ذكرٌ جميلٌ لأيامٍ في القدس والخليل (5) 

 

 

استيقظنا في الساعة الثالثة صباحًا، وتوضأنا ونزلنا إلى المطعم وتناولنا سحورًا خفيفًا، ثم توجهنا إلى المسجد لأداء صلاة الفجر، مصغين إلى قراءة جميلة لآي الذكر الحكيم عالية أصواتها من المسجد الأقصى، وهو أنسب وقت لاستماع الوحي الإلهي، "وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا". ووافينا المسجد ومصلاه فارغ، لا ترى الجمع الذي كان قد ملأ أفنيته وساحاته في صلاتي المغرب والعشاء، فصليت السنة قريبًا من موضع الإمام، وقامت الجماعة بعد الساعة الرابعة والنصف، قرأ الإمام في الركعة الأولى من آخر سورة الكهف، وفي الركعة الثانية من آخر سورة مريم. 

رجعنا إلى الفندق، واسترحنا حتى الساعة السابعة، ثم استيقظنا واغتسلنا، وصليت ركعتين، وسألت بناتي أن يعدن دروسهن في اللغة العربية، وقرأت شيئًا من القرآن الكريم، وقيدت مذكراتي، واليوم موعد لبعض الزيارات، فنزلنا في الساعة الثامنة والنصف، ووزع زيد المجموعة على طائفتين: طائفة تزور المسجد الأقصى الشريف وآثاره، وأخرى تزور بعض البقاع والمدن التاريخية، وتم اختيارنا أنا وأهلي للطائفة الثانية، وما زالت القدس وسائر فلسطين مقصدا ومزارا منذ عهد قديم يتوافد إليها الملوك والأمراء والعلماء والمشايخ وعامة الناس. 

ركبنا حافلة مريحة صحبة زيد، وهو دليلنا في هذه الزيارة، وقبل أن تتحرك الحافلة أحست بنتي عائشة بالثقل فذهبت إلى الصيدلية واشتريت لها بعض الأدوية، واشتريت لنفسي دهنا لرأسي، فإني أصاب بالصداع ولاسيما في رمضان، والادهان يخفف منه، ولم تتحرك الحافلة إلا في الساعة التاسعة تماما، وخرجنا من شارع هارون الرشيد مارين بحديقة صغيرة على يميننا، متخللين السور، وسور مدينة القدس ضارب في القدم، أعاد بناءه السلطان صلاح الدين الأيوبي، وتم تجديده في عهد الخليفة العثماني سليمان القانوني.

جبل الزيتون: 

وأول منزل لنا في هذه الزيارة جبل الزيتون، والذي يطل على القدس من الجهة الشرقية، والمسجد الأقصى وقبة الصخرة وسائر آثار القدس وشوارعها وبيوتها على مرأى منه، سمي الجبل بالزيتون لكثرة أشجار الزيتون فيه، ولا تزال توجد فيه بعض أشجاره الكبيرة الحجم والقديمة العهد إلى الآن، ويسميه العامة جبل الطور، ويفصله عن القدس وادي قدرون، ويقال: إن عيسى عليه السلام رفع منه إلى السماء، وكان عيسى عليه السلام يختلف إليه ويتردد منزويا عن الناس ومذكرا لهم، جاء في لوقا (21: 37): "وكان في النهار يعلِّم في الهيكل، وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون"، وتحوي كتب العهد الجديد بعض مواعظه على الجبل، وسأذكر شيئا منها حينما نعود إلى الجبل في ليلة من ليالي هذا الشهر المبارك. 

إن اليهود ولاسيما الأمريكان منهم يشترون قطع الأراضي هنا أجداثا لهم يدفنون فيها، فإنهم يعتقدون أنها المبعث، ونزلنا عند مقبرة لليهود، وهي منطقة تسكنها العرب، وقد تملك يهودي قطعة من الأرض بها وبنى عليها بيتا له وغرز فيه علما للدولة الطارئة، تبدو قبة الصخرة من هذه النقطة من الجبل علما رائعا عاليا سائر آثار المدينة مع أن فيها مباني وعمارات شامخة أخرى لا سيما كنائس النصارى وبيع اليهود.

مقام رابعة العدوية: 

ثم زرنا مقام رابعة العدوية، ويقع على جبل الزيتون في ما يشبه الحوش، وهو مكون من مبان متلاصقة، والقبر مسجى بثوب مكتوب عليه "لا إله إلا الله محمد رسول الله، ألا إن أولياء الله لا خوف عليه ولا هم يحزنون"، ورأينا امرأة تقبِّل القبر، والمنكرات شائعة في مثل هذه المقامات، ورووا لنا من قصص رابعة ما لا أساس له من الصحة، وضريحها مشكوك فيه، تزعم النصارى أنه قبر قديسة تدعى بيلاجيا أومارجريتا، وتوفيت سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وتظنه اليهود مرقد النبية خلدا، وهي إحدى نساء العهد القديم. 

وإن صح أنه قبر رابعة، فلعلها أخرى غير العدوية، وقد عرفت عدة نسوة باسم رابعة، أشهرهن العدوية البصرية الزاهدة العابده الخاشعه أم عمرو رابعة بنت إسماعيل، والثانية رابعة الشامية العابدة، والثالثة رابعة البغدادية، والمدفونة هنا هي الشامية. قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 4/432: "أما رابعة الشامية العابدة فأخرى مشهورة أصغر من العدوية، وقد تدخل حكايات هذه في حكايات هذه الثانية". وقال موفق الدين عبدالرحمن الشارعي الشافعي المتوفى سنة خمس عشرة وستمائة في كتابه مرشد الزوار إلى قبور الأبرار 11/176: "واسم رابعة كثير، غير أن الأعيان منهن ثلاثة: رابعة العدوية هذه، والثانية رابعة ابنة اسماعيل الدمشقية القدسية، وقد شاركت الأولى في اسمها واسم أبيها، والثالثة رابعة بنت إبراهيم بن عبدالله البغدادية، وتسمى رابعة بغداد، وقبر رابعة العدوية رضي الله عنها في البصرة معروف هناك مشهور...، ورابعة الدمشقية توفيت بالقدس، ودفنت على رأس جبل هناك بالطور، وإنما عرفت بالقدسية لدفنها هناك، وأكثر العامة يظنون أنه قبر رابعة العدوية فليعلم ذلك، ورابعة البغدادية دفنت في بغداد".

مقام سلمان الفارسي: 

ثم مشينا على أقدامنا إلى مقام سلمان الفارسي، وهو في الطرف الجنوبي لطريق رابعة العدوية قريبا من برج كنيسة الصعود الروسية، مكتوب على مدخله: "سلمان منا أهل البيت"، والضريح مسجى بثوب، وهنا مصلى تجاه القبر. 

ولا شك أنه غير مدفون فيه، والمعروف أن قبره في المدائن.

مقام موسى عليه السلام: 

ثم ركبنا الحافلة إلى مقام موسى عليه السلام، ويقع على تلة ترابية مخروطية الشكل في الجنوب من أريحا بـثمانية كلومترات، ويبعد عن القدس ثمانية وعشرين كلومترا باتجاه الشرق، في منطقة صحراوية منعزلة قليلة الأشجار والأعشاب، أسسه صلاح الدين الأيوبي وأنشأ عليه الظاهر بيبرس البناء سنة 668ه/1269م، وهو عبارة عن بناء ضخم من طابقين تعلوه قباب ضحلة على النمط المملوكي، كما يحيط به سور له خمسة أبواب، ويتوسط المقام فناء مكشوف مكون من ساحات ثلاثة، ويضم عددا كبيرا من الغرف، وإصطبلات للخيل، ومخبزا قديما، وآبارا، وتمتد في الخلاء حوله مقبرة، يدفن فيها من يوصي بذلك، إلى جانب مسجد صغير، تقابله مئذنة قصيرة من الشمال. 

والمسجد مقسوم إلى قسمين يفصل بينهما جدار عريض فيه شباك مفتوح، القسم الشرقي للرجال والغربي للنساء، ويتميز بأنه أصغر حجما كما أن أرضيته أوطأ من أرضية الصالة المخصصة للرجال، ويضم مسجد الرجال محرابا مزججا ومنبرا أخضر اللون، وعلى يمين مدخله الرئيسي مباشرة باب يقود إلى غرفة صغيرة تعلوها قبة في وسطها قبر مغطى بالقماش الأخضر، يرمز إلى ضريح موسى عليه السلام، وبجوار المقام إلى الجنوب الشرقي مقام صغير يعرف بمقام الست عائشة، وإلى الجنوب الغربي مقام ثالث يسمى مقام الراعي، على مسافة كلومترين عن مقام موسى. 

وعلى المقام مكتوب حديث أبي هريرة من صحيح البخاري "أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه وقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت". 

وعرضت لنا خارج المقام هرة صغيرة فجعل بعض رفاقنا يصورنها، فقلت: إن أمر الهرة أصح من قبر موسى عليه السلام، وقلت: لا نعرف تاريخيا ثبوت قبر نبي من الأنبياء إلا قبر نبينا محمد صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وما يزعمه الزاعمون من تعيين قبور للأنبياء في بلاد الشام وغيرها لا يقوم عليه دليل، ومعظم هذه الأمور كاذبة مختلقة.

تعليق على بدع زيارة القبور: 

ولقد يؤلمني كثيرا أن أرى الناس يتضرعون إلى الأضرحة والقبور، ويرون ذلك تدينا، وقد أحدثت هذه المقامات فتنا كثيرة وضلالات أفسدن الإيمان وزعزعن اليقين، نحن الآن في بلاد الأنبياء والمرسلين الذين دعوا العباد إلى عبادة الله غير مشركين به، ولكن الناس سرعان ما جعلوهم حجبا بينهم وبين الله، فيزورون قبورا لهم ولغيرهم من الصالحين يتوسلون بأصحابها ويستشفعونهم، ويدعون عندها، ويقبلون جدرانها يتبركون بها. يقول ابن تيمية رحمه الله: "لم يكن أحد من الصحابة يقصد شيئًا من القبور، لا قبور الأنبياء، ولا غيرهم، لا يُصلي عنده، ويدعو عنده، ولا يقصده لأجل الدعاء عنده، ولا يقولون: إن الدعاء عنده أفضل، ولا الدعاء عند شيء من القبور مستجاب"، ويقول وهو يتحدث عن التمسح بالقبور وتقبيلها: "هذا منهي عنه باتفاق المسلمين، وليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود، لما ثبت في الصحيحين أن عمر رضي الله عنه قال: "والله إني لأُقَبِّلُك، وإني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبَّلَك، ما قبَّلْتُك".

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين