تجديد الإسلام أم لوثرية الإسلام

إن الراصد لحركة الفكر في العالم العربي خاصة والعالم الإسلامي عامة خلال العقود القليلة الماضية يلاحظ - يوماً بعد يوم - تزايد الدعاة لتجديد الدين متذرعين بالحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (149) والألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/599) .

ويلاحظ المتابع لهؤلاء الدعاة أنهم على اختلاف مشاربهم يتلمسون خطوات الثورة الإصلاح الديني التي قادها في أوروبا الألماني مارتن لوثر (1483 – 1546م) .

فمن هو مارتن لوثر ؟ :

إنه قسيس ألماني، كان أستاذاً في اللاهوت المسيحي، وهو الذي أطلق شرارة الإصلاح الديني في أوروبا، بادئاً باعتراضه على "صكوك الغفران" التي كان "البابا ليون العاشر" في روما يتاجر بالدين من خلالها، وقد نشر مارتن في عام 1517 رسالته الشهيرة المؤلفة من خمس وتسعين نقطة تتعلق أغلبها بالتحرر من لاهوت الكنيسة ومن سلطة البابا، والتحرر من فكرة "العقاب الزمني للخطيئة" وهي الفكرة المحورية التي تقوم عليها العقيدة النصرانية . وقد طالبه "البابا ليون العاشر" في عام 1520 بالتراجع عن هذه النقاط التي رأى البابا أنها تنسف العقيدة من أساسها، إلا أن مارتن رفض التراجع، وأصر على قناعاته، فاستعدى البابا عليه الإمبراطورية الرومانية ممثلة بالإمبراطور "شارل الخامس" وطلب نفي مارتن وحرمانه الكنسي وإدانة كتاباته بوصفها هرطقة ، وأنها تخالف قوانين الإمبراطوريّة !

وكان من أبرز أفكار مارتن لوثر التي يترسم خطاها اليوم دعاة تجديد الإسلام :

1- رفض مارتن «السلطة التعليمية» في الكنيسة الكاثوليكية التي تجعل للبابا القول الفصل بتفسير الكتاب المقدس، واعتبر مارتن أنّ لكل إمرئ الحق في التفسير؛ وهي المقولة التي يكررها اليوم كل الدعاة لتجديد الإسلام الذين يرون إن من حق كل عربي مسلم أن يفسر القرآن الكريم، بحجة أن القرآن مكتوب

بالعربية، دون أن يشترطوا إحاطة المفسر بالعلوم التي تساعده في التفسير الصحيح !

2- أنّ "الكتاب المقدس" هو المصدر الوحيد لمعرفة أمور الدين؛ وهي المقولة التي يتبناها اليوم "القرآنيون" العرب خاصة، الذين يزعمون أن القرآن الكريم هو وحده مصدر التشريع، رافضين اعتبار السنة النبوية مصدراً للتشريع؛ وهي التي أجمعت الأمة الإسلامية على أنها المصدر الثاني للتشريع استناداً إلى عدد كبير من آيات القرآن الكريم التي تأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم .

3- عارض مارتن سلطة الكهنوت الكنسي بحجة أن جميع المسيحيين يتمتعون بدرجة الكهنوت المقدسة، وبالرغم من عدم وجود كهنوت في الإسلام على غرار الكهنوت الكنسي، فإن دعاة التجديد في الإسلام يرون أن علماء الإسلام وفقهاءه يمثلون كهنوتاً يجب التحرر منه، ولا يستثنون من هذا حتى فقهاء الإسلام الكبار الذين أجمعت الأمة على علمهم، وإخلاصهم، وعدم احتكارهم للإسلام كما فعل البابا وكما تفعل الكنيسة؛ بل إن كبير فقهاء الإسلام الإمام الشافعي (ت 150هـ/ 820م) أسس مبدأ في حرية الرأي لم يُسبق إليه فقال رحمه الله : "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" فأي هذا الموقف من احتكار البابا وكهنوته !!؟

4- قدّم لوثر ترجمة خاصة به للكتاب المقدس بلغته المحليّة بدلاً من اللغة اللاتينيّة التي كانت هي اللغة الوحيدة التي دأبت الكنيسة الرومانية على استخدامها في قراءة الكتاب المقدس، فكسر مارتن بهذه الترجمة احتكار الكنيسة لفهم الكتاب المقدس، ما ساعد في انتشار ترجمته بين عامة المسيحيين، وبهذا كسب مارتن تعاطف عامة المسيحيين، وساهمت ترجمته في نجاح ثورته، وقد التقط بعد دعاة التجديد في الإسلام هذه الفكرة، فعزموا على نسخها، طمعاً في كسب الجمهور الأمي من المسلمين، وقد تسربت أخبار مؤخراً تفيد بعزم بعض هؤلاء اللوثريين على إصدار نسخة خاصة من القرآن الكريم باللهجة العامية المصرية العامية بذريعة تقريب فهم القرآن الكريم إلى عامة المسلمين بحجة ارتفاع نسبة الأمية فيهم حسب هؤلاء الأدعياء !؟

وهكذا يبدو جلياً أن (المفكرين الإسلاميين !!؟) الداعين اليوم إلى تجديد الإسلام يتبنون طريقة الثورة الدينية التي قادها مارتن لوثر في أوروبا، ويترسمون خطواته، خطوة فخطوة، ما جعل بعض المراقبين المؤيدين لهذه اللوثرية يبشرون بقرب ظهور "مارتن لوثر الإسلام" تيمناً بمارتن لوثر أوروبا ! بل يعتبرون هذا الحدث حتمية تاريخية لا مندوحة عنها !!؟ وقد بلغت الحماسة ببعضهم إلى حد تحديد اسم هذا الموعود الذي يرون أنه سيخوض معركة الإصلاح الإسلامي ويؤكدون أنه سوف يربحها !

وقد بلغ من انتشار هذه الدعوة إلى لوثرية الإسلام أنها أصبحت عناوين صحفية في أوروبا والولايات المتحدة، بل منحت نفسها حق اقتراح اسم المجدد الذي سيحظى بلقب "مارتن لوثر الإسلام" !!؟

وقد تزايَد التصريح بهذه الدعوة في مواقف وتعليقات وأعمال أوروبية وأمريكية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، مع تزايد التحذير من الدين الإسلامي ونشر فكرة الخوف من الإسلام ( Islamophobia) في العالم.

بل إن أحد المفكرين الإسلاميين ممن خلعت أوروبا عليه هذا اللقب قد طار فرحاً بهذا اللقب وراح يحدّث العالم عنه بفخر واعتزاز معتبراً هذا اللقب شهادة استحقاق عالمي حسب قوله !!

وغني عن القول إن الإسلام بطبيعته لا يرفض التجديد والإصلاح، ولا أدل على هذا من الحديث الذي تقدم آنفاً، وفيه إشارة واضحة، بل تكاد تكون دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى تجديد الدين، ومن هذا المنطلق فإننا مع تجديد الدين لكن دون أن يغيب عن أذهاننا أن التجديد المطلوب في الميدان الإسلامي يختلف عن التجديد الذي استهدفه مارتن بثورته؛ فقد استهدفت ثورة لوثر معالجة ملابسات وإشكالات تختلف اختلافات جوهرية عن الملابسات والإشكالات التي تدعو اليوم إلى التجديد في الإسلام ! فإذا كانت ثورة مارتن قد استهدفت التحرر من سلطة البابا واحتكار تفسير النص الديني، فإننا نجد في النص الإسلامي المرجعي - بالمقابل - مخزوناً عظيماً للتجديد والتحرّر من الهياكل السلطوية؛ وإذا كان مارتن لوثر قد حرص على تحرير الجمهور المسيحي من قراءة النص الديني المرجعي عبر الاتحرر من لغة الكنيسة الرسمية؛ فإن المسلمين قد تحرروا ابتداء من هذا العائق اللغوي إذ نزل القرآن الكريم بلغتهم الأم، ما جعلهم على صلة مباشرة مع هذا النص إلى درجة أن نرى بعضهم يجازف بالإقدام على التفسير والفتوى دون ضوابط منهجية، وهي حالة لا نجد لها مثيلاً في اللوثرية حتى في أشد صورها جرأة وتطرفاً !!؟

وهذا التحرر الذي يتيحه النص الإسلامي المرجعي للمسلمين بات يثير القلق عند عامة الباحثين المتخصصين بالشأن الإسلامي في أوروبا والولايات المتحدة خاصة !

ويرجع قلق هؤلاء الباحثين إلى ملاحظتهم أنّ هذا النص يتعذر معه السيطرة على الشعور الإسلامي المتنامي في أنحاء العالم، بل إن بعض هؤلاء الباحثين بدأ يدعو إلى تأسيس كهنوت إسلامي بهدف الحد - أو بتعبير أدق - القضاء على الحرية التي يتمتع بها هذا النص الإسلامي المرجعي؛ ولا شك بأن هذا القلق الذي يبديه هؤلاء الباحثين يمثل في حقيقته ثورة مضادة للثورة اللوثرية التي يركض خلفها دعاة التجديد في الإسلام !؟ مما ينذر بصدام مقبل بين العاملين على لوثرة الإسلام وبين هؤلاء الباحثين القلقين .... فتأمل !؟

ملاحظة أخيرة مؤسفة لا بد منها :

· وتبلغ المفارقة ذروتها في ممارسات الراكضين خلف التجديد؛ الحالمين بلقب "مارتن لوثر الإسلام" الذين يتوسلون بهذه اللوثرية الظاهرة للتقرب من الأنظمة المستبدة المعادية للدين ويرتمون في أحضان هذه الأنظمة دونما حرج ولا خجل، ويتصدرون شاشات هذه الأنظمة، متخفين خلف مقولات الإصلاح والتجديد، بينما نراهم في غاية الجبن والخوار والمداهنة إزاء سطوة هذه الأنظمة الفاسدة وطغيانها، وتوظيف كل مؤسساتها الإعلامية والتعليمية لإضعاف الروح الدينية عند الجماهير المسلمة متوسلة إلى هذا بطرائق لا تختلف عن طرائق "البابا" وانحرافات الكنيسة التي تصدى لها مارتن لوثر قبل خمسمائة سنة من الآن !!؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين