الرسول في طريق المدينة - 2

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في طريق المدينة

الشيخ: محمد البنا

- 2-

لم تكن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من صنع البشر ولكنها كانت معجزة من المعجزات التي يظهرها الله على يد من اصطفى من رسله. وكان الإعجاز مظهرها من مبدئها إلى غايتها، فهي آية في تدبيرها، وآية في إمضائها، وآية في تسخير الله نفوساً قاموا بها واستسهلوا الصعاب وذللوا العقبات وتحملوا المشقات واضطلعوا بالأعباء غير مُبالين ما يصيبهم في أنفسهم وأموالهم، ولا مُكترثين بما فَاتهم من أوطانهم، وما فارقوا من إخوانهم، ولم يثنهم عن عزمهم حنين إلى مصاحبة الأتراب، ولا شوق إلى مَسَارح الشباب، وما أعز الوطن على النفوس وما أغلاه، وما أمر فراقه وما أقساه ولكن كل شيء عند النفوس المؤمنة هين يسير في سبيل الله وفي جانب العقيدة الحرة والدين المستقيم.

ثم صادف الرسول صلى الله عليه وسلم وصادف صحبه مخاطر لا ينجو منها إلا من وهبه الله رعايته ومنحه عصمته وعنايته، ولقد شرحنا بعض ذلك في مقال سابق، ومرَّ بك طرف من حديث سراقة وكيف ساخت قوائم فرسه ولم يسلم إلا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو بن هشام رجلاً مظلم البصيرة مغلق الفؤاد ختم الله على قلبه فلم ينفذ إليه نور النبوة، فقال: ما لسراقة قنع بعد أن طمع، ورجع بعد انبرى للجائزة وحسب أن هذا ضعف في الرأي وأن سراقة أصابه نكر وسفه وأنه ارتكب عاراً يصم به قومه فعيرهم به حين يقول:

بني مدلج إني أخال سفيهكم     سراقة يستغوي بنصر محمد
عليكم به أن لا يفرق جمعكم     فيصبح شتى بعد عز وسؤدد
وقد استحق ذلك المعاند الذي ارتكست فطرته أن تغير في الإسلام كنيته، فكان يكنى بعد ذلك بأبي جهل وبئس ما كافأ به نفسه وبئس المَصير مصيره في يوم بدر.
أما سراقة فلم يزهد في الجائزة إلا طَمعاً فيما هو خير وأبقى، فقد أضاء الإسلام قلبه ورأى بعينه عناية الله برسوله الكريم فلم يكابر ولم يُنكر وعاد معترفاً بالحق شاهداً بالصدق وهو يقول لأبي جهل:
أبا حكم واللات لو كنت شاهداً     لأمر جوادي حين ساخت قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمداً            نبي ببرهان فمن ذا يقاومه
وكان الناس الذين أشربت قلوبهم حب الرسول صلى الله عليه وسلم وأنعم الله عليهم بنعمة الإيمان لا يرضون بغير جوار الرسول جواراً ولا يؤثرون عليه أهلاً ولا داراً، فأخذوا يتركون مكة ويقصدون حيث قصد الرسول ويرون أن مقامهم بعده تقصير أي تقصير.
قال حيي بن ضمرة الجعدي: لا عذر لي في مقامي بمكة، وكان مريضاً فأمر أهله فخرجوا به إلى التنعيم فمات، ولم يكن المولى جل شأنه لينسى هؤلاء المخلصين فلا يخلد لهم ذكراهم فقد نزل القرآن منوهاً بشأنهم رافعاً من ذكرهم فقال تعالى: [وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ] {النساء:100}.
ولما رأى ذلك من كان بمكة ممن يطيق الخروج خرجوا فطلبهم أبو سفيان وغيره من المشركين فردوهم وسجنوهم، وافتتن منهم ناس مما نالهم من الظلم والإرهاق، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه فانطلقا يقطعان بطون تهامة في قيظ محرق تتلظى له رمال الصحراء ويجتازان أكمة بعد أكمة، ويمران بوهد يتلوه وهد ولا يجدان ما يتقيان به شواظ الهاجرة ولا عون لهما إلا صبرهما وحسن ثقتهما بالله وعظيم إيمانهما بالحق الذي تلقاه الرسول ليبلغه للخلق أجمعين ويخرج به العالم من الظلمات إلى النور.
كان من تدبير الله العليم الحكيم أن ألهم دليل النبي وصاحبه: عبد الله بن أريقط أن يسلك بهما طريقاً غير الذي ألفه الناس فأمعن إلى الجنوب بأسفل مكة ثم اتجه إلى تهامة على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، فلما وصل إلى طريق لا تعرفه قريش سار بهما شمالاً مع الشاطئ فقد كان يساوره الخوف أن تشعر قريش بما اتخذه من سبيل فتسعى جهدها في صدِّ الرسول وصاحبه عن الغاية التي يبتغيان بلوغها في سبيل الله، والحق وقد ظلَّ الصاحبان الكريمان يَسيران في هذا الطريق أياماً متتابعة ينيخان في حَمَارّة القيظ، ويسيران الليل كله في تلك الصحراء لا يجدان في جوانبها ما يأنسان إليه إلا ما يرينا من سكينة الليل وضوء النجوم اللامعة في الظلام البهيم.
ولكن الله سخر لهما من قبيلة بني سهم شيخها فما أن بلغا مقام هذه القبيلة حتى جاء إليهما ذلك الشيخ وحياهما وأزال من مخاوفهما فاطمأنت قلوبهما وهي واثقة بنصر الله الذي لا يخذل المهتدين من عباده والذي كتب على نفسه أن يغلب هو ورسله إنه قوي عزيز.
في هذه الآونة الحاسمة في تاريخ العالم يسهل عليك أن تعرف كيف كانت تخفق قلوب أهل المدينة فمنهم من تخفق قلوبهم شوقاً للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من كانت تضطرب أفئدتهم خوفاً على ما ألفوا من عقيدة وما تعودوه من صور العبادة ولكن الدين الجديد سيجرف أمامه تلك العقائد الفاسدة وسيجعلها كغثاء السيل لا يباليها الناس وسيغلب المسلمون وتطهر القلوب من آثار الشرك وأوضار الآثام.
وقد كان المسلمون جميعاً ينتظرون مقدم صاحب الرسالة بنفوس تتحرق شوقاً إلى رؤيته والاستماع له وكان كثير منهم لما يروه وإن كانوا قد سمعوا من أمره ومن سحر بيانه وقوة عزمه ما جعلهم للقياه أشد اشتياقاً وفي انتظاره أكبر تطلعاً ولكن المشركين إلى ذلك الوقت لم يكن أمرهم قد انتهى فكان منهم من يغيظه أمر المسلمين ودعوتهم الجديدة ويخشون من الإسلام على ضعفائهم كما كانوا يزعمون، وإنك لترى ذلك حين تعلم ما كان يجري بالمدينة في بعض هذه الأوقات.
جلس سعد بن زرارة ومصعب بن عمير في حائط من حوائط بني ظفر واجتمع إليهما الرجال ممن أسلموا فبلغ خبرهما سعد بن معاذ وأسيد بن حُضير وكانا يومئذ سيدي قومهما، فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين الرجلين الذين أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما، فإنَّ سعد بن زرارة ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدماً، فذهب أسيد إليهما يزجرهما فقال له مصعب أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته وإن كرهت كفّ عنك ما تكرهه: قال أسيد أنصفت وركز حربته، وجلس إليهما وسمع إلى مصعب فقام مأخوذاً بدعوة الإسلام وأسلم وعاد إلى أسعد بوجه آخر فغاظ ذلك سعداً وقام هو إلى الرجلين فكان أمره كأمر صاحبه، لان قلبه لدعوة الإسلام وبهره ما سمع من الرجلين وانقلب داعياً إلى الدين الجديد وذهب إلى قومه، فقال يا بني عبد الأشهل: كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام نسائكم ورجالكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فأسلم بنو عبد الأشهل جميعاً رجالاً ونساء.
سبق الإسلام إذاً رسول الله إلى المدينة وخالطت بشاشته القلوب وطهرت النفوس من الإجحاف وارتفعت العقول عن الإسفاف وأخذ الناس يزدرون المشركين الذين يَعبدون من دون الله مَا لا يَدفع عن نفسه شراً ولا يملك لها نفعاً ولا ضراً، ويتهكَّمون بهم وبأصنامهم ويسخرون بخستهم وضلالهم وأراد بعض أهل المدينة أن ينكلوا بهذه الأصنام ليفهم من يعبدونها أنَّها لا تضر ولا تنفع ولا تعطي ولا تمنع فاجتمع شبان من المسلمين واعتزموا أن يُقيموا دليلاً على فساد عقيدة المشركين وامتهانهم أنفسهم بعبادة هذه الأصنام وكان لعمرو بن الجموح صنم من خشب يدعوه مَنَاة كما كان يصنع من يزعمون أنَّهم أشراف، وكان عمرو سيداً من ساداتهم وشريفاً من أشرافهم فكان هؤلاء الشبان الذين اشتد بالإسلام بأسهم يريحون بالليل على صنم عمرو فيحملونه ويكبونه على رأسه في إحدى الحفر فإذا أصبح عمرو فلم يجد الصنم التمسه حتى يعثر به ثم غسله وطهره  وردَّه مكانه، وهو يبرق ويرعد ويتهدد ويتوعد..، وكرر هؤلاء الفتيان عبثهم بمناة ابن الجموح وهو كل يوم يغسله ويطهره فلما ضاق بهم ذرعاً علَّق على الصنم سيفه وقال: إن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك. وأصبح فالتمسه فوجده ملقياً مهاناً وليس معه السيف، فلما رأى عمرو مصير صنمه علم أنه كان منه في غرور فأسلم وترك ضلال الشرك والوثنية الذي يهوي بصاحبه إلى درك لا يجمل أن يتردى إليه إنسان، ويسير على المرء بعد ذلك أن يدرك توفيق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حين رأى في أهل المدينة الخير كله وأن الإسلام سيكون فيها قوياً منيعاً له حماة وله أنصار يتقبلون دعوة الإسلام كما تتقبل الأزهار ندا الصباح وتتفتح لها قلوب فتثمر أطيب الثمرات.

كان من هدي الله لرسوله بعد أن اشتدَّ بأس الإسلام وقويت شوكته أن يرشده إلى أن يهيئ لهم السبيل لإقامة شعائر الدين وجمع شتات المسلمين فلما وصل قُباء، أقام به أربعة أيام تبتدئ من يوم الاثنين وأسَّس فيه المسجد الذي نزل فيه من القرآن الكريم قول الله تبارك وتعالى:[ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ] {التوبة:108}.
وهو أول مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامة وإن كان قد تقدم بناء غيره من المساجد لكن لخصوص الذي بناه، ثم يخرج صلى الله عليه وسلم من قباء ضحى يوم الجمعة وتدركه صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف فيصليها في مسجدهم الذي في بطن وادي نوناء وهو مسجد صغير مبني بحجارة قدر نصف القامة وكان معه في الصلاة مائة من المسلمين فيشرف ذلك المسجد بأن يصلي فيه الرسول والمسلمون أول جمعة ويبقى له أطيب الذكر ويستقر اسمه في ذاكرة كل مسلم ولا ينسى التاريخ أن في هذا المسجد ألقى الرسول أول خطبة في الإسلام وأنه أرشد المسلمين إلى معالم دينهم، ليس حوله إلا نفوس طيبة أذعنت للدعوة الطيبة فمحصتها فكتب لأصحابها الفوز والنصر المبين.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة لواء الإسلام العدد السادس من السنة الثالثة عشر صفر 1379هـ=1959م

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين