حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم

لهذا الحديث روايات، منها: 

قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبيد بن إسماعيل قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة أنها قالت: سُحر النبي عليه الصلاة والسلام حتى إنه ليُخيَّل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه، ثم قال: أشعرتِ يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟. قلت: وما ذاك يا رسول الله؟. قال: جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟. قال: مطبوب. قال: ومَن طبَّه؟. قال: لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق. قال: في ماذا؟. قال: في مُشْط ومُشاطة وجُفِّ طلعةٍ ذكرٍ. قال: فأين هو؟. قال: في بئر ذي أروان. فذهب النبي عليه الصلاة والسلام في أناس من أصحابه إلى البئر، فنظر إليها وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة فقال: والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رؤوس الشياطين. قلت: يا رسول الله أفأخرجْته؟. قال: "لا، أما أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخشيتُ أن أثوِّرَ على الناس منه شرا". وأمر بها فدفنت. 

مطبوب: مسحور. 

وهذا رواه البخاري ومسلم والشافعي في مسنده وعبد الرزاق والحميدي وابن راهويه وابن أبي شيبة وابن حنبل وابن ماجه والنسائي في السنن الكبرى وأبو يعلى والطحاوي في شرح مشكل الآثار وابن حبان واللالكائي والبيهقي من تسعة طرق عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة. 

ورواه عبد بن حميد قال حدثني أحمد ابن يونس قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم أنه قال: سحَر النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فاشتكى، فأتاه جبريل، فنزل عليه بالمعوذتين، وقال إن رجلا من اليهود سحرك والسحر في بئر فلان، فأرسلَ عليًّا فجاء به، فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية، فجعل يقرأ ويحل، حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال، فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك اليهودي شيئا مما صنع به، ولا أراه في وجهه. 

وهذا رواه عبد الرزاق وابن حنبل وعبد بن حميد والنسائي والطحاوي في مشكل الآثار والطبراني في الكبير من طرق عن أبي معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم به نحوه. 

والحديث سنده صحيح. 

قال ابن حجر في فتح الباري: [قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو، وأنه يُوحى إليه بشيء ولم يُوح إليه بشيء، وهذا كله مردود، لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبَلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يُبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض فغير بعيد أن يُخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يُخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن، وهذا كثيرا ما يقع تخيله للإنسان في المنام، فلا يبعد أن يُخيل إليه في اليقظة. قال عياض: فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على تمييزه ومعتقـَده. وقال المهلب: صوْن النبي صلى الله عليه وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيدَه، فقد مضى في الصحيح أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه، فكذلك السحر، ما ناله من ضرره ما يدخِل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام أو عجز عن بعض الفعل أو حدوث تخيل لا يستمر، بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين]. والكلام في سائر الشروح الحديثية يدور حول هذه المعاني. 

أقول: 

القرآن تحدى الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله فلم يقدروا، ولا يمكن أن تتطرق الشبهات إلى كونه من كلام الله عز وجل، لأنه معجز بنفسه، فسواء ثبت حديث السحر أو لم يثبت فالأمر سيان. 

لكن حديث السحر الذي رُوي أنه وقع للنبي صلى الله عليه وسلم هل يغض من مقامه الشريف أوْ لا؟: 

رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يقع له ما يقع لسائر الناس من العوارض البشرية، وسحر التخييل الذي جاء في الروايات أنه وقع له يؤكد بشريته ولا يغض من علو مقامه ورفعة شأنه، وقد وقع لرسول من أولي العزم نوع من أنواعه، إذ أخبر ربنا تبارك وتعالى في محكم آياته عن الكليم موسى عليه الصلاة والسلام فقال: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يُخيل إليه من سحرهم أنها تسعى}

ولا بد من إشارة سريعة إلى أمر هام، هو أن وقوع مثل ذلك السحر للنبي صلى الله عليه وسلم ـ الذي يؤكد تحقق صفة البشرية فيه ـ يجعل معجزة القرآن أقوى وأعلى، إذ ينبغي لذوي العقول أن يتفكروا: كيف تأتـَّى لهذا النبي الأمي الذي يأكل وينام ويمرض ويُجرح ويُسحر أن يأتي الناسَ بمثل هذا الكتاب المعجز لولا أنه تنزل عليه من لدنْ حكيم حميد؟!. 

هذا ما ترجح لدي الآن، والمسألة قابلة للبحث والتمحيص، والمهم فيها هو أنه لو صحت الرواية في سحره صلى الله عليه وسلم فليس فيها ما يؤثر على سلامة الوحي المنزل، ولا ما يغض من مقامه الشريف. والله أعلم. 

وكتبه صلاح الدين الإدلبي، في 10/ 5/ 1435، والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين