القرآن الكريم يكشف عن الظن الحسن والظن السيء

 

عُرِف الإسلام بالحكمة واليسر في التشريع، ومسايرة الفطَر والطبائع، وتوجيهها الوجهة الصالحة في المعاملة المثمرة في المجتمع.

فمن مبادئ الإسلام: أنَّ كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجّسانه، وأنَّ الحدود تدرأ بالشبهات، وأنَّ البيِّنة على مَنْ ادَّعى، واليمين على من أنكر.

والظن في نظر الإسلام ناحية من نواحي النشاط الفكري له قيمته في التشريع، وله اعتباره في المعاملات الشائعة في المجتمع.

فهو من الناحية التشريعية يهمّ المشترعين الذين يعنون بالتقنين والأحكام، ومن ناحية المعاملة يهمّ الأخلاقيين الذين يعنون بالإصلاح الاجتماعي، وهذا ما نعرض له في حديث اليوم.

فالظن إذا اتجه إلى ناحية الخير كان وسيلة إلى العمل المثمر في الدنيا والآخرة، وإذا اتجه إلى ناحية الشر جعل الحياة سعيراً، فإنه يقضي على الثقة المتبادلة بين الناس، وهي أساس التعاون في شتى شؤونهم، بل يجاوز علاقة الناس بعضهم ببعض إلى علاقة الإنسان بربه، حيث يجعل حياته نكداً ومعيشته ضنكاً، لذلك نجد الإسلام يدعو الناس إلى حُسن الظن في دائرة الحكمة واليقظة والحذر والحيطة، وينفرهم من سوء الظن المؤدي إلى الأحقاد والأضغان والآثام، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (حسن الظن من حسن العبادة) ويقول: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث).

وها هو القرآن الكريم يقص علينا أن ذا النون، وهو يونس عليه السلام، كان حسن الظن بالله وهو في أحلك أوقات الحرج والضيق، فكان له من حُسن ظنه مخرج من ضيقه، ونجاة من حرجه، ويسر من عسره، وفرج من كربته، ونور في ظلمته، يقول الله تعالى:[وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ] {الأنبياء:87-88}. فقد كان قوي الثقة بأن الله تعالى لن يضيق عليه في شدته، فحقق الله ما أمله، ونجَّاه من همه، وأزال غمه.

والمريض إذا ظن الشفاء من مرضه، وعظمت ثقته بربه، كان له من هذا الظن وتلك الثقة قوة معنوية تدفع عنه عوامل اليأس والقنوط. 

وللإيحاء النفسي مدخل كبير في معالجة الأمراض التي منشؤها الأوهام والشكوك والأفكار السوداء، وكذلك الساعون وراء غاية من الغايات أو أمل من الآمال إذا قويَّ ظنهم في النجاح حملهم ذلك على مواصلة العمل حتى يدركوا غايتهم ويصلوا إلى مطلبهم.

وهذا يعقوب عليه السلام يقول لبنيه حين أمرهم بالبحث عن يوسف وأخيه: [يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ] {يوسف:87}.

والمذنب إذا اتجه إلى سلوك الجادة كان له من حسن ظن بالله عون على التوبة والإنابة والاستقامة والهداية، ولهذا فتح الله باب الأمل في التوبة والغفران أمام المذنبين المسرفين في المعاصي لينقذهم من التمادي في العصيان، يقول جل شأنه:[قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الزُّمر:53}.

فحسن الظن شأن المؤمنين، وسوء الظن شيمة المنافقين، يقول الله تعالى:[لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا] {النور:12} ويقول سبحانه:[وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] {الفتح:6}.

ويقول في شأن الأعراب الذين تخلفوا عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للجهاد:[سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا] {الفتح:11-12}.

ولقد ابتلي المؤمنون في غزوة الخندق بجماعة من المنافقين ومرضى القلوب، كانوا في شك من نصر الله تعالى لرسوله، فكانوا مثار بلبلة أفكار المؤمنين، وزلزلة أقدامهم، لولا أن ثبتهم الله تعالى وأيدهم بجنود من عنده، وفي ذلك يقول الله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا(9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا(10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11) وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا(12) ]. {الأحزاب}..

وهكذا نجد سوء الظن يلازم المنافقين ومرضى القلوب وضعاف الإيمان، ونجده عنواناً لضعف العزيمة، وسبيلاً لدعاة الهزيمة، أما حسن الظن فيلازم المؤمنين، وهو سبيل الصبر والفوز والنصر.

استمعوا إلى الذين يظنون أنهم ملاقو الله تعالى، يقولون وهم يقاتلون قوماً أكثر منهم عدداً وعدة، [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] {البقرة:249}.

ثم يدعون ربهم قائلين:[ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ] {البقرة:250-251}. 

ولن يجد المؤمن في أوقات الشدة مثل حسن الظن بالله تعالى ينير له طريق الأمل والثبات والغلبة، وهؤلاء المسلمون الذين أصابهم في غزوة أحد ما أصابهم من غمٍّ، ولكن إيمانهم بوعد ربهم جعلهم يستجيبون داعي الجهاد رغم ما بهم من جراح، بينما ظن المنافقون ظن السوء وقالوا كلمة السوء، وفي ذلك يقول الله تعالى:[ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] {آل عمران:154}.

ومن الناس من يدفعه سوء الظن إلى اليأس من عون الله تعالى ولطفه، فيعيش مغيظاً محسوراً، وسيكون في أخراه مخذولاً مدحوراً، وفي هؤلاء يقول الله تعالى:[مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ] {الحج:15}.

وقد يدفع الظن بعض الناس إلى الاغترار بمتع الحياة وما أفاض الله عليهم من نعم، فتسول لهم أنفسهم أن الله اختصهم بذلك عن جدارة واستحقاق، فلا يعرفون في مالهم نصيباً مفروضاً لمسكين أو فقير، ولا حقاً معلوماً لسائل أو محروم، وهذه قسوة منشؤها الجحود والكفران، ومآلها الخسران والحرمان، يقص الله تعالى علينا في سورة الكهف ما دار من حوار بين الرجل المؤمن وصاحبه الكافر المغرور بزينة الحياة الدنيا، قال تعالى:[وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا(32) كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا(33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا(34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا(35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا(36)]. {الكهف}..

فكانت عاقبته ما أخبرنا الله تعالى عنه بقوله:[وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا] {الكهف:42-43}.

ومن الناس من يعتقد أن حسن الظن يقتضيه تصديق كل كلام، والثقة بكل إنسان، وإجابة كل مطلب، ولو كان هناك من الظواهر ما يقتضي الحذر.

وهذه غفلة عقلية، فإنما يجمل حسن الظن بمن تنطق تصرفاتهم بالثقة بهم، ومن توحي أعمالهم بالاطمئنان إليهم، ومن لا تحيط بهم الريبة والشكوك.

على أن الإسلام حين حثَّ على حسن الظن أمر بالاحتياط في المعاملات، وها هو القرآن الكريم يأمرنا عند التداين بكتابة الدين والإشهاد على التبايع، ويأخذ الرهن عند القرض إن لم يوجد كاتب، قال تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ] {البقرة:282}. ويقول:[ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ] ويقول : [وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ] {البقرة:282} ويقول: [وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ] {البقرة:283}. 

هذه نظرة الإسلام إلى الظن، وجَّهه الوجهة النافعة، وجعله بمعزل عن مواطن السوء، فطمْأن القلوب، وطهَّر النفوس، وصان العلاقات، ووثَّق الروابط، ونشر ظلال السكينة والمحبة، وجدير بنا أن نقف عند هذه الحدود لنحيا حياة طيبة سعيدة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة كنوز الفرقان، جمادى الآخرة 1368 - العدد 6 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين