أبو ذر الغِفَاري رضي الله عنه

أحد السابقين إلى ا?سلام

يَمشي وحدَه ويموتُ وحدَه ويُبعَثُ وحدَه

تمهيد:

هذه سيرة رجل كريم من رجالات الإسلام الذين يُعتز بهم، رفعه الإسلام كما رفع غيره من المؤمنين به، ووصفه النبي محمد صلى الهذ عليه وسلم بأنه: " أصدق الناس لهجة "، أيْ: من أصدقهم حديثاً فلا يكذب؛ لأنه أخلص قلبه لله، وكيف لا يكون ذلك وهو الذي أسلم في مراحل الدعوة الإسلامية الأولى، وتحمل العذاب والاضطهاد، وبذل حياته وماله ابتغاء مرضاة الله تعالى.

اسمه ونسبه ونشأته:

هو جُنْدُب بن جُنادة الغِفاري، وأمه رَمْلة بنت الوقيعة بن حَرَام الغفارية. ويروي ابن ماجه أنّ رسول الله قال لأبي ذَر: " يا جُنَيْدِبْ " بالتصغير وذلك للتحبب والإكرام. وكان أبو ذر طويلاً، أسمر اللون، نحيفاً، أبيض الرأس واللحية، عُرِف في الجاهلية بتألُّهه، فكان يتجنب عبادة الأصنام ويردِّد على الناس قوله: لا إله إلاّ الله.

إسلامه وصبره على الأذى:

تذكر الروايات التاريخية أن لقصة إسلامه سبباً وهو: أن أخاه أُنيساً قصد مكة فتأخر في الرجوع إلى أبي ذر، فسأله عن ذلك فقال له: لقيتُ بمكة رجلاً يزعم أنّ الله أرسله نبياً للناس. قال: فما يقولون عنه؟ قال: يقولون: شاعر, وكاهن، وساحر. فقال له أبو ذر: وماذا تقول أنت؟ فقال أُنيس ـ وكان شاعراً مجيداً ـ: والله لقد سمعتُ قول الكهنة فما هو بكاهن، ولقد وضعتُ قوله على أقوال الشعراء فما هو بشاعر! فقال أبو ذر: أَنْظِرْني حتى أذهب إليه! فقدم مكة فسأل الناس أن يدلوه على محمد، فقالوا: تريد اللحاق بهذا الصابئ! فمالوا عليه يضربونه بكلّ مَدَرَةٍ وعَظْمٍ فخرَّ مغشياً عليه، ثم صحا فأتى زمزمَ فشرب من مائِها وغسل عنه الدّماء ومكث فيها أياماً عديدة حتى استدل على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فرآه ومعه صاحبه أبو بكر رضي الله عنه، فلما أتاهما وعرَّفهما بنفسه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ممّن أنت؟ قال: من غِفار، فقال: متى كنتَ هاهنا؟ قال: منذ ثلاثين ليلةٍ، قال: فمن كان يُطْعِمُك؟ قال: ما كان لي طعام إلاّ ماء زمزم، حتى سَمِنْتُ وصار لي عُكَنُ في بطني وما وجدتُ من جوعٍ. فقال رسـول الله صَلَّى الله عليه وسلم: ( إنّها مباركة، إنّها طعام طُعْمٍ ). فقال أبو بكر: يا رسول الله، ائْذَنْ لي في طعامه الليلةَ، ففعل فانطلق النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وانطلق معهما أبو ذر، فقام أبو بكر يقبض من زبيب الطائف يُطعم أبا ذر، فقال أبو ذرّ: فذاك أوّل طعامٍ أكلتُه بمكة بعد جوع. ثم سمع من النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وفضائله، فقال: يا محمد إِلاَمَ تدعو؟ قال: إلى الله وَحْدَه لا شريك له، وخَلْعِ الأوثان، وتشهد أني رسول الله. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّك رسول الله. ثمّ قال أبو ذرّ: يا رسول الله، إني منصرفٌ إلى أهلي وناظرٌ حتى ينتشر دينك فألحَقُ بك، فإني أرى قومك عليك جميعًا. فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: أصبتَ فانصرفْ، فكان أبو ذر من السابقين إلى الإسلام، وقيل: كان خامس خمسة دخلوا في الإسلام، ورجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم العديد منهم، وكان ممن أسلم أخوه أُنيس. 

ثم إنه قدم مع قومه على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة بعد غزوة أحد، فلما رآه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وَهِم في اسمه فقال له: أَنْتَ أَبُو نَمْلَة؟ قال: أنا أبو ذر. قال: نَعَمْ، أَبُو ذَرّ. فدعا له ولقومه قائلاً: غِفارٌ غَفَرَ الله لها.

قصته مع بلال الحبشي وموقف للتاريخ:

أقام أبو ذر في المدينة إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم، وتذكر الروايـات التاريخيـة: أنه حدث خلاف بين أبي ذر الغفاري العربي الأرومة، وبين بلال بن رباح الحبشي الأصل، الذي كان عبداً رقيقاً، فقام أبو ذر يُعيِّر بلالاً بأمِّه " حمامة " السوداء الحبشية ويقول له: يا ابن السوداء، وفكَّر بلال فيما سمع، وقدَّر أنَّ هذا جرم خطير لا ينبغي السكوت عليه؛ مخافة أن يستشري بين أفراد المجتمع الواحد، فيمزِّق الصف الداخلي، ويدمِّر السِلم الاجتماعي، ويحرق الأخضر واليابس، لكنَّه لم يَردَّ على أبي ذر، بل عمد إلى النبي صلى اله، عليه وسلم صاحب الشأن والقرار، ليعالج هذا الخطر ويقتلعه من جذوره، وذكر له ما قاله أبو ذر.

وطلب النبي صلى الهم عليه وسلم من أبي ذر الحضور إليه، ولما تأكد له ما فعله خاطبه معنِّفا: ( أعيَّرتَه بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية.. ) أي: عنصرية بغيضة. ثم أوضح له ذلك المعنى الخالد بما يشرح صدر كل إنسان ويزيده إعجاباً بالإسلام: ( إخوانُكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليُطعمْه مما يأكل وليُلبسْه مما يلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم ). رواه الشيخان. 

فلما سمع أبو ذر العربي هذا الكلام النبوي تأثَّر به أيّما تأثُّر، وندم على ما فعل، وألقى بنفسه على الأرض، ووضَع خدَّه عليها، وطلب من بلال الحبشي أن يَطأَ خدَّه الآخر بقدمه، معتذراً إليه عمَّا فعل، رادَّاً إليه اعتباره الاجتماعي أمام الناس، لكنَّ بلالاً أبى ذلك، وأمسك بيد أبي ذر يرفعه إليه قائلاً: غفر الله لك يا أخي. 

وهكذا دفن الإسلام العنصرية والتعاظم على الآخرين، وجعل الناس إخوة متحابين، أقربهم إلى الله أتقاهم وأنفعهم لعباده، وكان هذا درساً تربوياً بليغاً لأبي ذر وآخرين من الناس.

ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ذر:

قال أبو هريرة: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: ( ما أظَلّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ أصدق لَهْجَةٍ من أبي ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فَلْيَنْظُرْ إلى أبي ذرّ ).

وكان أبو ذر يقول: إني لأقرَبُكم مجلساً من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يوم القيامة، وذلك أني سمعتُه يقول: ( أقربكم مني مجلساً يوم القيامة، مَن خرج من الدنيا كهيئة ما تركتُه فيها )، وإنّه والله ما منكم من أحد إلاّ وقد تشبَّث من الدنيا بشيء غيري.

وقال أبو الدرداء: كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يبتدئ أبا ذر إذا حضر بالسلام، ويتفقده إذا غاب.

وقال عبد الله بن مسعود: تأخر أبو ذَر في اللحاق بنا ونحن في الطريق إلى غزوة تبوك، وأبطأ به بعيره، فأخذ متاعه على ظهره ثم خرج ماشياً، فنظر ناظرٌ من المسلمين، فقال: إن هذا الرجل يمشي من بعيد على الطريق وحده، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: ( كُنْ أَبَا ذَرٍّ ). فلما اقترب قال القوم: يا رسول الله، هو والله أبو ذر؛ فقال: ( يَرْحَمُ اللهُ أَبَا ذَرٍّ، يَعِيشُ وَحْدَه، ويموتُ وَحْدَه، وَيُحْشَرُ وَحْدَه ).

وقال أبو ذرّ: أوصاني خليلي محمد صلى الله عليه وسلم بسبعٍ: أمرني بحبّ المساكين والدّنُوّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي، وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً، وأمرني أن أصِلَ الرّحِم وإن أَدْبَرَتْ، وأمرني أن أقول الحقَّ وإن كان مُرَّاً، وأمرني أن لا أخاف في الله لَوْمَةَ لائم، وأمرني أن أكْثرَ من قول: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، فإنّها من كنز تحت العرش.

طلبه الإمارة ومنع النبي صلى الله عليه وسلم منها:

جاء أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله أن يجعله أميراً على بعض النواحي، فاعتذر له قائلاً: يا أبا ذر، إنّك ضعيف، وإنّها أمانةٌ، وإنّها يومَ القيامة خَزْيٌ وندامة إلاّ مَن أخذها بحقّها، وأدّى الذي عليه فيها.

وفي رواية له يقول: قال لي رسول الله صَلََّى الله عليه وسلم: ( يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحبُّ لك ما أحبُّ لنفسي، لا تأَمَرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَيَّنَ مالَ يَتيمٍ ). ومعنى هذا: أن المسؤوليات الوظيفية تتطلب كفاءات بدنية ونفسية، وخبرات مهارية، لم تكن يومئذ متوفرة في أبي ذر رضي الله عنه، ومن أجل ذلك منعه النبي صلى الله عليه وسلم من تولى المناصب العامة.

دعوته إلى الزهد والكفاف ومجاهرته بذلك:

كان أبو ذر رضي الله عنه يعتقد أنه لا يجوز لمسلم أن يدخر مالاً ولا متاعاً، أو يكون له أكثر من قوتِ يومه وليلته، وكان يدعو إلى إلزام الناس بذلك، ويعتبره سياسة عامة في التشريع الإسلامي، وهو قد فهم هذا من الآية الكريمة: ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم ). وكان يخطب في أهل الشام فيقول: يا معشر الأغنياء، بشِّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار، تُكوَى بها جباهُهم وجنوبهم وظهورهم.

وقد اشتبه هذا الموقف المتشدد من أبي ذر على بعض الناس الذين لم يتفهموا تعاليم الإسلام ونصوصه الأخرى، فحسبوا أن الإسلام يمنع الملكية الخاصة الفردية، وما علموا أن هذا موقفاً شخصياً وفهماً خاصاً بأبي ذر لم يوافقه عليه بقية الصحابة. ومما يدل على عدم سلامة هذا الفهم: ما شرعه الإسلام من أنظمة الزكاة، والإرث، ومهور الزواج، وعقود المعاوضات والتمليكات، وعقوبات الاعتداء على أموال الآخرين وثرواتهم، ولا شك أن هذه التشريعات تستلزم بداهة الاعتراف بحق الملكية الفردية. ويبين هذا بوضوح قول الله تعالى: ( وآتوا اليتامى أموالهم ) سورة النساء/4 ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن دماءكم وأموالكم ... عليكم حرام ) رواه البخاري. ففي هذه النصوص وأمثالها تشريع وإقرار من الإسلام بحق الإنسان في الملكية الفردية الخاصة.

أما الآية التي تأولها أبو ذر، فيًقصد بها الذين يدخرون المال ويكنزونه ولا يؤدون زكاته للفقراء والمساكين، وهذا هو موقف الإسلام الصحيح من الملكية الفردية الخاصة، وهو الذي اتفق عليه عامة علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

وقد ترتب على هذا الفهم المتشدد من أبي ذر رضي الله عنه أن اعتزل الناس بطلب من الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ لئلا يشوش على الناس أفكارهم ويلزمهم بما لم يلزمهم الله تعالى به، روي أن بعض الناس مروا بالربذة ـ وهي بلدة صغيرة تبعد عن المدينـة المنورة قرابة 100 كم شرقاً ـ فرأوا أبا ذر، فقالوا: ما أسكنك هذه البلدة البعيدة؟ فقال: كنتُ بالشام فاختلفتُ أنا ومعاوية في تأويل هذه الآية: ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم ). فكتب يشكوني إلى عثمان، فكتب إليّ عثمان أن آتي المدينة فأتيت، فقال لي: إن شئتَ تنحيتَ فكنتَ قريباً منا. فسمعتُ منه لأنه أميري، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمَّرَ عليّ عبداً حَبَشيَّاً لسمعتُ وأطَعْتُ. وكان عثمان قد قال له حينذاك: نأمر لك بنَعَمٍ فتصيب منها؟ فقال أبو ذرّ: لا حاجة لي فيها. قال مهران بن ميمون: فما كان في بيت أبي ذر ما يساوي درهمَينِ.

وفاة أبي ذر:

توفي أبو ذر رضي الله عنه في الربذة سنة 32 هـ في آخر شهر ذي الحجة بعد انصراف الحجيج، وصلى عليه عبد الله بن مسعود في النفر الذين شهدوا موته، ثم حملوا عياله إلى عثمان بن عفان بالمدينة، فضمهم إلى عياله، وقال: " يرحم الله أبا ذر ". 

وكانت لوفاته قصة طريفة، فقد روت زوجته قائلة: لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيْتُ. فقال لي: ما يبْكيك؟ فقلت: ومَا لِي لا أَبْكي وأنت تموت بِفلاة من الأرض، وليس عندي ثوبٌ يَسَعك كفناً؟ ولا قدرة لي للقيام بجهازك. قال: فابْشِري وَلا تَبْكِي؛ فإني سَمِعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، يقولُ لنفَر أنا فيهم: لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، تَشْهِدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وليس من أولئك النفَر أحدُ إلا وَقد مات من قبل في قَرْيَة وجماعة، فأنا ذلك الرّجل، والله ما كذَبتُ ولا كُذبتُ فأبْصِري الطريقَ. قالت: وأنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطَّعَتِ الطّريق؟ قال: اذهبي فتبصري. قالت: فكنْتُ أشتد إلى الكثيب فأنظر ثم أرجع إليه فأمرضُه، فبينما هو وأنا كذلك، إذ أنا برجال تحثّ بهم رواحلهم، فأسرعوا إليّ حتى وقفُوا عليّ، فقالوا: يا أمَةَ الله، ما لك؟، قلت: امرؤ من المسلمين يموتُ، تُكَفّنونه؟ قالوا: ومَنْ هو؟ قلت: أبو ذرّ. قالوا: صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قلت: نعم. قالت: ففَدوْه بآبائهم وأمهاتهم، وجاءوا وفيهم الصحابي عبد الله بن مسعود يستبقون إليه، فقال لهم: أَبْشِروا، فإنِّي سمعْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لنَفَرٍ أنا فيهم: لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بفلاة مِنَ الأَرْضِ تَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. ثم لم يلبث أن توفي فغسلوه وكفنوه، واستهلّ ابن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله: يا أبا ذر، تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتُبْعَثُ وحدك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين