عصر الفساد

 

لقد جرت العادة على إطلاق وصف "عصر العلم" على عصرنا الراهن، وهذا صحيح عندما ننظر إلى العصر من جانبه التكنولوجي؛ أما عندما ننظر إليه من جانبه الأخلاقي نجده "عصر الفساد" ولا فخر، فقد بات الفساد اليوم من أكبر ظواهر العصر، ما يؤهله لاحتلال أسوأ فصل في سجل التاريخ البشري !

ولعل أسوأ ما في الفساد أنه يشكل العقبة الأكبر والأعسر في طريق الإصلاح والعدالة، ويحول دون تحقيق التنمية !

وتزيد الصورة سوءاً عندما نعلم أن الفساد قد أصبح اليوم هو الحاضن الرئيس لانتشار المخدرات والدعارة والمؤسسات الدولية التي تأسست ابتداءً لحماية حقوق الإنسان فإذا بها تتحول على أيدي الفساد والمفسدين إلى المتاجرة بمصائر البشر، وتجعل مستقبل العالم في مهب الريح !!؟

ومن المؤسف والمؤلم معاً أن نرى وطننا العربي اليوم في رأس القائمة عند الحديث عن الفساد في العالم، مما دعا المخلصين من أبناء الأمة إلى إطلاق جرس الإنذار أملاً في صحوة توقف قطار الفساد، وتنهي العبث في مصير هذه الأمة التي وصفها ربها بقوله تعالى : "كنتم خير أمة أخرجت للناس" سورة آل عمران 110 ، وإذا بالفساد المستشري في أوصالها يجعلها أسوأ الأمم !!؟

صور من الفساد العربي :

وللفساد محاضن عديدة فيها يترعرع ويستشري، وهي البيئات التي تشجعه وتساعده على النمو ومد أذرعته المخربة الشريرة، تساعده في هذا قدرته الفائقة على التلون والظهور بألف صورة وألف شكل وألف لون !؟

ففي بلداننا العربية مثلاً نجد ما لا يعد ولا يحصى من صور الفساد وأشكاله وألوانه؛ منها على سبيل المثال لا الحصر :

- التهرب من الضرائب .

- إقطاع الأراضي والمكافآت المجزية للأشخاص ذوي الوجاهة، والموالين للسلطة، والحزبيين، وغالباً ما تخصص هذه الإقطاعات من خلال قرارات رسمية عليا، ما يعني أن الفساد يترعرع تحت أنظار السلطة وفي حمايتها !!!

- لكن يبقى من أخطر صور الفساد في بلداننا العربية ضخ المعونات الأجنبية في جيوب المسؤولين، وهذه المعونات قد تأخذ شكل قروض مجاملة تمنحها البنوك والمصارف الأجنبية دون ضمانات حقيقية ودون مطالبة بسدادها، وقد تأخذ هذه المعونات شكل عمولات عقود تحت عنوان تحديث "البنية التحتية" أو صفقات أسلحة؛ وتزداد كارثية الفساد هنا عندما نعلم أن بلداننا العربية أكثر بلدان العالم استيراداً للسلاح، وأكثرها هزائم (!!؟) 

- ومن صور الفساد المستعصية أن يتخفى بشكل إتاوات تفرض على أصحاب المناصب الدسمة أو رشوة رجال الصحافة والنيابة والقضاء والأمن لتمرير مصالح غير مشروعة. .. وهناك صور أخرى كثيرة للفساد رصدت في مناسبات عدة هنا وهناك لا مجال لعرضها !

ومن خلال ما ينشر للعلن نجد الفساد أكثر حضوراً وتجذراً في بعض البلدان العربية دون غيرها، كما هو مثلاً في مصر والمغرب ولبنان والأردن، لكن هذه الصورة غير دقيقة في الواقع، فهناك دول عربية أخرى أكثر فساداً من هذه الدول بما لا يقارن، وسبب ظهور الفساد في هذه البلدان العربية الأربعة أكثر مما في غيرها؛ إنما هو حرية النشر والإعلام النسبية التي تتمتع بها هذه البلدان، مقابل التعتيم المتعمد الذي تمارسه البلدان العربية الأخرى التي ينتشر فيها الفساد أضعاف مما هو في هذه البلدان الأربعة !

دور المال الأجنبي في الفساد العربي :

قبل أسابيع قليلة كشف تقرير منظمة الشفافية العالمية (Transparency International) أن الشركات الدولية وعلى رأسها شركات أمريكية قد قدمت رشى في دول عربية عديدة؛ لتمرير أعمالها وخدمة مصالحها، وأضاف التقرير أن هذه الشركات تدفع رواتب كبيرة جداً للموظفين الحكوميين المتواطئين معها، وأثبتت المنظمة أن من بين هؤلاء سياسيين كباراً بينهم رؤساء، ووزراء، وملوك، تحفظت المنظمة عن نشر أسمائهم !!؟ ومما يؤكد تفشي قضايا الفساد هذه ما كشفه مؤخراً "وليم مايكل ديلي" وزير التجارة في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون الذي كشف النقاب عن رشى قدمتها شركات أمريكية خارج الحدود في الفترة الممتدة من مايو/ أيار 1997 إلى أبريل/ نيسان 1998 (سنة واحدة) تتجاوز قيمتها (30 مليار دولار) !!

وتبرم كثير من الشركات المحلية والأجنبية عقوداً استشارية ضخمة مع طبقة معينة من السياسيين ورجال الأعمال والناشطين، كما تمرر هذه الشركات عقوداً وصفقات وهبات ومنح وتوكيلات مختلفة في مشروعات البنية التحتية والاتصالات والمعلوماتية، وتغدق هذه الشركات ملايين الدولارات بشكل منح ومعونات تستهدف خلق نخبة سياسية قادرة على تمرير مشروعات الخصخصة واندماج البلاد في منظومة الثقافة الغربية وأنماط الاستهلاك الغربي . 

وجدير بالذكر أن الإدارة الأمريكية – وربما إدارات وحكومات أخرى - لا تعد الرشى والعمولات والهدايا التي تدفع في العالم الثالث من الفساد الخاضع للمحاسبة، وهذا ما يشجع الشركات الكبرى على تقديم هذه الرشى مما يوفر فرصاً أخرى كبيرة للفساد في العالم !!

أين الخلل ؟ :

من خلال متابعتنا لقضية الفسااد في العالم العربي وجدنا أن أفضل مدخل لفهم هذه القضية هو التركيز على دراسة الخلل المؤسساتي الذي تعاني منه كافة المؤسسات العربية في القطاعين العام والخاص على حد سواء، وقد وصل هذا الخلل في معظم مؤسساتنا العربية إلى وضع كارثي يكاد يكون عصياً على المعالجة !!؟

وتزيد القضية تعقيداً وغموضاً حين تتبنى المعالجة جهات عليا في الدولة، إذ تجد هذ ه الجهات نفسها موضوعاً للفساد فتستنجد بالإعلام الرسمي والإعلام المأجور للتغطية على فسادها، مما يجعل الفساد يتابع التخريب والتدمير في صمت كالسرطان!

ومن المضحك المبكي أن كل الحكومات والزعماء وقادة الأحزاب العربية يجعلون "مكافحة الفساد" في رأس برامجهم، لكن الفساد يواصل تخريبه، بل يزيد فساداً مع كل إعلان عن مكافحته ! والسر في هذ أن القضاء على الفساد ليس مجرد برنامج يعلن أو قرار تصدره الحكومة، وإنما هو منظومة متكاملة من الإجراءات العملية الجادة والمخلصة .

وقد نشرت جامعة كاليفورنيا مؤخراً دراسة مهمة للباحث "روبرت كليتجارد" <Robert Kiltgaard > بعنوان "السيطرة على الفساد" لاحظ فيها الباحث أن الفساد موضوع يتحاشى الناس ذكره ويتجنبون الخوض فيه لاعتقادهم أنه لا يمكن عمل شيء تجاهه، ولهذا يصف الباحث الفساد بأنه "الحاضر الأكبر والغائب الأكبر"

ومن أكثر صور الفساد انتشاراً في البلدان العربية تقديم الشخص مصالحه الخاصة عن المصلحة العامة وعلى المثل العليا التي تعهد بخدمتها واحترامها في وظيفته، وغالباً ما يحصل هذا من قبل الموظفين الصغار وفي الأمور الصغيرة التي لا تثير الانتباه، أما الفساد في الأمور الكبيرة فلا يجرؤ عليه إلا أصحاب النفوذ، والأشخاص الذين يعملون تحت أيديهم ! وتذكر البحوث والدراسات التي جرت في بلداننا العربية أن من أهم أسباب الفساد : 

• المحسوبية في اختيار الموظفين .

• غياب المراقبة .

• غياب المحاسبة، أو ضعفها . 

حجم الفساد وخسائره :

في غياب المعلومات الميدانية الدقيقة يمكن تقدير حجم الفساد من خلال الإجابة على بعض الأسئلة :

• إلى أي حد تلتزم الإدارة بنظام صحيح ودقيق للمراقبة ؟

• هل هناك نظام مناسب لكتابة التقارير بين الوحدات التنظيمية؟

• ما هي درجة الأمانة والكفاءة لدى الموظفين ؟

• هل السياسات والإجراءات المتبعة في المؤسسات واضحة ؟

• هل السلطات التي تنظم عمل المؤسسات محددة وموزعة بطريقة صحيحة ؟

• هل إجراءات الميزانية وإعداد التقارير تطبق على نحو سليم فعال ؟

• هل يترتب على المخالفات والفساد مخاطر وعقوبات معقولة ؟

وتشير الإحصائيات الصادرة عن منظمة الشفافية العالمية إلى أموال طائلة جداً تخسرها البلاد من جراء الفساد، وهذه الخسائر تنعكس سلباً على تنمية البلاد، وراحة المواطنين وصحتهم، ويذكر من ذلك مثلاً أن الفلبين قد تكبدت خسائر فادحة من إيرادات الضرائب قدرت بـ ( 51% ) وهي بلا شك نسبة هائلة تسبب خللاً كبيراً في ميزانية الدولة، وتفشل الكثير من مشاريعها التنموية !!

وقد لاحظ الباحث السياسي الأمريكي صموئيل هينغتنتون (1927 – 2008م) في كتابه "النظام السياسي في مجتمعات متغيرة"أن هناك ظروفاً وحالات ينتعش فيها الفساد الحكومي، ذكر منها : ميل بعض الدول إلى النمو السريع والتحديث في بيئة مختلة القيم، وخلال التوسع الحكومي غير المدروس، وذكر هنتنغتون كذلك أن الفساد يتفشى وينتفش في الدول التي تسمح لانتشار المصالح التجارية واحتكارات الشركات العملاقة .

وذكرت دراسة أجريت في المملكة الأردنية عام 2016 أن ( 22.5% ) من أوقات الموظفين تستنزف في أعمال لا علاقة لها بالأعمال المطلوبة، ما يعني أن حوالي نصف أوقات الموظفين تذهب هدراً، وفي دراسة أخرى أجريت في مصر عام 2014 ف قدرت إنتاجية الموظف بـ (27 دقيقة) فقط من أصل الساعات الثمانية المطلوبة من الموظفين يومياً . 

وقد بلغ حجم الفساد في بعض الدول العربية حداً دفع المشرعين وبعض النواب المخلصين إلى وضع مشروع "مكافحة الفساد والكسب غير المشروع" إلا أن مثل هذه المشاريع تظل حبيسة الأدراج، ولا ترى النور أبداً؛ لأن أول من يقع تحت طائلتها المسؤولون الكبار !!؟

نتائج الفساد وأخطاره :

ربما لا تكون أخطر نتائج الفساد هي هدر المال العام، بل الخلل الذي يصيب أخلاقيات المجتمع وقيمه، فتضعف المؤسسات الحكومية ويتراجع أداؤها ضعفاً لا ينذر بانهيار هذه المؤسسات وحدها، بل انهيار المجتمع برمته !!

فقد وصل ضعف الأخلاق والقيم درجة أصبح فيه دستور البلاد لا يجد احتراما ولا هيبة .. فقد أدخل الفساد الدستور والقانون في سبات عميق جعل الناس يتخلون عن قيمهم في سبيل تحصيل ما يمكن تحصيله من حقوقهم، ومع انهيار القيم تضيع الحدود بين المصلحة العامة والخاصة، ويتخلى المواطن عن احترامه للمؤسسات والقوانين والمحاكم .

المعالجة :

لا جدال بأن معالجة الفساد تحتاج منهجية شاملة تستهدف محاصرته والقضاء على الأسباب والعوامل المساعدة في انتشاره، ومع تسليمنا بصعوبة العلاج، فإن هذه الحقيقة المؤلمة لا تعني استحالة الخلاص من الفساد، ولا تعني عدم جدوى مكافحته فلا سبيل أمامنا إلا العمل على مكافحته، على الرغم من عملنا هذا قد يبدو عملاً ساذجاً غبياً، إلا أنه هو الخيار الوحيد الذي يبقي جذوة المقاومة فاعلة وجاهزة لمتابعة المهمة من قبل الأجيال القادمة؛ ومما يمكن فعله في جيلنا الحاضر وضع أفكار واقتراحات يمكن من خلالها كشف الفساد وتقدير حجمه، ومنها كذلك تأسيس مراصد إعلامية ومعلوماتية تستفيد من المصادر المتاحة من الصحف والتقارير الرسمية لمتابعة وملاحظة مجموعة من الأعمال والبرامج والعقود المسببة للفساد؛ هذا مع إيقاظ بعض القيم الأساسية ونشرها في المجتمع على أوسع نطاق، في مقدمتها : 

• قيم العدالة والمساءلة والمراقبة العامة والإعلام النزيه الشفاف والوضوح السياسي والإداري .

• العدالة في التوظيف، وتوزيع المناصب بحيادية والتنافس النزيه عليها . 

• الإنصاف في توزيع الأجور والمكافآت، وتوفير فرص الحياة الكريمة للموظفين بما يحول دون بحثهم عن مصادر غير مشروعة لتلبية احتياجاتهم الأساسية .

• ....

***

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين