حسن القول وسوء العمل

 

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ(204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ(205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ(206) ]. {البقرة}..

نزلت هذه الآيات الكريمة في الأخنس بن شُريق الثقفي حليف بني زهرة أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر له الإسلام وأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: إنما جئت أريد الإسلام، والله تعالى يعلم إني لصادق، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرَّ بزرع للمسلين وحُمُر، فأحرق الزرع وعَقَر الحمر، فأنزل الله تعالى في شأنه هذه الآيات من القرآن تُقبِّح عمله وتظهر نفاقه وتحذِّر من خطاياه.

وما أعجب شأن القرآن الكريم وما أظهر معجزته وما أبلغ بيانه حين تحدث حادثة تستوجب بيان أمرها وتوضيح حكمها، فينزل القرآن وفي آياته البينات وعظاته الشافيات، بيان شامل كامل وحكم جامع فاصل في هذه الحادثة وأمثالها، وما يكون من سبيلها على مرِّ الأيام وتعاقب العصور، ولذلك ترى هذا القرآن العظيم دائماً غضاً طرياً، وتجد في محكم آياته عبرة بَالغة وهدياً قدسياً، لما يجدُّ من الشؤون وما يبتدع من الأحداث. 

فلقد جدَّت صور من النفاق، وألوان من الرِّياء تختلف في شكلها وغرضها عمَّا صنعه ذلك المنافق، ولكن القرآن بخالد حكمته وبليغ حكمه، متناول بالوعيد، وآخذ في زجره الشديد ما حدث من النفاق وما قدم وما خصَّ من الرياء وما عمَّ. وقد بيَّن القرآن أربع علامات يتميَّز به بها المنافقون ويجمعون فيها خلاصة مساوئ الأخلاق. 

فأول خصلة تميزهم معسول قولهم وزخرف حديثهم حتى يدخل الآذان بلا استئذان، ويصدقه كل مخلص أمين يحمله صدقه على التصديق، ويخيل إليه إخلاصه أنهم في أحاديثهم الطلية وأيمانهم الكاذبة مخلصون، وكفى بهؤلاء تعوداً للكذب واعتماداً على الخداع بالأيمان الفاجرة، إنَّ الله سبحانه وتعالى يقول في وصفهم وتقبيح صنيعهم: [يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ] {المجادلة:18}.

وثاني خصالهم الذميمة إيذاء الناس والإفساد في الأرض لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة، ولا يرعون لصديق عهداً ولا مودة، حتى وصف القرآن حرصهم على تعميم الفساد ونشر الأذى بأنهم يهلكون الحرث أي: النبات، والنسل أي: الحيوان، وهما كلمتان جامعتان لكل ما على الأرض من الناس وما ينفعهم ويقيم حياتهم ويكفل مَعَايشهم. 

ولقد كشف القرآن عمَّا في أنفس هؤلاء من الحقد على الصادقين المخلصين من الناس وما يريدون بهم من شرٍّ، ويحبون لهم من أذى، فقال عز وجل: [إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] {الممتحنة:2} ، ذلك شأنهم إن أمكنتهم الفرصة واستطاعوا العدوان، وإن لم يستطيعوا ذلك فقلوبهم في جحيم من البغضاء والحزن أن لا يقدروا على الضرر والإيذاء: [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] {آل عمران:119}.

أما الخصلة الثالثة: فالمقدرة على الجدل والبراعة في الخصومة فإذا وعظتَ أحدَهم وأرشدته فعنده دعاوى ملفَّقة وكلمات منمَّقة يردُّ بها الموعظة ويخطئ بها المرشدين وحسبك أنَّ الله سبحانه وتعالى يعد من سيئاتهم اللدد في الخصام، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كفى بك إثماً أن لاتزال ممارياً وكفى بك ظلماً أن لا تزال مخاصماً وكفى بك كذباً أن لا تزال محدثاً إلا حديثاً في ذات الله عز وجل) [رواه الدرامي، والبيهقي في الشعب]، ولولا المراء والبذاء اللذان يصرفان كل ناصح أمين، عن التعرُّض لهؤلاء المفسدين بالهداية والموعظة الحسنة لأمكن أن يصلح أمرهم، وعسى أن يصبحوا من المهتدين. ولكنهم على آثامهم دائمون، لأنهم قوم خَصِمون، وعن الحق مُعرضون مُستكبرون.

وفي الإعراض عن الحق والاستكبار على الناس، رابعة سيئاتهم وأقبح خصالهم، ومن أظلم ممن يجعل صداقته حبالة صيد، ومودته وسيلة كسب يوالي الناس كاذباً، ويؤذيهم صادقاً، يرجو نفعهم ويضمر أذاهم، يتملقهم ويترضاهم ولا يخشى الله تعالى ولا يبتغى مرضاتِه؛ لأنَّه قد ران على قلبه حب الدنيا وابتغاء منافعها وأخلص أعماله لتحصيل المال والجاه، ومن كانت هذه غايته فرسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه حقَّ وصفه، في قوله الحكيم: (حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) [قال الحافظ العراقي: أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة بسند ضعيف].

وكيف يستقيم للمرائين أمر أو ينقطع لهم شر وهم يعملون على قاعدة تناقض أصل الدين وتقطع كل آصرة بينهم وبين صالح المؤمنين، ويتجافون عن هدى الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم حين سأله رجل فيم النجاة ؟ فقال: (أن لا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس ) [ذكره السبكي من الأحاديث التي لا أصل لها من كتاب الإحياء].

ولم يزل الدين القويم ينكر مسلك هؤلاء ويحذِّرهم وينفِّر من الرياء ويبغضه إلى المسلمين حتى صوَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الصورة التي تروِّع كلَّ قلب سليم، وتجتث جرثومة الرياء من نفس كل ذي طبع كريم، فيقول صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال: الرياء. يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء) [قال الحافظ العراقي: أخرجه أحمد والبيهقي في الشعب من حديث محمود بن لبيد وله رواية ورجاله ثقات ورواه الطبراني من رواية محمود بن لبيد عن رافع بن خديج].

ومن تدبَّر جناية هؤلاء المرائين على أنفسهم ومدى الفساد الذى ينشرونه في الأمَّة والسموم التي ينفثونها في أخلاق الناس تبين أنَّهم يستحقون هذا الوعيد ويستوجبون أن يكونوا في عداد المارقين من الدين المشركين برب العالمين فويل لهم مما فتنهم من منافع وشهوات حرصوا على تحقيقها ومكروا في ذلك مكرهم وسخَّروا له كل تدبيرهم وتفكيرهم فحسبهم قول الله تعالى:[ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ] {فاطر:10} . قال مجاهد: هم أهل الرياء.

ألم يأن لهؤلاء التعساء الجبناء الذين يخشون الناس والله أحق أن يخشوه وقد قرعت هذه الزواجر أسماعهم وأرعدت هذ القوارع فرائصهم، ألم يأنِ لهم أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، فيصلحوا أعمالهم ويقوِّموا أخلاقهم ويكفُّوا عن الناس شرورَ أنفسهم فيتجنَّبوا ما أعدَّ الله تعالى للمنافقين في الدرك الأسفل من النار من عذاب مهين.

وما أيسر ذلك عليهم وأقربه منهم لو اتبعوا سبيل المؤمنين والتمسوا هدى القرآن الكريم فيما دعا المسلمين إليه وحرَّضهم عليه حين يقول الله سبحانه:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا] {الأحزاب:70-71} هدانا الله جميعاً إلى صدق القول وإخلاص العمل وصالح القصد والنصيحة لله ورسوله وعامَّة المسلمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الثامنة، محرم 1370 - المجلد 1).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين