أثر مناهج الأصوليّين في الاعتدال الفكري (3)

ثانيا. حمل النصوص على بعضها في مسائل الفقه 

من الجدير ذكره أنَّ الخلط عند عدم حمل النصوص على بعضها ليس خاصّاً في مسائل أصول الدين، بل الاضطراب سيكون أكثر في مسائل الفقه نَظَرا إلى كثرة النصوص الواردة في دقائقه وتفاصيله، ويمكن أنْ نأخذ أمثلة كثيرة منها.

- المثال الأول:

قوله صلى الله عليه وسلم ((إِذَا صَلَّيْتُمُ الْفَجْرَ فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ قَرْنُ الشَّمْسِ الأَوَّلُ، ثُمَّ إِذَا صَلَّيْتُمُ الظُّهْرَ فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ الْعَصْرُ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى أَنْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْمَغْرِبَ فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى أَنْ يَسْقُطَ الشَّفَقُ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعِشَاءَ فَإِنَّهُ وَقْتٌ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ))(1).

يقول الإمام النووي: ((قوله صلى الله عليه وسلم فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل معناه: وقت لأدائها اختيارًا، أما وقت الجواز فيمتد إلى طلوع الفجر الثاني، لحديث أبي قتادة الذي ذكره مسلم بعد هذا في باب "من نسي صلاة أو نام عنها" ((أنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى))(2).

يقول الحافظ العراقي في الفتح: ((قلت وعموم حديث أبي قتادة مخصوص بالإجماع في الصبح)) (3). 

- المثال الثاني:

جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من طريق أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا، وَلاَ يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلاَ يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)) 4).

ظاهر هذا الحديث أن الأقرأ يقدم في الإمامة مطلقًا سواء أكان عنده فقه أم لا، هذا هو ظاهر الحديث لكن قال َجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ من الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: إنَّ الأْعْلَمَ بِأَحْكَامِ الْفِقْهِ أَوْلَى بِالإْمَامَةِ مِنَ الأْقْرَأِ، بل إننا نجد ابن حجر الهيتمي وهو من فقهاء الشافعية يقول: (والأصح أن الأفقه في الصلاة وما يتعلق بها وإن لم يحفظ غير الفاتحة أولى من الأقرأ غير الأفقه وإن حفظ جميع القرآن...) ((5))، وهنا قد يسأل البعض من أين جاء الفقهاء بهذا الأمر، أليس قولهم هذا مخالف للحديث، ومصادم له من حيث الظاهر؟ 

والجواب: إن قول الفقهاء ليس مخالفًا للحديث بل هو تطبيق عملي للحديث ومتفق مع الواقع، وأدلتهم على ذلك :

أولا: الحاجة إلى الفقه أهم لكون الواجب من القرآن في الصلاة محصورًا والحوادث في الصلاة لا تنحصر، لأِنَّ الْقِرَاءَةَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لإِقَامَةِ رُكْنٍ وَاحِدٍ، وَالْفِقْهُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِجَمِيعِ الأْرْكَانِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ .

الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه طلب من أبي بكر أن يؤمَّ الناس وفي القوم من هو أقرأ منه، لكن أبا بكر كان أعلم الناس، وقد قال هذا أبو سعيد الخدري في الحديث المتفق عليه.

لكن قد يقال هنا، كيف أجاب جمهور الفقهاء عن حديث يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله؟ 

الجواب عن ذلك نجده عند الخطّابيِّ وغيره، يقول الخطابي: (وإنما قدِّم القارئ في الذكر لأن عامة الصحابة إذا اعتبرت أحوالهم وجدت أقرأَهم أفقهَهم، وقال أبو مسعود: كان أحدنا إذا حفظ سورة من القرآن لم يخرج عنها إلى غيرها حتى يحكم علمها أو يعرف حلالها وحرامها أو كما قال، فأما غيرهم ممن تأخر بهم الزمان فإن أكثرهم يقرؤون القرآن ولا يفقهون، فَقُرَّاؤهم كثير والفقهاء منهم قليل)(6)، وكأنّهم جعلوا الحديث مرتبطًا بعلة مُحدَّدة وهي أنَّ القارئ كان فقهيًا، وما وجد في العصور المتأخرة على خلاف ما كان الأمر عليه في صدر الإسلام إذ تجد في زمننا من يحفظ القرآن بالقراءات المتواترة من خلال المعاهد والجامعات المختصة بالقراءات بعيدًا عن الأحكام الفقهية، ومن هنا ندرك أهمية ما ذكره جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية من تقديم الفقه على القراءة(7). 

- المثال الثالث:

عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ :صلى الله عليه وسلم ((إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَإِنْ اِسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا , فَلْيَفْعَلْ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ - وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ اَلتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ.(8) وذكره ابن حجر في الفتح وقال : سنده حسن(9).

ظاهر الحديث مُشْكل حيث إنه يجيز النَّظر إلى أماكن أخرى من الجسم كالصدر والظهر...لأن هذه المواضع قد تكون مدعاة إلى الزواج، ولكن ظاهره ليس مرادًا بل هو مُقيّد بالوجه واليدين، يقول ابن قدامة: (ويجوز لمن أراد خطبة امرأة النظر إلى وجهها من غير خلوة بها...لما روى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خطب أحدكم المرأة فان استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل))... ولا بأس بالنظر إليها بإذنها وغير إذنها لأن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالنظر وأطلق... ولا ينظر إليها نظر تلذذ وشهوة ولا لربية، قال أحمد في رواية صالح: (ينظر إلى الوجه ولا تكون على طريق لذة وله تكرار النظر إليها وتأمل محاسنها لأن المقصود إنما يحصل بذلك... ولا خلاف بين أهل العلم في إباحة النظر إلى وجهها لأنه ليس بعورة وهو مجمع المحاسن وموضع النظر)(10).

ولو أردنا أنْ نقف عند النصوص وضرب الأمثلة لطال بنا المقام ولذا نكتفي بما تقدم.

الخاتمة 

إن ما سبق كافٍ للتعرف على علم أصول الفقه ودور قواعده في فهم نصوص القرآن والسنة وضبط أحكامهما، سواء المتصل منها بأصول الدين أم بفروعه... وانطلاقًا من معرفتنا بهذه القيمة الكبرى لأصول الفقه في ضبط مسيرة الاجتهاد فإننا ندعو المؤسسات العلمية والدينية إلى تفعيل دور أصول الفقه وتدريسه وإنشاء المراكز والكليات الخاصة به، لعله يخفف من حدة موجة الجهل والغلو التي تجتاح العالم الإسلامي اليوم.

وقد لاحظنا من خلال ما جاء به الخوارج والمعتزلة أن معظم ما وقعوا فيه سببه تجاهل قواعد أصول الفقه وتفسير النصوص بعيدًا عن ضوابطه... ومن المجزوم به أنّ مناهج أصول الفقه العامة مُفتقدة عند معظم غلاة العصر من دواعش وغيرهم، فضلًا عن معرفتهم بالخاص والعام والمطلق والمُقيَّد والناسخ والمنسوخ، وقد كان لذلك أثرٌ كبير في تكفير الناس واستباحة دمائهم.

---------

(1) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، بَابُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، رقم: 171. 

(2) شرح صحيح مسلم:2/ 138. 

(3) فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 2/ 52. 

(4) - صحيح مسلم، طبعة دار الجيل كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة رقم (1564)

(5) - تحفة المحتاج في شرح المنهاج، طبعة المكتبة التجارية الكبرى بمصر، عام النشر: 1357 هـ - 1983 م

(6) معالم السنن، الخطابي ،الناشر: المطبعة العلمية – حلب، الطبعة: الأولى 1351 هـ - 1932 م. 1/ 167. 

(7) يقول ابن الجوزي عن الحديث السابق :" هذا الحديث يدل على تقديم القارئ على الفقيه، وهو مذهب أحمد بن حنبل، وإنما يقدم إذا كان يعرف أحكام الصلاة، فذلك الذي هو أولى من الفقيه الذي لا يحسن إلا الفاتحة. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: الفقيه أولى " كشف المشكل من حديث الصحيحين: 2/ 207، وفي مذاهب الفقهاء في المسألة انظر: الهداية في شرح بداية المبتدي، للمرغيناني: 1/ 57. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ، للخطيب الشربيني: 1/ 486.، الروض المربع شرح زاد المستقنع: 1/ 129، بداية المجتهد ونهاية المقتصد:1/ 154. 

(8) بلوغ المرام من أدلة الأحكام:1/ 379. 

(9)فتح الباري:9/ 171. 

(10) الشرح الكبير لابن قدامة: 7/342. 

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين