أحكامُ المُعاقين ورعايتُهم في الإسلام (1)

ـــ فاقدو البصر نموذجاً ـــ

تعريف الإعاقة والمُعَاقين:

الإعاقة مصدر أعاق، وهي: ما تُؤخِّر أو تمنع من قولِ الشيء أو فعلِه، كالخرَس الذي يمنع من الكلام، أو التَّعْتَعَة فيه، والعرَج، والعمَى اللذيْن يمنعان من الركض والجَرْي. وقد استُخْرج من الإعاقة اسم المفعول، فقيل: المعاق، والمعوَّق، وجمعُه: المعاقون، والمعوَّقون. أما اسم الفاعل فهو: المعوِّق ـ بكسر الواو المشددة ـ ويُجمع على المعوِّقين، قال تعالى في سورة الأحزاب في الآية/ 18: ( قد يَعلمُ الله المعوِّقين منكم )، وهم: المنافقون الذين كانوا يخذِّلون الناس ويمنعونهم من الجهاد في غزوة الأحزاب.

وقد جرى في زماننا أن يطلق على " المعاقين " عبارة: " أصحاب الاحتياجات الخاصة "، وهو إطلاق حسن له دلالات إيجابية.

حقيقةُ الإعاقة وكونُها ابتلاء وامتحان من الله تعالى:

قد تكون الإعاقة خَلْقية مع ولادة الإنسان، كمن يولد أعمى، أو أعرجَ، أو أعشى ضعيف البصر. وقد تكون كَسْبية بعد الولادة، كمن يُصاب لاحقاً بفقد البصر، أو بِعَورِ إحدى عينيه، أو يصاب في الحرب، أو في حادث مروري يُفقده رجليْه والقدرة على المشي، وقد تكون الإعاقة عقلية ونفسية، أو تكون جسدية بدنية، وقد تكون الإعاقة مؤقتة لفترة ما، وقد تكون مُزْمِنَة دائمة لا شفاء منها.

ولا يخفى أن الإعاقة الفكرية ـ من جهل وأُمِّيَّة وتعصُّب وتعنُّت وأنانية ـ هي الخطر الذي يهدد المجتمعات، حيث تضِلُّ العقول عن رؤية الحق، فتفسد الحياة وتدمِّر مباهجها، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قول الله تعالى في سورة الحج في الآية/46: ( إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ).

أما الإعاقة الجسدية أياً كانت فهي لا تُنقِص من قدر صاحبها ومكانته؛ ولا يضر الإنسانَ في الإسلام إنْ كان معاقاً؛ لأن المبدأ المقرر في الإسلام هو قوله تعالى في سورة الحجرات/12: ( إن أكرمكـــم عند الله أتقاكم )، لأن العبرة في الإنسان ذاته، وقوة إرادته، وأعماله الإيجابية، ومدى مشاركته في مجتمعه وخدمته له، وسعيه في تطويره وإسعاده، وفي الحديث الشريف الذي رواه مسلم: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ". 

والإنسان المعاق مأجور على إعاقته إن صبر عليها، ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى: من أذهبتُ حبيبتيه ـ أيْ: عينيه، فصبر واحتسب، لم أرضَ له بثواب دون الجنة ".

بل إن الله تعالى أعدَّ الجنة جزاء لمن صبر على ابتلائه، ففي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حِبَّان في صحيحه عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أُريك امرأة من أهل الجنة؟ قلتُ بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني أُصْرَعُ وأتكشَّفُ، فادعُ الله لي، قال: " إن شئتِ صبرتِ، ولك الجنـــة، وإن شئتِ، دعــــوتُ الله لـــــك أن يعافيك "، قالت: لا، بــــل أصبرُ، فــــادعُ الله أن لا أتكشَّـــفَ، قــــال: " فدعا لها ". 

ومن المناسب هنا ذكرُ أن الإحصائيات المعاصرة تشير إلى أن نسبة الإعاقة في العالم تصل إلى 10% ، وأن عدد المعاقين في هذا القرن الحادي والعشرين يصل إلى ( 900 ) مليون شخص، ( 70% ) منهم في بلدان ما يسمى: العالم الثالث أو البلدان النامية، أي: في البلاد الإسلامية. وهذا يدعو إلى مزيد من الاهتمام بهذه الفئة من المجتمع، وبيان موقف الإسلام من الإعاقة والمعاقين عموماً، ومن المكفوفين خصوصاً.

موقف الإسلام من أسباب الإعاقة بنوعيها، ودعوتُه للوقاية منها وعلاجها:

أما موقف الإسلام من أسباب الإعاقة الخَلْقية: فإنه دعا إلى تجنُّبها قدر الإمكان، وذلك من خلال تجنُّب الزواج بالمرضى أزواجاً كانوا أو زوجات، فقد روى الحاكم في المستدرك وصححه أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ... ". وهذا يشمل التحذير من الزواج بالمرضى الذين يخلِّفون أولاداً مرضى أو مُعاقين بالوراثة.

وأما موقف الإسلام من أسباب الإعاقة الكَسْبية: فإنه دعا إلى حفظ الصحة وقايةً وعلاجاً، وحرَّم تعريض النفس للحوادث والأخطار، قال الله تعالى في سورة البقرة/195: ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ).

وإضافة إلى هذا فقد دعا إلى علاج الإعاقة والتداوي منها وعدم الاستسلام لها ما استطاع المسلم إلى ذلك سبيلاً، ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يَا عِبَادَ اللهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلاَّ دَاءً وَاحِدًا، هُوَ: الهَرَمُ ".

صور من رحمة الإسلام بالمعاقين:

قدَّر الإسلام ظروف المعاقين فأعفاهم من بعض التكاليف الشرعية، سواء كانت فرائض أوسنناً، ومن ذلك أنه أعفى الأعرج والأعمى ونحوهما من فريضة الجهاد فقال تعالى في سورة الفتح/17: ( ليس على الأعمى حَرَجٌ ولا على الأعْرجِ حَرَجٌ ).

كما أعفى المقعد ونحوَه من الصلاة قائماً بسبب عجزه، ففي صحيح البخاري أن رجلاً من الصحابة كان لا يستطيع الصلاة قائماً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ ".

كما أعفى الإسلام الأعمى ونحوه من حضور صلاة الجماعة وهي سنة، إذا كانت هناك حُفرٌ بينه وبين المسجد، أو كان المسجد بعيداً عنه لا يسمع أذانه، روى مسلم أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، وسأله أن يُرَخِّص له فيصلِّي في بيته، فرخَّص له، فلما ولَّى دعاه، فقال: " هل تسمع النداء بالصلاة؟ ". قال: نعم، قال: " فأجب ".

كما أن الإسلام ضمن للمعاقين الأمانَ على أنفسهم في أوقات الحروب، وأمر بتجنُّبهم وعدم قتالهم، فقد ذكر الفقهاء: أن يحرم في الحرب قتال من لا يُتوقع منه قتال المسلمين، كالمريض المزمِن، والأعمى، والمشلول، والمقْعَد، والمعتوه، والأعرج، ومقطوع اليد، ونحوه. 

وأين هذه الرحمة والرعاية الإسلامية الإنسانية السامية للمعاقين، مما تفعله وتمارسه بعض الجهات المعاصرة في القرن الحادي والعشرين، من قتل المسنِّين والمقْعدين والمعاقين؛ خشية الإنفاق عليهم؛ بحجة عدم انتفاع المجتمع بهم كما يزعمون!!

حماية الإسلام حقوق المعاقين:

حافظ الإسلام على حقوق المعاقين المادية والمعنوية، وصان لهم أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وحرم الاعتداء عليهم، أو الشماتة بهم، أو السخرية منهم، ومنَع كلَّ ما يُخلُّ بإنسانيتهم وتكريمهم، كالاستهزاء، أو همزهم أو لمزهم بأي وسيلة كان ذلك، قال الله تعالى في سورة الحجرات في الآية/ 11: ( لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنَّ خيراً منهنَّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ). ورتب على ذلك عقوبات رادعة من خلال الحدود، والقصاص، والتعازير، كما منع الإسلام مناداة المعوَّق بوصفه على سبيل الانتقاص أو الاستهزاء به، كأن ينادى: تعال يا أعرج، يا أعمى...إلخ.

ومن محاسن الإسلام أنه أثبت لهم حقوقهم المدنية، والشخصية، والجزائية، وصانها لهم، ومكَّنهم في أن يتصرفوا بأموالهم، بيعاً، وشراء، وهبة، ووصية، ووقفاً، ونحو ذلك؛ لأن إرادتهم معتبرَة سواء كانوا رجالاً أو نساء، وولايتهم على أنفسهم صحيحة، ما داموا بالغين راشدين. 

كما أوجب على أولياء المعوَّقين ـ بالتدرج سواء كانوا آباءً، أو إخوةً، أو أعماماً، أو أبناء هؤلاء ـ الإنفاقَ على المعوقين إن كانوا محتاجين، فإن عُدم هؤلاء وجب على المجتمع والدولة الإنفاق عليهم ورعايتهم، وذلك عملاً بقاعدة: " الغرم بالغنم "؛ لأن هؤلاء بالتدرج يرثون المعاقين لو كانوا أغنياء، وهذا منسجم مع مبادئ وقواعد التكافل الاجتماعي الذي جاءت به الشريعة الإسلامية، قال تعالى في سورة المائة/11: ( وتعاونوا على البر والتقوى ).

ومما يرويه تاريخنا الإسلامي أن عمر بن الخطاب t أبصر شيخاً كبيراً من أهل الذمة قد كُفَّ بصرُه يسأل الناس، فقال له: مالَك؟ قال: ليس لي مال، وإن الجزية تؤخذ مني، فقال له عمر: ما أنصفناك، أكلنا شَبِيبَتَك ثم نأخذ منك الجزية! ثم كتب إلى عماله: أن لا يأخذوا الجزية من شيْخ كبير، وأجرى عليه من بيت المال ما يصلحه.

احتياجات المعاقين:

يحتاج المعاق إلى عدة أمور من أبرزها ما يلي:

1ـ حاجته إلى الأمن من الخوف على حاضره، ومستقبله، وغذائه المناسب، ومعيشته.

2ـ العمل على دمجه في المجتمع، واحترام غيره له، وعدم انتقاصه ولا اعتباره عاجزاً لا يمكن الاستفادة منه.

3ـ حاجته إلى الأدوات والوسائل والعلاجات التي تخفف من إعاقاته، أو تزيلها نهائياً إن أمكن ذلك. 

4ـ تعهُّده بالإرشاد من قبل المختصين الذين يساعدونه على التكيف مع المجتمع، وتنمية شخصيته بصورة صحيحة مع الآخرين، وتأمين مورد كسب له. 

5ـ حاجته إلى توفير الأدوات الثقافية ووسائل المعرفة اللازمة له، وبخاصة أحكام الحلال والحرام. 

6ـ منحُه رعاية خاصة في وسائل المواصلات، تؤمن له الانتقال المريح حيث يريد. 

7ـ مساندة وتشجيع الأطفال المعاقين وأسرهم والاهتمام بهم مادياً ومعنوياً.

8ـ حث الدول على الاهتمام بالمُعاقين واحتياجاتهم التشريعية والعملية والمعيشية.

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين