لماذا الشغب على الإيمان بالمعجزات ؟

 

ولماذا المطالبة بتأطيرها وتقنينها.. وهل هذا ممكن ؟

 

كتب أحدُهم مطالباً بتفسير حدوث المعجزات .. زاعماً أنَّ الإيمان بها سببٌ رئيسٌ في جهل المسلمين وتخلفهم ..

ونحن نجمل ردنا على هذه المشاغبة الغريبة على النحو التالي : 

( 1 ) لقد لفَّ كاتب هذا الفكرة حول تفسير المعجزات ودار ، وأطال علينا المشوار ، واستخدم في حديثه مُركَّبات مبهمة ، فالحروفُ عربية ، والصياغةُ غربية ، مما جعلنا نظنُّ أنه رومي أعجمي ، فهو يقول مثلا [ خرقُ القانون للقانون ] و [ تحدِّي المستقرّ ] و [ تأطيرُ المعجزة بقانون ] وهذه عباراتٌ جوفاء خاوية ، بعيدة عن أساليب العرب في التعبير ، ولو بُعِثَ عربيٌّ سليمُ السليقة من القرن الأول الهجري لما فهم من هذا الكاتب ما يقول ، وكيف يمكن لعربيٍّ فصيحٍ أنْ يَفهَمَ كلاماً ؛ يعجزُ قائلُه أن يستخرج منه معنى مفيدا .. لأنه لا يعنيه أن يقول ليفهم القراء ، وإنما يعنيه أن يرصف كلاما غيرَ مُؤتلف ، ليَشْغَلَ به عن هدف خطير مختلف .. فهو كالثُّعبان المندسّ في الرمل ، يخفي نفسه ، ليَخْتِلَ الضحية غدرا .. عند تسنح لأنيابه الفُرصة .. 

( 2 ) وأخيرا ، وبعد اللَّتيَّا والتي .. استطعنا - بحمد الله تعالى - أن نفهم الفكرة العامة التي يرمي إليها صاحبنا ، والهدف الذي يريد .. ونلخصه لكم بالبنود التالية : 

( أولا ) : إنه يدعو إلى إخضاع معجزات الأنبياء للدراسة والاختبار ، بذريعة التوصُّل إلى فهم الأسباب ، التي جعلتها تسير بعكس القوانين الطبيعية في الكون والحياة . وهو يزعمُ أنَّ تقنينَ المعجزة ، سيفيدُ المسلمين ، وينهض بحالهم .. ولعل الفائدة التي يحلمُ بها هو وأمثاله هي إقناع شبابنا : بأن المعجزة لم تعد صالحة لإثبات النبوَّات في القرن الحادي والعشرين ، وإنها لم تكن مقنعة إلا فيما مضى من عصور الأمية والجهل ، أما اليوم فيزعم أنها ليست كذلك ، لأن العِلْمَ - في رأيه - بات مستعدا لأن يخرق القانون بقانون مماثل ، ويُحوّلَ الأمرَ الخارقَ إلى أمر عادي ، ويُصيِّــرَ المعجز ممكنا ، ويجعلَه تحت السيطرة .. إن المشاغبين على الإسلام يحلمون بهذا ، رجاء أن يهدموا كل اعتقاد قام على الإيمان بالمعجزة وبمن أجراها الله على أيديهم من الأنبياء والمرسلين .

( ثانيا ) إن المطالب بــ (تفسير المعجزة ) يعلم في قرارة نفسه ؛ أنه لا سبيل إلى تفسيرها ولا إلى الكشف عن أسرارها ؛ ولا يمكن التوصُّلُ إلى تأطيرها في قوانين يمكن أن يطبقها من شاء متى شاء ، وحسبُ أصحاب هذه الفكرة من دعوتهم أن يقولوا : " إن الإيمان بالمعجزة هو إيمانٌ بشيء غير واضح ولا مفهوم ، ولا تقوم بها حجة على إثبات وجود الله ، لغموض يكتنفها ، والغامض لا يصلح للاستدلال ..

وهم مغالطون في هذا ، فالمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي يظهره الله على يد مدعي النبوة تصديقا له في دعواه " أما وجود الله تعالى فأدلته أوضح من الشمس في رابعة النهار.. والإلحاد بوجوده تعالى ليس لغموض الأدلة على وجوده ، وإنما لعمى في البصائر يحول بينها وبين أن تراها .

( ثالثا ) إن الدُّعاة إلى – تقنين المعجزات – هم في الحقيقة دعاةٌ إلى الكفر بالخوارق ، والإلحادِ فيها .. زاعمين أن الإيمان بالمعجزات سببٌ مباشرٌ في تخلُّف المسلمين وضعفهم وانحطاطهم .. وهؤلاء الملحدون لا يُصرّحون بهذا ؛ وإنما يحوم أحدهم حول الهدف ولا يبديه ، ويتلطى للانقضاض خلف قناع يخفيه ، لأن كشف القناع عن قُبْحِ الهدف ؛ سيُنَفِّرُ المدعوِّين ويمنعهم من الإصغاء لقوله ، لهذا تراه يُلمِّحُ ولا يُصرّح ، ويُغمغمُ ولا يُفصِح ..

( 3 ) وهذا المطالبُ ( بتقنين المعجزة ) أيضا يتهمُ الخطاب الديني بأنه يمنع من ذلك التقنين .. وهذا افتراء على الدين ، فالمعجزة قائمة على التحدي ، كما مرَّ معنا قبل قليل ، وكأن الله تعالى يقول : صدقَ عبدي فيما بَلّغ عني ، وقد أيَّدتُه بهذا الأمر الخارق للناموس الكوني، فمن كان في شك من صدقه ، فليأت بخارق مثله، وليدفع الحجة بمثلها ..

وهذا يعني أنَّ الخطاب الديني لا يمنع من تفسير المعجزات ، ولا يحولُ دون تأطيرها بقوانين ، وإنما يتحدَّى كلَّ من حاول ذلك ، ويقول له إنك ستعجز عن هذا ، وتبوء محاولاتك بالإخفاق . ولما أيَّد الله محمدا صلى الله عليه وسلم بكلامه المعجز قال لخصومه : [ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) الإسراء ] .

( 4 ) زعم الكاتبُ أن [ قوانين الطبيعة هي نفسها معجزة ] ثم قال [ وفهمها من قبل الإنسان وتفسيرها واستخدامها وتذليلها لا يقلل مطلقا من مكانتها ؛ كونَـها معجزة ] . وكأنه بهذا الكلام يريد أن يقول : ( إنه كما استطاع الإنسانُ كشف قوانين الطبيعة المعجزة وتسخيرها لأغراضه ، فكذلك سيكتشف أسرار الخوارق ، ويسخرها لأغراضه ) .. وهذه دعوى عريضة متهافتة لا سبيل إلى لَـمِّ شَعثِهَا بحزام .. لقد وعَدَ الله البشرَ بأن يُريهم بعض آياته في الآفاق ، ليتبين لهم أن دينه حقٌّ ، قال سبحانه وتعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) فصلت ] . فهداهُم إلى ركوب الهواء بالطيران ، وهداهم إلى الخروج من نطاق الجاذبية الأرضية بسفن الفضاء التي صعدت بروَّادها إلى سطح القمر ، ليقرب بذلك إلى عقولهم بعض الخوارق كالإسراء والمعراج ، أو ليطلعهم على النظام الدقيق الذي يحكم الكونَ من الذرَّة إلى المجرَّة ، والذي يقوم شاهداً على أنه يستحيل أن يكون هذا النظام نتاج صدفة عمياء . وإنما هو صنع الله الذي أتقن كل شيء . 

( 5 ) زعم الكاتب [ أن العقل الديني يشدُّنا إلى الخلف ، لأنه يتناقض مع المنهجية العلمية ..] وهذه فرية ( أخرى ) بضم الهمزة .!! وكأن صاحبنا لم يدرس شيئا من تاريخ الأمة التي كان ينتمي إليها ، ونُذكّرُهُ إنْ كان ناسيا ، أو نُعلّمُهُ إنْ كان جاهلاً ؛ بأنَّ علماء المسلمين هم أوّلُ من نقضوا المنطق الأرسطي ، ودعوا إلى الأخذ بالتجربة والاستقراء ، قبل أن يتبناه فرانسيس بيكون بعدة قرون... وأن الذين يؤمنون بالخوارق هم أول من اكتشفوا أن الشمس هي مركز الكون الذي نعيش فيه، وليس الأرض كما كان يظن بطليموس والمؤمنون بنظريته لعدة قرون ، فقرر علماؤنا بأن الأرض تدور وأن الشمس والقمر والنجوم والكواكب والسدم والمجرات .. كلها تسبح في فضاء الكون وتدور .. وأن (كوبرنيكوس) استفاد هذه المعلومة من أستاذه (محمد بن جابر بن سنان البتاني المتوفي سنة 613هـ) ..

كما أن المسلمين المؤمنين بالمعجزات هم أول من تكلم في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والجيولوجيا والجغرافيا والطب .. هل سمع صاحبنا بالإدريسي الذي وضع أول خارطة للكرة الأرضية . وهل علم بأن الخوارزمي هو أول وضع علم اللوغارتمات .. وأن الحسن بن الهيثم هو أعلم من تحدث في علم الضوء والبصريات ، وهو صاحب كتاب المناظر ، الذي تفوَّق به على إقليدس وبطليموس ، وهو أول من بحث في علم المرايا الكروية والأسطوانية والمخروطية، وحساب الفلك الكروي .. وهل يعرف صاحبنا المسكينُ أن " جابر بن حيان " كان شيخ الكيميائيين وأنه أحدُ مؤسسي العلم التجريبي وهو صاحبُ المقولة المشهورة : " يا بني عليك بالتجربة إذا أردت المعرفة " .. 

لا أريد الاستقصاء في سرد هذه الحقائق ، التي شهد بها الغربيون أنفسهم ، حتى إن المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه سجَّلتْ اعترافاتها للمسلمين العرب بأنهم هم الذين أرسَوْا دعائمَ الحضارة الغربية بكتابها المشهور [ شمس العرب تسطع على الغرب ].

::::::

ليت المنهزمين نفسيا من ابناء العروبة .. قرؤوا .. فعرفوا .. أن إيمان المسلمين بالمعجزات ؛ لم يمنعهم أن يصبحوا أقوى قوة في العالم ، وأن يدحروا بجحافلهم أكبر إمبراطوريتين فارس والروم ، ولم يمض عليهم نصف قرن من الزمن حتى ملكوا الدنيا ، وخضعت لهم رقاب قياصرة الروم ، وأكاسرة الفرس ، وتبابعة اليمن ، وخانات الهند ، وشاهات العجم ..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين