فقه المآلات

من النظريات الفقهية الحساسة التي عني بعض المعاصرين بتأصيلها وتأطيرها هي النظريات المتعلقة بـ "فقه المآلات" ولهذا الباب من الفقه أهمية كبيرةلارتباطه بنتائج الأمور وعواقبها، ومما يدل على أهمية هذا الباب من الفقه أن عصرنا الحاضر قد شهد فوضى واسعة في الفتاوى الشاذة التي كان من أبرز مظاهرها استهتارها بالمآلات، أي تجاهل النتائج التي تفضي إليها !

ويعد اعتبار المآلات من المقاصد التي تكرر ذكرها في الكتاب والسنة؛ ما يجعل إطلاق الفتاوى دون مراعاة مآلاتها نوعاً من الجهل والضلال والعبث بشريعة الله عز وجل .

فماذا يعني فقه المآلات ؟

لقد تحدث الفقهاء عن فقه المآلات في صيغة قواعد، فقالوا : الأمور بعواقبها، أي بمآلاتها، وقالوا : الأشياء تحرم وتحل بمآلاتها، وقالوا : العبرة للمآل لا للحال، وذهبوا إلى أن الضرر في المآل ينزل منزلة الضرر الحال، وقالوا : المتوقع كالواقع، ويبطل التصرف إذا كان ينتهي إلى مآل ممنوع، وقالوا أيضاً : الوسيلة إذا لم تفض إلى مقصودها سقط اعتبارها؛ وهذه الأصول متفق عليها في الجملة عند جمهور الفقهاء، وإن اختلفوا في طريقة التعبير عنها أو في بعض تفاصيله .

وفقه المآلات يلزم المجتهد - بعد أن يستشرف المستقبل ويتوقع ما ستؤول إليه الأمور - أن يأخذ ذلك التوقع بعين الاعتبار في صياغة حكمه .

ويعد فقه المآلات نظراً اجتهادياً يقوم على الترجيح بين ظاهر الدليل الشرعي وما يتضمنه من حكم شرعي؛ وبين ما قد ينتج عن تنزيل هذا الحكم على محله من مصالح أو مفاسد، وقد أورد الإمام الشاطبي (ت 790 هـ) رحمه الله عدة قواعد تبنى على أصل اعتبار المآلات، ذكر منها : سدّ الذرائع، وقاعدة الاستحسان، وقاعدة الحيل؛ فالاجتهاد المعتبر يتجاوز مرحلة النظر إلى الأدلة ومقارنة مذاهب العلماء في فهمها إلى ضرورة فهم مآل القول المختار وما يترتب عليه من نتائج، وتقدير المصالح والمفاسد المترتبة على القول المختار، وهل هي متوقعة أم واقعية.

والنظر في المآلات باب واسع في الفقه الإسلامي، مفاده أن على المفتي تقدير عواقب فتواه، وقد ورد في الكتاب والسنة تطبيقات كثيرة لهذه القاعدة .

ومن حكمة الخالق عز وجل أنه ميز الإنسان عن غيره من المخلوقات بإدامة النظر في النتائج والنهايات، وعدم الاغترار بالمقدمات والبدايات، وعلى هذه القاعدة قامت فلسفة الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد جعل الفوز والنجاح والنصر لمن عمل للعاقبة والآخرة ونظر في عواقب الأمور، وهذه هي حقيقة "فقه المآلات"

وباختصار .. نجد أن فقه المآلات يمثل نظرة عقلية استشرافية لما سيقع في المستقبل قبل أن يقع، واتخاذ القرار المناسب بناء عليه، وهذا الضرب من الفقه يدرك بناء على الاطراد والعادة وسنن الله الثابتة، ويعصم الرأي من الخلل والزلل، وهذا الأمر يحتاج خصوبة غنية بالخيال لاستكمال التصور الصحيح لما ستؤول إليه الأمور في المستقبل، وهو فقه يحتاج إلى التفكير خارج إطار المحن المحتملة التي تواجهنا عادة كلما أزمعنا الإقدام على شأن من شؤون هذه الحياة .

ومما يلاحظ اليوم اهتمام الجماعات الإسلامية في أدبياتها بفقه المآلات أملاً بحصد نتائج أفضل مما حصدتها في تاريخها الماضي، لكن هذه الجماعات – للأسف الشديد - لا تستحضر سوى أمثلة شحيحة في تطبيقاتها العملية؛ نذكر منها :

• ترك النهي عن سب آلهة الكفار عملاً بقوله تعالى : (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًاً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة الأنعام 108 .

• وقصة الأعرابي الذي بال في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم – فأراد الناس زجره، لكن نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : (لا تزرموه) للمفسدة التي قد يترتب على زجره .

• وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل رأس المنافقين "عبد الله بن أبي بن سلول" قائلاً : ( لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) صحيح الترمذي ، حتى لا تستثار النزعة الجاهلية في رؤوس قومه، 

• ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام، لأن قريش كانت حديثة عهد بالإسلام .

والغريب أن تتوقف الجماعات الإسلامية غالباً عند هذه الأمثلة؛ وتذهل عن المآلات السياسية الكبرى للقرارات النبوية المفصلية، وأغرب من هذا أن نجد بعضهم يحاولون لي أعناق النصوص المتعلقة بهذه القرارات النبوية لكي يدخلها في سياق الخصوصية النبوية فيبطل بهذا الفعل الاعتبار والتدبر والاقتداء ببعض القرارات النبوية العظيمة، ونضرب على هذا بعض الأمثلة :

• فلماذا مثلاً لم يعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قيام الدولة الإسلامية ؟ ولماذا لم يأذن بالجهاد في مكة؟!

• وما هي المآلات السياسية التي حققها من الدخول بجوار كافر وحمايته ( المطعم بن عدي) ؟ أليس هو استمرارية الدعوة والتبليغ؟ وإكمال بناء القاعدة الصلبة لحماية الرسالة ؟

• وكيف لنا أن نتصور المآلات السياسية العظيمة لـ "صلح الحديبية" من تحقيق الاعتراف السياسي بالمسلمين، وتضاعف عدد المسلمين، ونتائج أخرى كثيرة شكلت مقدمات ضرورية لتسهيل "الفتح العظيم" ، هذا الصلح الذي لم يخل في مقدماته بشروط فيها بعض المفاسد الجزئية التي لم يتقبلها بعض الصحابة، بل لا يتقبلها كثيرون اليوم، ممن قد تلتبس عليهم بعض المصالح التي انطوى عليها ذلك الصلح الكبير !

ألا إن مما يؤخذ اليوم على معظم الجمعات الإسلامية وقوفها عند بعض الأمثلة المحدودة في أبعاد مآلاتها، والذهول عن الأمثلة الأخرى الغنية بأبعاد مآلاتها؛ مما يوقع هذه الجماعات في مفاسد عظيمة !

فقد صار بعض هذه الجماعات حريصة على المكاسب القريبة غير عابئة بمآلاتها، فنرى بعضهم يمارس البغي والغدر والقتل والكذب واستباحة أموال الناس، وينتظر من هذه الممارسات تحقيق الغلبة والنصر والتمكين، مع أن مآلات هذه الممارسات واضحة وضوح الشمس كما جاء في قوله تعالى : (...إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) سورة يونس 81 .

وإن مما يزيد اليوم في أهمية فقه المآلات؛ أن فقه الواقع اليوم قد تحول إلى حالة نظرية بسبب سرعة التغيرات والأحداث التي تطبع عصرنا، فقد بات الواقع يتحول سريعاً إلى جزء من الماضي، وهذا ما يحتم علينا المزيد من التفكير بمآلات المستقبل؛ تفكيراً استراتيجياً يحصر كل السيناريوهات المحتملة، ووضع الخطط المستقبلية المناسبة لمواجهتها، وإلا كنا كحاطب ليل، نسير بلا بوصلة، ونسلم شريعتنا للرياح العاصفة لتأخذ سفننا إلى مصير مجهول.. فتأمل !

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين