الرحمة حق الظالم أم المظلوم؟!

الرحـمة
حق الظالم أم المظلوم ؟!
(1)


الدكتور محمود أحمد الزين


أول ما يقابلك به خصوم الإسلام ـ حين يعترضون عليه ـ هو أنه لا يناسب التقدم الحضاري الإنساني؛ لأن نظام العقوبات فيه نظام وحشي يقوم على ضرب الرقاب، وقطع الأيدي، وجلد الظهور؛ ولأنه يوقع هذه العقوبات في أحوال لا تستحقها، فالزاني يرجم لأجل تصرف شخصي بينه وبين التي تشاركه، والسارق تقطع يده في مقابل شيء من المال، مهما كثر فإنه لا يساوي قيمة اليد الإنسانية، وربما يكون سرق عن حاجة ماسة، ويكون الغني الذي لم يرق له قلبه أحق منه بالقطع، وعلى افتراض أنه مجرم، فالتقدم العلمي النفسي أثبت أن المجرم مريض يحتاج إلى العلاج، فهو أجدر بالرحمة لا بالعقوبة؛ لأن العقوبات القاسية لا تصلح نفسه، بل تزيده تعقيداً وحقداً على مجتمعه فيمعن في الجريمة أكثر.
فبماذا نجيب هؤلاء الناقدين؟! الذي يناسب عندي في جوابهم هو أن هؤلاء يفيضون رحمة ورقة على المجرم، ولا يتذكرون ضحاياه بشيء من الرحمة والرقة، فيخيل إليك أن أحدهم إذا رأى وحشاً ـ في صورة إنسان هجم على طفل فقطعه ثم أحرقه ـ ينشغل عن ذلك الطفل البريء المقطع بمنظر المجرم المعقد النفس، يرثي له وينعى على المجتمع الذي حرمه حقوقه فجعله مجرماً !!
أخبرونا يا عقلاء الدنيا أي الجانبين أحق بالرحمة المجرم أم الضحية ؟! فهؤلاء الناقدون للتشريع القرآني يزعمون أن المجرم مريض نفسياً ينبغي أن يوضع في مصحة نفسية تريحه بجوها الجميل ونعيمها الرغد ورعايتها اللطيفة، حتى تزول عنه عقدة الرغبة في الإجرام، ولو أنت أردت أن تختبر أحدهم فسلمته مسدساً في وقت هجوم اللصوص عليه يريدون ماله فضلاً عن نفسه، لانهال عليهم رمياً بالرصاص دون تريث، فيثبت لك أنه رحيم بالمجرم حين تكون الضحية غيره وغير ذويه فيتكرم بالعفو، لكن على حساب الآخرين لا على حسابه. وهؤلاء حين يقدمون نظريتهم تلك في العقوبات يحسبون أنهم ارتقوا قمة التحضر والإنسانية، وصار من حقهم أن يسخروا من نظم العقوبات كلها، لاسيما النظم الإسلامية؛ لأنها جعلته هدفاً للعقاب لا للعلاج.
ولو عمقوا النظر المنصف في التشريع القرآني: أهدافه وأساسياته ورعايته الاجتماعية لكل رعاياه لعلموا أنه لم تفته نظرة العطف والرحمة على المجتمع وعلى المجرم جميعاً. أما رحمته بالمجتمع فبمكافحة الجريمة مكافحة كاملة، حتى يعيش بطمأنينة وأمان، وأما رحمته بالمجرم فتوقيتها قبل أن يرتكب جريمته، وذلك بتأمين الحاجات الأساسية له، حتى لا يقع في عقدة الحقد على الآخرين، تقدم إليه عن طريق تأمين العمل الشريف إن أمكنه العمل، وإلا فعن طريق كفالة الأهل إن كانوا قادرين على ذلك، وإلا فعن طريق رعاية المجتمع له، أعني بيت المال إن وجد، وإلا فعن طريق إلزام الحاكم للأغنياء القادرين إن لم يوجد بيت المال، ثم بحمايته من عدوان المعتدين على ماله وحقوقه، حتى لا ينتقم منهم بنفسه فيكثر الفساد، ثم بإعلامه عن العقوبة التي تنتظره فعلاً إن تجرأ على الجريمة، حتى يرتدع عنها مسبقاً، وقبل ذلك كله تربية اعتقادية أساسها أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن كل إنسان محاسب على خطئه وظلمه في العاجل وفي الحياة الآخرة؛ لأن الله ربَّ الجميع هو الحاكم الأعظم، الذي لا يرضى بظلم أحد، ولا ينجو من عقابه مجرم، وهو يحب العفو، لكن لا يجبر المظلوم عليه؛ لأن ذلك حيف للظالم على المظلوم وإضاعة لحقه.
فإذا لم ينفع ذلك كله في كفه عن الجريمة فليس المجتمع هو الذي عقده وساقه إلى الجريمة، فهذه الوقاية الكثيرة تنتج إنساناً سوياً، والمتجرئ بعدها على الجريمة فاقد الشعور الإنساني بسبب جشعه وأنانيته وحقده الذي لا مبرر له، فهو جدير بالعقاب لا يردعه عن الجريمة إلا خوفه منه، وإذا لم يردعه هذا الخوف كان حقه من الرعاية قد انتهى، وكان العقاب له جزاءً وفاقاً، وكان الرفق به في الأجواء الرحيمة، أجواء المصحات النفسية بنعيمها وحدائقها ورعايتها إغراء له بالجريمة قبل الوقوع فيها، وإغراء بمعاودتها بعد الوقوع فيها، وإهمالاً لأمن المجتمع كله في سبيل فرد شاذ لم ينجع فيه العلاج قبل الإيغال في طريق الجريمة، ويستبعد أن ينجع فيه بعد ذلك كل الاستبعاد. فتقديم موانع مرض الإجرام هو الحل الأمثل، وجعله قبل وقوع الجريمة أهم مميزات الشريعة القرآنية، وهذه المميزات فاتت أصحاب النظرية التي تجعل العلاج بعد وقوع الجريمة.
ولذلك نجد بعض الدول الغربية نفسها ما زالت في موقف الحذر الشديد من العمل بهذه النظرية: كم يأخذون منها، وكم يتركون، ومتى يفعلون هذا، ومتى يفعلون ذاك؟؟
وأما في التشريع القرآني فقد اعتمد قضية الرعاية كأسلوب للوقاية قبل حصول الجناية، فقلل وقوعها كثيراً، واعتمد أسلوب العقاب بعد الجناية حسماً لمادة الإجرام ـ كما يقطع العضو الفاسد من البدن ـ وحفظاً لسائر المجتمع من أن يقض المجرمون مضاجعهم، ويفتكوا بمن تصل إليه أيديهم من الناس، فجمع هذا التشريع بين العلاجين، وأعطى كلاً منهما توقيته المناسب، ووضع الرحمة والرفق في موضعهما المناسب.
وأما اعتبار المجرم مريضاً نفسياً بعد وقوع الجريمة بحيث يكون مرضه مقتضياً إلغاء العقوبة، فهذا إنما يكون في الإسلام عندما يصل المرض إلى درجة الاضطراب العقلي، الذي يخرج صاحبه عن التصرف الطبيعي السليم فيكون كالمجنون، وهذه الحالة استثنائية، لا يعتبر فيها مجرماً أصلاً، ومع ذلك لا يضيع حق الضحية إطلاقاً، بل تعوض الضحية أو أهلها من مال ذلك المجنون أو مال أسرته، حسب نظام الأسرة التعاوني الإسلامي في هذه الحالة.
وأما ما يقوله المعترضون من أن المجرم قد يضطر إلى الجريمة كالسارق الذي يسرق بسبب الجوع ونحوه من الحاجات الماسة، فيكون الغني الذي لم يساعده قد ساقه إلى أن يسرق منه، فهو أحق بالعقاب منه، فهذا الادعاء غفلة منهم أو جهل بتفصيلات التشريع القرآني، فالنظام الاجتماعي في هذا التشريع له دروع كثيرة واقية من هذه الحالات، ومع ذلك فإنها حين تقع تؤخذ بعين الاعتبار، وتعفي السارق من العقوبة، ومن أهم تلك الدروع الواقية: أن الغني ملزم بدفع الزكاة للفقير حتى لا تهلكه الضرورات. وإن لم تكف الزكاة وجب عليه أن يدفع له زيادة عليها حتى تزول ضرورته، وإذا امتنع عن أداء الزكاة أجبره القاضي عليه، فإن أبى وكان عنده قوة يدافع بها عن نفسه قاتله الحاكم حتى يدفع الزكاة أو يموت، وهكذا يظهر أن الإسلام لا يعاقب السارق إلا بعد ضمان حاجاته، وقد بلغ نظام الزكاة وتوابعها من ضمان الضرورات والحاجات الأساسية لكل فرد أن كانت الزكاة تعرض على أبواب المساجد عاماً كاملاً فلا تجد من يأخذها، ومن تعفف عن الزكاة كان أبعد عن السرقة بعداً شاسعاً، وهكذا يظهر أن عقوبة الغني الباخل بحق الفقير أشد من عقوبة السارق الذي لا يتصورونه إلا فقيراً، بينما الإسلام لا يعاقبه إلا أن يكون مستغنياً عن السرقة.
وكذلك لكل جريمة طوارئ تطرأ عليها تغير نظرة التشريع إليها وإلى عقوبتها، حتى إنه جعل من قواعده ”درء الحدود بالشبهات“ أي منع تطبيق العقوبة عندما تكون الجريمة محاطة بشبهة.
بقيت علينا شبهة مما يلقيه خصوم الإسلام حول نظام العقوبات فيه، وهي: أن العقوبات القاسية لا تنفع في التربية الإصلاحية، ولا تليق بمعاملة الإنسان، لاسيما في عصر الحضارة الإنسانية المعاصرة: عصر حقوق الإنسان.
أما الجزء الأول من هذه الشبهة: وهو أن العقوبات القاسية لا تنفع في التربية الإصلاحية؟ فجوابه من جهتين
أولاهما: أنا لو سلمنا بذلك فإن هذه العقوبات الإسلامية ليست وسيلة أساسية للتربية؛ لأن تربية المجتمع لدى التشريع القرآني مرحلة تسبق وقوع الجريمة كثيراً ـ كما تقدم ـ والعقوبة للردع الفعلي الواقعي عن الجريمة، وليست مجرد علاج، ثم يأتي دور العلاج.
الثانية: أننا لا نسلم بصحة هذه النظرية على حالتها هذه التي يعملون بها، كما أن بعض علماء النفس لا يسلم بها، فهي مجرد نظرية، وليس لها من الأسس العلمية ما يرقى بها إلى مستوى الحقائق العلمية الثابتة، ولأن الواقع يشهد بأن كثيراً من الناس يقدمون على الجريمة إذا أمنوا العقاب، فلا تجد مجرماً إلا وهو يحاول أن يخفي جريمته اتقاء العقاب، ولو استيقن العقاب لارتدع عن جريمته، والذي يؤكد ضرورة العقوبة أمران في واقع المجتمعات التي تعمل بهذه النظرية:
أولهما: أن المجرم يكون عندهم في فترة العلاج مسجوناً، والسجن عقوبة بلا ريب.
وثانيهما: هو أن الحرب مشروعة للدفاع عن النفس عند كل الأمم وفي كل القوانين، ومن تأمل فيها لم يجدها إلا نوعاً من الردع القاسي عن الجريمة، وإذا نفع الردع القاسي في تعويد الشعوب على ترك العدوان كان نفعه في تعويد الأفراد أكثر وأيسر وأهم، فكما أن هنالك شعوباً لا يردعها عن العدوان إلا خوف عواقبه، كذلك هناك أفراد لا يردعهم عن العدوان إلا خوف عواقبه، وما الشعوب إلا مجموعات كبيرة من الأفراد، فإذا صح أن ترتدع الشعوب بالعنف عن العنف صح أن يرتدع الأفراد، فإذا صار الارتداع عادة فتلك ثمرة التربية.
وأما الجزء الثاني من هذه الشبهة: وهو أن الضرب والقطع وأشباههما من العقوبات ليست وسيلة تليق بالإنسانية في عصر الحضارة ؟ فجوابه: أن الحروب أقسى كثيراً من الضرب والقطع، لا تقتصر على العصا والسكين، بل تستخدم الحديد والنار، وتنشر القتل والتشويه والدمار، فكيف كانت وسيلة حضارية في ردع عدوان المعتدين، ولم يكن الضرب والقطع وسيلة حضارية في ردع عدوان المجرمين؟! وبأي ميزان صح ذاك ولم يصح هذا ؟!
إن المنطق السليم ـ منطق الرحمة بالمجتمع وأمنه، ومنطق تقديم رحمة الضحايا على رحمة المجرمين ـ يقول: إن أكثر العقوبات حضارة هي أكثرها ضماناً للأمن، وتقليلاً للجريمة، وردعاً لذوي القلوب القاسية، لاسيما إذا كانت بعد استنفاذ كل فرص الوقاية من الجريمة بالتربية الخلقية والضمانات الاجتماعية الشاملة الكاملة، كما هو الحال في شريعة الإسلام.
أين تلك المزاعم الإنسانية الحضارية من هذا النظام الحكيم في شدته ورحمته، وأيهما أحق بالانتقاد عند العقلاء المنصفين الذين توزن عندهم القوانين بميزان الأمن، وضمان المصالح، ودفع المفاسد، لا بالنظريات القاصرة المفتقرة إلى التجربة الواقعية والبراهين العلمية.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين