التربية الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين -8-

التعامل مع الزمن:

لسنا بسبيل الدخول في مناقشة فلسفية حول حقيقة(الزمن) وإنما ننظر إليه هنا لا باعتباره وعاء لحركة الإنسان وإنما باعتباره (مورداً) و(ثروة) تزداد قيمة كلما تقدمنا نحو المستقبل، حيث تصغر وحدة قياس الزمن، فإذا بنا نطالب بأن نحقق في ساعة ما كان يتم تحقيقه من قبل في أيام وربما في أسابيع، ولا نبالغ إذا قلنا: وفي شهور. ومن غريب حياتنا الاجتماعية والثقافية أن نسمع-حتى الآن وقد أوشكنا أن نودع القرن العشرين – البعض يدعو بعضاً آخر من أجل (تضييع الوقت) في كذا وكذا من صور التسلية والترفيه.

وإذا كان الزمن وعاء لكل ما هو موجود، إلا أن درجة الرقى في الوجود إنما تقاس بمدى الوعي بالزمان، ومن هنا كان الإنسان – ضمن مميزات أخرى-يمتاز عن سائر المخلوقات بوعيه بالزمن، ذلك الوعي الذي جعله صاحب (ذاكرة) هي مخزون خبرة بشرية يصرفه عن الوقوع في أخطاء الأمس، ويوحي له بما يجب أن يفعله اليوم مستفيداً مما فعله بالأمس؛ فيحدث تراكم تقوم عليه النهضة ويشاد عليه بناء الأمة.

لقد ألفنا القول بأننا مازلنا نعيش حضارة الزراعة، وبعضاً من مقدمات حضارة الصناعة حيث الوحدة الزمنية تتسع لأيام وأسابيع، ولما ندخل بعد حضارة الصناعة الكبيرة المتقدمة حيث وحدة الزمن بالدقيقة أو الثانية، ناسين أن الزمن في التربية الإسلامية له اعتباره وتقديره، فكل الموارد يمكن استبدالها وتعويضها إلا الزمن، فما يمضى منه لا يمكن تعويضه، إن الذى يقلب في كتاب الله الكريم يلمس القيمة المرتفعة للزمن حين يرى سوراً من القرآن الكريم سميت بأسماء زمنية، وأن الله يقسم بوحدات زمنية {والفجر وليال عشر}و {والعصر إن الإنسان لفي خسر}، والصلوات خمس مرات محددة دائماً بالدقيقة، ولو حرص الإنسان على تأدية الصلوات بأوقاتها المحددة لتعوَّد سلوكياً على أن يتعامل مع الزمن بوحداته الصغيرة والدقيقة.

وعندما يتم التأكيد من التربية الإسلامية على (الزمن) وقيمته والحرص على الوقت فإن حسن التعامل معه يقتضي الحساب الدقيق لأبعاد الزمن الثلاثية المعروفة: الماضي والحاضر والمستقبل.

فالتربية بحكم تعريفها ومفهومها تشمل، ضمن ما تشمل، تزويد الأجيال الجديدة بما سبق للبشرية أن توصَّلت إليه من تراث ثقافي، إذا عنينا بالثقافة ذلك الكل المركب من المعارف والعلوم والعادات والتقاليد والمهارات والاتجاهات التي اكتسبها الإنسان من خلال عملية التفاعل بينه وبين عناصر البيئة المحيطة، طبيعية وإنسانية واجتماعية، وهذا يعنى أن (الماضي) هو مخزون كبير و(رصد) عظيم تغترف منه العملية التربوية من أجل إدماج الأجيال الجديدة في الجماعة البشرية.

لكن هذه الأجيال الجديدة تعيش (حاضراً) وواقعاً مجتمعياً يضغط على الجميع بإيقاعاته ونبضه ومشكلاته وتوتراته، وليس كل ما وصل إليه السابقون بصالح دائماً وتماماً لكل ما يستجد، مما يفرض على المربين أن يصلوا دائماً بين العملية التربوية والأبعاد المجتمعية للحاضر الذي يعيشه الطلاب.

ومما لا جدال فيه أننا إذ نربي، إنما نربي أولادنا لزمان غير زماننا مازال في علم الغيب، لكن وجوده في علم الغيب لا ينبغي أن يصرفنا عن التحسب له وحسن التدبير والاستعداد وفرض الاحتمالات و(السيناريوهات) التي يمكن أن تحدث بحيث لا تدهمنا الوقائع ولا تفاجئنا الأحداث.

وهكذا يجد المربون أنفسهم أمام ضرورة أن يضع العمل التربوي في اعتباره الأبعاد الثلاثة للزمن.

ومع الأسف الشديد فإن هناك فئات غير قليلة تكاد تربط العمل التربوي الإسلامي ببعد الماضي وحده، وعندما نشير إلى هذا لا ندخل في اعتبارنا بطبيعة الحال كلا من القرآن الكريم أو السنة النبوية، فهما: ماض وحاضر ومستقبل في وحدة متشابكة. وإذا وعينا هذا جيدا اتسعت مساحة الحرية في التعامل مع التراث الذي هو – بهذا المعنى – وعاء الجهد البشري في التفكير والسلوك، فيستحيل أن يشكل قيداً على حركة التفكير التربوي بحيث يلزمه باتباع كل ما فيه والسير على منواله دائماً وأبدا ، فلابد أن يعرض على محكات نقدية، وعمليات فرز مستمرة تستبقي ما يظل صالحاً لتوحيد مسارات الحاضر وتستبعد ما تنتهي فترة صلاحيته.

إن التربية الإسلامية، إذ تستهدي بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تجد نفسها بالضرورة تربية مستقبلية.

سيسارع البعض إلى اتهامنا بالافتعال ومحاولة (تجميل الصورة)، ونبادر إلى القول بأن الصورة الجميلة أصلاً لا تحتاج إلى تجميل، وقد تحتاج إلى جهد لإزالة غبار الإهمال وعدم الاستعمال...

فلننظر إلى ذلك التوجيه النبوي العظيم بأن يعمل المسلم لدنياه كأنه يعيش أبداً وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غداً...

هل المسألة خيار بين أن يعمل الإنسان لدنياه أو لآخرته؟

إذا كانت المسألة خياراً فلابد للمسلم الحق أن يختار العمل لآخرته. وإذا كان العمل للآخرة يقوم على افتراض أن ينتهي أجل الإنسان غداً، وربما بعد لحظات، فإن هذا قد يعني للنظرة العجلى أن لا جدوى إذن من العمل ولا فائدة لبذل الجهد، لكن النظرة المتأملة المتعمقة ترى عكس ذلك... ترى أن يستجمع الإنسان كل ما يملك من طاقة لكي يسرع بالعمل حيث لا تضيع منه دقيقة واحدة حتى يستطيع أن يلاقي ربه برصيد أكبر من العمل الصالح، وبدلاً من أن يجنح إلى التكاسل، ويقول لنفسه: فلنؤجل ذلك إلى أسبوع قادم، سيضغط عليه هذا الاختيار: ومن أدراك أن تعيش إلى الأسبوع القادم، لابد وأن يتم ذلك اليوم.

وإذا كانت المسألة ليست خياراً بحيث يظل عاملاً لدنياه ولآخرته، فسوف تظل الأولوية للعمل للآخرة، وسوف يتعامل مع الدنيا على أنها (مزرعة) للآخرة إذا طالت أيامه بها-أي الدنيا-فلابد أن ينتهزها فرصة لتكثير المزروعات وتجويد الزراعة واستنبات أفضل ما يمكن أن يزرع؛ فتزداد عمرانا ويزداد فائض الإنتاج.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين