أصبح ابني مراهقاً


الأستاذ : عادل فارس


أيمن وأيسر، ولدان من أبنائنا، وُلدا في الغربة، وتعارفا وتآخيا بحكم تقارب أهلهما في المكان والقيم والعادات، وكلّ منهما كان أبوه فرحاً به، وهو يراه يحمل أملاً غالياً، يُحقّق به كثيراً مما فاته، ويمنحه طعماً جديداً للحياة، ويدفعه للسعي في طريقه.

لكن عندما كبر الولدان، وأصبحا في سن المراهقة، بدأ الأبوان يشعران بالقلق عليهما، فقد أصبح كل من الوالدين يرى أن كثيراً مما عرفه عن ولده قد تغيّر، وكأنه يفاجأ بأمور لم يتوقعها في هذه السن. وراح كلّ من الوالدين يبثّ شكواه إلى الآخر، ويصف له حال ابنه التي لم يعد راضياً عنها!.
فأحد الولدين لم يستطع والده أن يجعله صريحاً في حديثه عن البلوغ والتغيرّات التي ترافقه وتتبعه، والآخر كان صريحاً مع والده وغيره في هذه الأمور، حتى إنه أصبح يفتح هذه الموضوعات في جلسات الكبار!.

أحد الأبناء تحوّل كل وقته إلى أصدقائه، ولم يعد له حضور في البيت، وغابت علاقاته الحميمة بوالديه وإخوته، والآخر أراد أن يصبح الفرد الأهم في البيت، وأن يجمع الآخرين حوله، وكأنه هو الرجل وربّ الأسرة.

أحدهما أصبح كثير السهر، حالماً متأملاً، يُكثر الحديث عن الشعارات والمثاليّات، ولا يُنجز أي عمل في واقعه، بينما صار الآخر يتحدّى بقدرته على الإنجاز، وبكثرة الأعمال التي يؤدّيها ويتفوق فيها، ولا يرى أهميّة للمبادئ والقيم النظرية، كما يُسمّيها، لأنه واقعي!.

أحدهما كان يتعلق بأبطال الماضي، ولا يرى في عصره ومجتمعه من يستحق أن يكون بطلاً، أما الآخر فكان يتعلق بآخرين في مجتمعه، فهو يُقلّد بعض الأصدقاء، ويُحبّ بعض المدرسين، ويحمل صوراً لبعض الشخصيات، كالرياضيين وشهداء الانتفاضة.

أحدهما تبدو عليه مظاهر ضعف لم تكن بادية عليه من قبل، فقد أصبح يبتعد عن أي مواجهة، ولا يحب التحدي، ويخاف من الآخرين، ويحب العزلة، وهو ضعيف الثقة بنفسه. أما الآخر فقد بدا معجباً بنفسه، يبرز ذكاءه، ويتحدى بقوته البدنية، حتى أصبح عدوانيّاً يؤذي الآخرين!.

أحدهما كان يحذو حذو والده، يريد أن يكرر تجاربه، على الرغم من أن والده كان يشجعه على اختيار طريقة بنفسه، وأن يتجنب بعض التجارب الخاطئة التي مرّ بها الوالد. أما الآخر فكان يريد أن يختطّ لنفسه طريقاً جديداً، وأن يُخطّط لمستقبله بنفسه.. ولم ير أبوه فيما اختاره الولد شيئاً مناسباً، لأنه بعيد عن خبرة الأب وقيم الأسرة والمجتمع.

أحدهما كان شاعرياً حسّاساً، يرى في كل حادثة صغيرة مأساة ومصيبة، والآخر أصبح أقرب للأنانية والقسوة، لا يكترث بالمشاعر، ولا يتوقف عندها...


*****



لعل هذه المقابلات والمفارقات التي قدمنا بها للمقال أظهرت أن كثيراً من مشكلات المراهقة إنما هو في نظرتنا نحن للمشكلة، وفي زاوية تعاملنا معها، وفي بعض الحالات قد لا تكون مشكلة أصلاً. وطالما أن حديثنا هنا مقدّم للآباء، فلابدّ أن نعرض طرفاً من نظرة الآباء في مجتمعنا للمراهقة. ويمكن عند دراسة الواقع أن نلاحظ نظرتين منتشرتين:

النظرة الأولى ترى أن مرحلة المراهقة فترة مليئة بالمشكلات، لابد أن يمر فيها المراهق بأزمات شديدة، ولابد أن يقع فيها بمواقف مشكلة، وقد يوقع الأهلَ معه في هذه المواقف. أما مواجهة هذه الفترة دون خسائر فهو أمر نادر. وسواء عالجنا المشكلات بالمسايرة أو المجابهة، فعلينا أن نعلم أن هذا أمر لابد منه، مهما كانت آثاره فيما بعد. ففي كل الأحوال ستكون فترة المراهقة هي فترة التحول من الطفل البريء إلى الإنسان الراشد الذي يعيش الحياة المليئة بالتعقيدات والمشكلات، خاصة في المجتمعات التي تموج بقيم مضطربة، وعلينا أن نتحمل آثار هذا التحول وخسائره.

والنظرة الثانية توافق على أن المشكلات أمر ضروري في مرحلة المراهقة، لكنها لا ترى في ذلك سوءاً أو شراً يدعو إلى القلق، ونحن نرى كثيراً من الآباء يرون مشكلات المراهقة صغيرة مهما كبرت، أو مشكلات مؤقتة، مرتبطة بمرحلة طيش، أو فترة تغير جسمي ونفسي، وستنتهي آثار هذه التغيرات بانتهاء هذه المرحلة. وعلينا ألا ننظر للمراهق على أنه منحرف لزاماً، وفي حالة حدوث انحراف فعلاً، فإنه يمكننا أن نمرر هذه المرحلة ببعض المعالجات، لنرى بعدها الابن وقد عاد إنساناً جيّداً حسن الدين والخلق.

ولا يخفى أن هاتين النظرتين قاصرتان من جوانب عدة، ولسنا نريد أن نعدد هذه الجوانب، إنما نُنبّه إلى أن المشكلة في كلتا النظرتين – على اختلافهما – هي أنها لا ترى المراهقة فترة نمو وتطوّر، أي فترة إيجابية يمكن للمراهق أن يستفيد فيها من خبرات نموّه السابق والحالي، وأن يكون إنساناً متميّزاً، بل أن يسبق عمره، ويتفوق على من هم أكبر منه، وهذا الأمر ممكن كما يقول الواقع، ويؤيده كثير من مبادئ المنهج الإسلامي في التربية. ولعل ما سنقدمه منها يكفي لتوضيح هذه الإمكانية.


*****



إن الله تعالى خلق الإنسان، ووهبه هذه النفس التي تحمل مركّبات متعددة، ففيها الشهوات والغرائز، وفيها العواطف والمشاعر، وفيها القدرات والاستعدادات، وفيها رغبات التفوق والسمو، وفيها مكامن الهبوط والفجور. ومع ما وهب الله هذه النفس البشرية من قدرات، دلّها على سبيل النجاة والهداية، وظهر في بديع خلق الله تعالى أن من يُرِدِ الله أن يهديه يرزقه معها توافق نفسه، ويُجنّبه الصراع بين مختلف هذه المركّبات، ولذلك يزيد إقبال الإنسان المؤمن على ربّه مع اقترابه من طريق الهدى، وتزيد إرادته للخير كلما تقدّم في طريق الرشد، وتجنّب طريق الغواية.

وبهذه النظرة تمتاز التربية الإسلامية من سواها من مناهج التربية، فالتربية الإسلامية تقوم على أن الهداية إلى طريق الرشد هي حالة من تحقيق ذات الإنسان، ونمو شخصيته الفردية، وفاعليته الاجتماعية، وأن عبادة الإنسان لربه هي غاية خلقه، وراحة نفسه. بينما ترى النظرات غير الإسلامية حالة التديّن حالة من الهرب، أو الصراع، أو التسكين المؤقت لرغبات النفس، وليست طريقاً للنمو، يمكن أن يكون هدفاً للفرد، أو غاية للمجموع البشري، وقد صدق الله تعالى: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ] {البقرة:45}.

وإذا كانت مرحلة المراهقة مرحلة تظهر فيها بعض الدوافع، وتحدث فيها تغيرات في مكوّنات الشخصية وعناصرها، فإنها بهذا الاعتبار يمكن أن تكون مرحلة تطور وفاعلية عالية، إذا لقي المراهق تربية إسلامية قويّة، وواقع الحياة يصدّق ذلك، ففي نماذج السّلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وفي نماذج المجاهدين والاستشهاديين في العصر الحاضر، بل في بعض المتميزين من أبنائنا، في هؤلاء كلهم أمثلة لما يمكن أن يكون عليه المراهق إذا قُدّر له أن يسلك طريق الهداية.

وقد يقدّم الكثيرون أمثلة لأبناء تلقّوا تنشئة صالحة في طفولتهم، لكنهم انحرفوا عن هذه التنشئة في مراهقتهم، ولم يستطع مربّوهم أن يتغلبوا على ضعفهم وانحرافهم في مراهقتهم وشبابهم لكن هؤلاء قد يفوتهم نماذج لأبناء عرفوا طريق الهدى حقاً في مرحلة المراهقة، ودخلوا درب الإيمان في مرحلة المراهقة، وربّما في مجتمعات تغلب فيها قيم الانحراف والانحلال.

ونحن حين نقول ذلك لا ننفي أن تغيرات مرحلة المراهقة قد تكون خطيرة، وقد تمتد آثارها إلى ما بعد انتهاء المرحلة، لكننا نؤيد إمكانية جعلها مرحلة تطور ونمو في مختلف جوانب الشخصية، ونقرّ بإمكانية هذا التطور بالرؤية النظرية والواقعية، لا لكونه أمراً محتوماً لكل الحالات. وإذا كان الأمر كذلك فلا يكفي أن نتحدث عن حالات التميز والتفوق، بل علينا أن نبحث في عوامل الوقاية والعلاج لحالات الضعف والقصور، لأننا سنواجهها في الواقع.


*****



إن من خصائص التربية الإسلامية المهمة أنها مع تميزها في التعامل مع حالات الإنسان القوي والصاعد، تتميّز في تعاملها مع حالات الإنسان الضعيف المقصر، فتدفع القوي الإيجابي لمزيد من التطور والتفوق، وترفع الضعيف السلبي للخروج من حالة الضعف إلى حالة القوة أو الاقتراب منها. فشعور الإنسان بالرغبة في السمو والارتفاع هو السمة الدائمة الغالبة حسب المنهج الإسلامي، وأما شعوره بالعجز والكسل، أو الجبن والبخل، فهو حالات مؤقتة، قدّمت لها التربية الإسلامية أساليب علاجها المناسبة.

لقد جاء في الحديث النبوي الشريف من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم". متفق عليه.

ويُفهم من هذا النص أن على الإنسان أن يبذل استطاعته في الطاعات، وألا يشوب طريقه بكثير أو قليل من المعاصي، وإذا زلّت قدمه مرة سارع إلى الاستغفار والتوبة والاستقامة، ومن استقرّت حاله على ذلك فقد بلغ حقيقة التقوى، وأصبحت حياته ازدياداً في الخير، وصعوداً سريعاً، يستفيد فيه من طاقته استفادة كاملة.

لكن القليل من الناس هم الذين يستطيعون أن يجعلوا تلوثهم بالمعاصي أمراً عارضاً، لذلك أرشد الإسلام إلى ما يمحو آثار المعاصي، وهناك الكثير من الوسائل والطرق للوصول إلى ذلك، ومن أكثر هذه الوسائل تأثيراً أن يُضيف الإنسان في سجلّه وطريقه مزيداً من الطاعات والقُربات، ليبقى عند ربه وعند نفسه ممن غلبت عليه الطاعة، وصدق في إرادة الصدق، ووفّى ما استطاع من ميثاقه. قال الله تعالى[الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ المِيثَاقَ(20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ(21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ(23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(24) ]. {الرعد}. الرعد: 20- 21، فجعل من صفات هؤلاء أنهم يدرؤون بالحسنة السيئة.

قال بعض المفسرين: الأظهر في معناها: يفعلون الحسنات فيدرؤون بها السيئات، كقوله تعالى: [إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] {هود:114}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتّقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تَمْحُها، وخالق الناس بخلق حسن" رواه الترمذي.

ومن أفلح في ذلك، فإنه بعون الله تعالى يبقى بين خوفه ورجائه، مقبلاً على ربه، لا تحرمه معصيته لذة الطاعة، ولا تمنعه من صدق النية وإخلاص المحبة، ولا يقع في حالة العجز أو القنوط. وربّما يعينه الله  تعالى  بهذا الصدق على تحقيق التوبة النصوح، والإقلاع عن الذنب، ويجعله كمن لا ذنب له، وينال درجة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.


*****



وحين نريد أن نطبّق هذا المبدأ التربوي في مرحلة المراهقة، فإن معنى ذلك أن نعين المراهق على تقوية نفسه بالطاعة، ونجنّبه الوقوع في أسْر المعصية، ونحتاج لذلك أن نثير عوامل هذه القوة في نفسه، ونعطيه ما يساعده على ذلك في محيطه وبيئته.

فأما إثارة هذه العوامل في نفسه فتعني تعليمه على المثابرة والطاعة، ومحاولة جعلها ممارسة يومية له، مثل اتخاذه ورداً يومياً. وتعني كذلك دفعه للاستغفار الدائم ومحاسبة النفس. وتعني كذلك تزويده بما يحسن ظنه بالله تعالى، ويجعله يتذوق ما يتغير في حياته عند تقربه من ربه، ولو كان بعد فترة تقصير في حقه سبحانه وتعالى.

وأما ما يساعده على ذلك من عوامل في محيطه وبيئته، فأهم هذه العوامل توافر القدوة الصالحة، والصحبة الصالحة، فمن المهم أن يكون المراهق في مجتمع تتوافر فيه النماذج الحسنة، ويكثر فيه ذكر الله تعالى، ويعرف المعروف ويأمر به، وينكر المنكر وينهى عنه. ولا يقال: إن هذا غير ممكن في هذا العصر. فهذا المجتمع الذي نشير إليه قد يكون المجتمع الكبير الذي نعيش فيه، أو مجتمعاً أصغر، كطلاب المدرسة التي يتعلم فيها، أو المسجد الذي يصلي فيه، أو مجموعة أصدقائه الذين يخرج معهم، وإن لم يمكن ذلك كله، فليكن هذا المجتمع هو أسرته التي يسكن معها في البيت.

ومن الصفات المهمة للقدوة أن تكون مثيرة للانتباه، ومرتبطة بقدر من المحبة والعلاقة العاطفية بين القدوة والمقتدي، وأن يعلم المقتدي أن تأسيه بالنموذج أمر ممكن أولاً، ويمنحه شعوراً بالتقدم والتغيّر في تقييمه لنفسه ثانياً. ولتحقيق هذه المواصفات لابد للأب أن يعمل على معرفة طبيعة إدراك المراهق لشخصية القدوة، سواء كانت هذه القدوة صديقاً له، أو شخصاً كبيراً يتعامل معه باستمرار، أو شخصاً معروفاً في عصره، أو شخصية تاريخية من مجتمعات السلف الصالح، أو مجموعة من المواصفات والمثل العليا التي يتخيلها لنفسه.

ونحن نتذكر هنا أن المربّي قد يفشل في جعل هذه العوامل مؤثرة، وقد يغلبه تأثير آخر من مصدر آخر. لكننا كثيراً ما ننسى أن الإكثار من تقديم النموذج الصالح قد لا يؤثر تأثيره المناسب في تغيير السلوك، لكنه غالباً يؤثر تأثيراً بعيد المدى، حيث تعمل النماذج المتكررة والموجّهة على تكوين خبرات عميقة عند الفرد، وبلورة تصورات مختزلة في صور عقلية أو قواعد ملخّصة، تُعين الفرد على الاستفادة منها في مراحل متأخرة من حياته. وقد يجد المراهق أو الشاب والرجل بعد ذلك أنه محتاج إلى هذه الخبرات والاستفادة منها، وبأن عليه أن يحدث تغييرات ونقلات كبيرة في مجرى حياته، وقد يفاجأ هو نفسه بعودته إلى هذه الخبرات، وقد يُفاجئ الآخرين أيضاً.


*****



لقد أطلنا في عرض أهداف ومبادئ عامة للتعامل مع المراهق، وسنحاول أن نقترب بعض الشيء من بعض الوسائل التعليمية لذلك. ولأن خطابنا موجّه للآباء أولاً، فإننا سنشير إلى بعض المواصفات المطلوبة في البيت ليكون بيئة مناسبة ليعيش فيها الابن مراهقة يشعر فيها بالتطور، ويشعر الآخرون فيه بالراحة.

يبنغي أن يتوافر للمراهق في البيت الشعور "بالأمن"، وليس معنى ذلك أن يكون في البيت "جهاز أمن" إنما أن يكون البيت مكاناً آمناً، أي: أن العلاقات الاجتماعية بين أفراده هي مصادر السكينة والراحة، لا مصادر الخطر والخوف والقلق.

ويتحقق ذلك حين تكون هذه العلاقات علاقات توادّ لا تصل إلى التعلق الزائد، وتراحم لا يتحول إلى حماية وسيطرة، ومصارحة ترفع الحرج ولا ترفع الاحترام، وتكون نتيجةُ هذه العلاقات نظاماً مستقراً في البيت، لا تطغى فيه سلطة الكبير، ولا يعتدي فيه الصغير، وتتضح فيه الأدوار، ويعرف كل عضو في الأسرة حقه وواجباته. ومثل هذا البيت هو البيئة المناسبة لتنمية البذور السليمة للشخصية السليمة، وفيه يمكن أن نقوم بالإجراءات اللازمة ليكون دخول الأبناء في مرحلة المراهقة وعيشهم فيها فترة نمو لا تراجع.

ومن أهم هذه الإجراءات تزويد الابن بما يحتاجه من معلومات وأحكام وآداب عما سيمرّ به من تغييرات في بدنه ونفسه. فيتلقّى في مراحل مبكّرة من طفولته ما يتعلّق بالاستئذان، والاختلاط والحجاب. وبعد ذلك ما يتعلق بمسائل البلوغ، وما يتبعه من بدء التكليف الكامل، ومن الجديد في أحكام الطهارة، وباقي العبادات، ومعرفة ما يحلّ ويحرم من توابع نمو الرغبة الجنسيّة، كأحكام النظر، والعادة السرية، ثم أحكام الجماع ومقدّماته... وكل ذلك في وقت ملائم وموقف ملائم.

إن اكتساب الابن لهذه المعرفة من بيته هو إجراء يعني الاستفادة من الإجراءات السليمة في مرحلة ما قبل المراهقة، ويمكن البناء عليه بإجراءات تالية لنصل إلى المراهقة السليمة. ومن المهم هنا استغلال هذه العلاقات لتتم عملية التزويد من خلال حوار متكافئ واتصال متبادل. فيتم فيه سماع ما يحدث مع المراهق، وأسئلته، وآرائه، وتفهّم ما يقوله، ومعرفة دوافعه، وقد يكون في كثير من المواقف أسلوب النقاش الهادئ فاعلاً، ومن آثاره المهمة شعور المراهق أولاً أنه عنصر إيجابي في هذا الحوار وليس متلقياً، وثانياً أنه عنصر مهم، يدور الحوار حوله، حول نموه، ومراحل حياته القادمة، كمكان عيشه، وطريقة عيشه، وزواجه، ودراسته، وعلاقاته الاجتماعية...

ويمتد تأثير هذا النمط من العلاقات المتكافئة والدافئة إلى أبعد من مسألة المصارحة، فهو يقدم خطوط حماية قوية، تمنع المراهق من الدخول في مداخل الانحراف، لأن هذا البيت يجد فيه المراهق ما يجده خارجه، ولا يستبدل به مجموعة أصدقائه، ويشعر فيه بدوره وفاعليته، ويشعر بأنه قوي قادر على تقديم المساعدة، كما يتلقى من غيره المساعدة، ونتيجة ذلك يشعر أنه مُنْتَمٍ للبيت، وأنه جزء من هويته، لا أنه عبء أو عار عليه.


*****



ليس ما قدمناه حلاً سحرياً لمشكلات المراهقة، فالموضوع كبير ومتنوع، ولو أردنا أن نقدّم تصوّراً يستوعب اختلاف الحالات لطال الموضوع أكثر. إنما أردنا أن نخاطب الآباء، وأردنا أن يُقدّروا هذه المرحلة حق قدرها، وأن يُراعوا ما يحدث فيها من تغيّرات، وأن يعرفوا الآفاق التي يمكن أن يصلوا إليها لو قصدوا إعداد مراهق ناضج، ليكون بعد ذلك شاباً ناضجاً ورجلاً ناضجاً.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين