفي (كفارة الظهار) ، و ( كفارة الإفطار بالجماع في نهار رمضان) .. ثم ندب إلى تحرير الرقيق مطلقا ، وجعله من أجلِّ القُربات إلى الله ، ومثبِّتاً للأقدام أثناء اجتياز الصراط يوم القيامة { فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) } ثم اصطلح العالم أخيراً على إلغاء الرقّ ، وانتهت مشكلته تماما منذ عام 1906 م ، ولم يشذَّ عن ذلك سوى بعضِ الدول في أفريقيا ، فما زال الرقُّ سارياً بينهم حتى الآن . وهو تصرُّف شاذ في منطقة محدودة من العالم ؛ لا ينبغي أن يعتبر من مصائب الفقه الإسلامي بعامَّة . لأنه ليس كذلك . فالرقُّ لم يخترعه فقهاء المسلمين ، وإنما هو مشكلةٌ كانت قائمةً قبل ظهور الإسلام بآلاف السنين ، وكان الرقيق يخضع لأحكام تجعله أقلَّ قدراً من الحيوان . فلما جاء الإسلامُ وضع للرق ضوابط تليق بكرامة الإنسان ، وتدعو إلى الخلاص منه ، فكان الإسلام بذلك أول من دعا إلى تحرير الرقيق في العالم . ومن حقِّ أحكامه على البشرية أن تُحمَد ولا تُجحَد ، لا أن تتهم بجريمة لم ترتكبها :

إذا محاسنيَ اللاتي أُدِلُّ بـهــــــــا : صارتْ عيوباً فقُلْ لي كيف أعتذرُ

لذلك يحقُّ لنا أن نتساءل هنا قائلين : كيف استساغ الكاتبُ وصفَ أحكام الشريعة الإسلامية بــ (المصائب) وهو وصفٌ يصادمُ قوله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا .. (3) المائدة } فشريعةُ الإسلام نعمةٌ وليست نقمةً ، وحُكْمُها صائبٌ وليس من المصائب . وإذا اعتذر الكاتبُ بأنه لا يقصد أن يَعِيبُ أحكام الشريعة بكلامه ، وإنما يَعِيبُ تلك" المسائل الفقهية" البعيدة عن روح الإسلام .. فلا يقبل اعتذاره ، لأن القضايا التي مثَّلَ بها لتلك " المصائب " المزعومة ، ليست من اختراع الفقهاء ، وإنما هي قضايا ثابتة بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة ..وقديما قالوا : " لا اجتهاد في مورد النص " ..

( رابعاً ) : قال صلى الله عليه وسلم [ ما أحلَّ الله في كتابه فهو حلالٌ ، وما حرَّم فهو حرامٌ ، وما سكت عنه فهو عفوٌ ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ، ثُمَّ تلا هذه الآية : "وما كان ربك نسيَّا".] فالحلالُ والحرامُ مبينان بالنص ، وليسا في دائرة الرأي والاجتهاد .. والزنا والردة هما مما حرم الله ، كما أن علاقة المسلم بأهل الذمة والأرقاء هي مما تكفل ببيانها الكتابُ والسنة ، وحين تدخَّل الكاتبُ في هذه القضايا كان تدخُّلُه في صميم (المنطقة المحظورة) وكان كلامُهُ محلّاً للنقد والملامة ، ولو أنه تحدَّثَ عن أمور مسكوتٍ عنها لعذرناه ، لأن سكوتَ الشَّرع أحيانا عن بعض شؤون الحياة ؛ هو سكوتٌ مقصودٌ من الشارع الحكيم سبحانه وتعالى ، ليمنح الأمة حقَّ إبداء الرأي والاختيار ، في دائرةٍ واسعةٍ ؛ تسمى ( دائرة المباح ) عبَّر عنها الفقهاء بالقاعدة الشرعية ( الأصلُ في الأشياء الإباحة ) وهي – بحمد الله تعالى - أوسعُ من دائرتي الحلال والحرام . { ما جعل عليكم في الدين من حرج } .

أملنا كبير أن نقرأ لصاحب هذه التغريدة كلاما صحيحا صريحا، يعدل فيه عن الإيهام بالشذوذ، قال صلى الله عليه وسلم [عَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةَ ] المستدرك على الصحيحين . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين