حدث في السادس عشر من المحرم

في السادس عشر من المحرم من عام 815 توفي في دمشق، عن 55 عاماً، الأمير المملوكي الكبير سيف الدين تَغْري بِرْدي بن عبد الله من يشبُغا الأتابكى الظاهري، نائب السلطان بالشام، ووالد المؤرخ الكبير يوسف بن تغري بردي. وتغري بردي كلمة تركية تعني الله أعطى، فهي تقابل بالعربية: عطاء الله.

توفي تغري بردي وابنُه المؤرخ في حوالي الرابعة من عمره، فهو لم يدركه ويعاصره، ولكنه ترجم له ترجمة لطيفة في كتابه المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، ومنها ومن كتابيه النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ، وحوادث الدهور في مدى الأيام والشهور استقيت أغلب ما أورده هنا، وهي سيرة تصلح أنموذجاً لحياة الكبار من أمراء المماليك، وللتجاذب والتدافع بين أقطاب هذه الدولة من متعقلين ومندفعين، ومن قانعين ومغامرين، وسفهاء ومتعقلين.
ولد تغري بردي في حوالي عام 760 في بلاد الروم، وهي الأناضول اليوم، ولا تذكر المراجع متى جيء به رقيقاً إلى البلاد الإسلامية، وفي سنة 784 قام الأمير برقوق أتابك العسكر والوصي على العرش بخلع الملك الصالح أمير حاج ابن قلاوون، وكانت سنه 12 عاماً، وتسنم برقوق عرش الدولة المملوكية وتسمى بالملك الظاهر، وتذكر المراجع أن برقوق اشترى تغري بردي في أوائل سلطنته وأعتقه، وجعله في يوم عتقه خاصكيا، أي من خاصة مماليك السلطان، ثم صار ساقيا للسلطان، وأنعم عليه بحصة من شبين القصر، ثم جعله رأس نوبة الجمدارية أي السقاة، وفي حدود سنة 789 تزوج السلطان برقوق ابنة عم الأمير تغري بردي واسمها شيرين، وجاءه منها ابنه البكر الذي أسماه فرج والذي سيخلفه فيما بعد في السلطنة.
وفي سنة 790 تمرد يلبغا الناصري في حلب على السلطان برقوق، وانضم إليه  بعض أمراء الشام، فأرسل السلطان برقوق جيشاً من القاهرة لقمع التمرد، ولكن الجيش هُزِم واتسع التمرد ليصل إلى القاهرة، وقُبِضَ على برقوق وأرسل منفياً إلى الكَرَك، وأعاد المماليك تنصيب الملك الصالح أمير حاج ابن قلاوون الذي غيَّر لقبه وتسمى بالملك المنصور، وكان تغري بردي في العسكر الذي ذهب إلى الشام لقمع يلبغا الناصري، فلما انكسر العسكر قُبِضَ عليه مع من قبض عليه من حواشي برقوق وسجنوا في دمشق.
وعين الملك المنصور الأمير بُزلار نائباً للسلطان بدمشق، فأخرج عدداً من الأمراء المسجونين منهم تغري بردي، وجعلهم في خدمته، ولم يلبث الملك الظاهر برقوق في آخر سنة 791 أن نهض من الكَرَك طالباً ملكه بما توفر لديه من فلول ، فبادر تغري بردي وفرَّ من عند الأمير بزلار ولحق به وحركته في بداياتها، وجرت في أول سنة 792 وقعة في سهول شقحب جنوبي دمشق بين الملك الظاهر برقوق وبين جيش الملك المنصور بقيادة الأمير منطاش، فكان النصر حليف الظاهر برقوق، وعاد إلى القاهرة ملكاً من جديد، وبرز في هذه الوقعة الأمير تغري بردي، فقد حمل على أمير من جيش منطاش يسمى آقبُغا اليلبغاوي، فقنطره عن فرسه، فسأل الملك الظاهر برقوق وقال: من هذا الذي قنطر آقبغا؟ فقيل له: تَغرى بَرْدى. فتفاءل باسمه، لأن معناه الله أعطى، وجعله الملك الظاهر أمير عشرين مكان آقبغا المقتول، ولهذا كان يقال تغري بردى أخذ الإمارة برمحه.
ولما انتصر برقوق أرسل تغري بردي مبشراً بسلطنته إلى الديار المصرية، وقرَّبه منه، وفي سنة 793 رسم السلطان برقوق بأن يقيم بالقلعة مع السلطان ستمئة مملوك وجعل أميرهم تغري بردي، وفي سنة 795 جعله أمير مئة ومقدم ألف بالديار المصرية، وفي تلك الفترة تزوج تغري بردي بابنة تمرباي الأشرفي حاجب الحجاب بالديار المصرية ومن أجلَّ المماليك الأشرفية.
وفي نفس السنة تواترت الأنباء بأن الخان تيمور لنك، وهو مسلم ذو أصل تركي قاتل مع المغول، يعد العدة للهجوم على بلاد الشام، فتوجه السلطان برقوق في جيشه إلى دمشق لقتاله، وجاءه إلى دمشق ملك بغداد القان غياث الدين أحمد بن أويس، وهو من السلالة المغولية، وعقدا تحالفاً لمواجهة تيمور لنك، وعلم تيمور لنك بمبادرة السلطان واستعداده للنزال فأعرض عن مهاجمة بلاد الشام.
وفي آخر سنة 795 عقد السلطان برقوق مجلساً في قلعة حلب، عيَّن فيه الأمير تغري بردي في في نيابة حلب، وأمر في نفس المجلس بسجن عدد من الأمراء في قلعة حلب منهم والي طرابلس الأمير دمرداش، وكان صديقاً لتغري بردي، وبرزت من تغري بردي شهامة ووفاء جعلته موضع إعجاب الأمراء والسلطان، وذلك أنه لما انفض المجلس بقي تغري بردي في حضرة السلطان، فقال له: لم لا تتوجه؟ فقال: يا مولانا السلطان أستحي أنزل من الناس، يُمْسَك أخي دمرداش نائب طرابلس وأتولى أنا نيابة حلب؛ وما يقبل السلطان شفاعتي فيه! فقال له السلطان: قبلتُ شفاعتك فيه؛ غير أنه يمكث في السجن أياماً، ثم أفرج عنه لأجلك، لئلا يقال: يمسك السلطان نائب طرابلس ويطلقه من يومه، فيصير ذلك وَهْناً في المملكة، فقال تغري بردي رحمه الله: السلطان يتصرف في مماليكه كيف يشاء، ما علينا من قول القائل. ثم قبل الأرض ويد السلطان، فتبسم السلطان، وأمر بإطلاق دمرداش وحضوره؛ فحضر من وقته، فخلع عليه بأتابكية حلب أي قيادة حاميتها، ثم قال السلطان لتغري بردي: خذ أخاك وانزل. وبينت هذه الواقعة عن مكانة تغري بردي لدى أستاذه الملك الظاهر برقوق، مما أثار غيرة الأمير تنم نائب السلطنة بدمشق.
رجع السلطان برقوق في أول عام 796 إلى القاهرة، وبقي تغري بردي في منصبه بحلب أربع سنوات إلى أول سنة 800 حين عزله الملك برقوق عن نيابة حلب، وكان سبب عزله أنه في سنة 799 توجه هو والأمير تنم إلى سيواس وغيرها من البلاد شمالي حلب بأمر الملك الظاهر، وكانت العادة إذا حضر نائب الشام يصير هو رأس العساكر وترفع فوقه راية القيادة ويُنزِلُ نائبُ حلب رايته، ولكن تغري بردي أبقى رايته على رأسه، فعظم على الأمير تنم ذلك، وتكلم أمراؤه مع أمراء تغري بردي لإنزال الراية فلم يفعلوا، وخرج الأمر إلى أن تقاتل الفريقان بالدبابيس، وكادت الفتنة تقع بينهما، وتغري بردي يتجاهل الأمر، حتى التفت تنم ونهى مماليكه عن القتال، وسار كل واحد ورايته على رأسه، حتى نزلا بمخيمهما، ولما نزل تغري بردي بمخيمه كلمه بعض أعيان مماليكه فيما وقع، فقال: أنا خرجت من مصر جندياً حتى أنزل سنجقي! مشيراً إلى أنه ولي نيابة حلب وهو رأس الحرس السلطاني، وأنَّ تنم كان أمير عشرة بمصر ثم ولي أتابكية دمشق ثم نيابتها، يعني بذلك أن تنم لم تسبق له رياسة بمصر قبل ولايته نيابة دمشق، وبلغ هذا القول تنم فقامت قيامته، وكتب للسلطان بذلك وأشفعه بشهادة أمراء دمشق بما وقع، وادعى أن تغري بردي على وشك التمرد على السلطان، فأصدر الملك برقوق أمره بعزله وأرسل احد الأمراء لأحضاره إلى القاهرة، مع بقائه في ذات الرتبة أمير مئة ومقدم ألف.
ويبدو أنه تبين للملك الظاهر برقوق زيف الادعاء أن تغري بردي ينوي التمرد، لأنه أنعم عليه قبل وصوله بإمرة مجلس، وهو الذي يتولى شؤون مجلس السلطان، ثم خرج الملك الظاهر بنفسه إلى لقائه خارج القاهرة، وسار معه فلما قارب القلعة أمره بالتوجه إلى حيث أنزله، وبعث إليه بخمسة أفراس بقماش ذهب، وخمس بقج فيها قماش مفصل، وقدم تغري بردي هدايا ثمينة إلى السلطان، من مماليك وخيول وقماش، فابتهج السلطان بذلك وقبله، وخلع على أمراء تغري بردي، فنزلوا من القلعة في غاية الإكرام، وأبدى الملك الظاهر إعجابه بهذه الهدايا النفيسة وكيف استطاع تغري بردي تحصيلها مع حسن سيرته وقلة ظلمه بحلب، وكثرة مماليكه وخدمه.
ثم عيّن الملك الظاهر الأمير تغري بردي بإمرة سلاح، وهي رتبة تعادل قائد الحرس السلطاني الذين يحق لهم حمل السلاح في حضرة الملك، إضافة إلى الإشراف على خزائن السلاح، وحلَّ في منصب أمير مجلس الأمير بيبرس ابن أخت الملك الظاهر، وبقي تغري بردي على صلة بحلب فقد كان له في سنة 801 يدٌ في تعيين السلطان لكمال الدين عمر بن العديم قاضياً للقضاة بحلب، ثم بعدها بالقاهرة، وتزوجت إحدى بنات تغري بردي  من محمد ابن كمال الدين بن العديم الذي سيخلف أباه في قضاء القاهرة إثر وفاته سنة 811.
وفي هذه الفترة وكنوع من الإكرام زوَّج الملكُ الظاهر برقوق الأمير تغري بردي بالأميرة فاطمة ابنة الملك المنصور محمد ابن قلاوون الذي تسلطن في سنة 762 وعمره 14 عاماً ثم عزل بعد سنتين، لانشغاله عن أمور الدولة باللهو والطرب والجواري المغنيات.
وتوفي الظاهر برقوق في شوال من سنة 801، وخلفه بوصية منه ابنه فرج البالغ من العمر 11 عاماً، وتلقب بالملك الناصر، وصار الأمير أيتمش أتابك الملك الناصر، والأتابك بمثابة المربي أو الوصي، وجعل برقوق الأميرين أيتمش وتغري بردي وصيين على تركته، ووقف الأتابك أيتمش بالمرصاد للأمراء الشباب من حول الملك الظاهر الذين ظنوا أن الدولة ومواردها أصبحت في متناول أيديهم، وخابت مطامعهم في أن يخلو لهم وجه الملك الصغير، وتوترت العلاقات بين أمراء الخاصة وبين الوصي على العرش، وفاقم في التوتر أن نائب الشام الأمير تنم أعلن عصيانه على الملك الصغير، ودبر أمراء الخاصة مكيدة للوصي الأمير أيتمش، وأوعزوا للملك الناصر في سنة 802 أن يعلن زوراً أنه قد بلغ سن الرشد، فيستغني بذلك عن الأتابك، وابتلع أيتمش الطعم، فدعا إلى مجلس حضره الملك والقضاة والعلماء، وأعلن فيه عن رشاد الملك، ثم نزل من القلعة إلى القاهرة، تاركاً مماليك السلطان وحبلهم على غاربهم، وعارض الأمير تغري بردي هذه الخطوة في السر ثم على الملأ، وقال لأيتمش: إن هؤلاء لن يستريح لهم بال إلا بإزاحة الأمراء الكبار من حول الملك، ونزولك من القلعة لا يحسم الفتنة بل يزيدها! ولم يستمع أيتمش لرأي تغري بردي، فقال له: أخربت بيتك وبيوتنا بسوء تدبيرك.
وبدأت معالم المؤامرة على الأمراء الكبار تتبين شيئاً فشيئاً، فخطط أيتمش بعد أربعة أيام للعودة إلى القلعة واستعادة منصبه كوصي على العرش، وبدأ في حشد أنصاره من الأمراء وجنودهم، وكان أول ما فعله أن زار الأمير تغري بردي، وكان مغضباً منه، فما زال حتى أرضاه ووافق على المشاركة معه، وبدأ أيتمش وأنصاره في نشر قواتهم في جنح الليل ليباشروا هجومهم مع الفجر، وعلم أمراء السلطان بهذه التحركات وظنوا أنها تهدف لعزل الملك وتنصيب أيتمش نفسه ملكاً، فجمعوا قواتهم وتواجه الطرفان وكانت الغلبة في البداية لأيتمش، ثم ارتكب خطأً كبيراً عندما أعلن عن جائزة كبيرة لكل من قبض مملوكاً شركسياً وأحضره إلى الأمير أيتمش، وكان السلطان برقوق من أصل شركسي، فاستكثر من المماليك الشركس، وكان الهدف من الإعلان حفز المماليك الشركس لينفضوا من حول السلطان وينضموا لأيتمش، وكان أيتمش ذاته وأغلب ممالكيه من الشركس، وأدى الإعلان إلى نتيجة عكسية فقد اعتبره أنصار أيتمش تحيزاً ضد الشركس وإهانة لهم، وانسحبوا من حوله وانضموا إلى قوات الملك الناصر، ودارت الدوائر على أيتمش وأنصاره فهربوا إلى المتمرد الأمير تنم في الشام ووقع النهب في دورهم وأوقافهم.
ورحب الأمير تنم بمن جاءه من الأمراء وبخاصة تغري بردي وبذل جهده في أن يستل ضغينته التي سببتها مساعيه من قبل لعزله عن حلب، واتجهوا جميعاً على رأس جيش جرار نحو القاهرة، والتقوا مع جيش الملك الناصر قرب غزة، ولأمر يريده الله وقع الأمير تنم عن فرسه في أول المعركة وأخذ أسيراً، ففلت عزيمة جيشه وانهزموا ودارت عليهم الدوائر، وهرب أيتمش وتغري بردي وكبار أمراء تنم إلى دمشق، فقبض عليهم أمراؤها وأودعوهم السجن، ثم جاء الملك الناصر إلى دمشق وقتل الأتابك أيتمش وعدداً من كبار الأمراء، ثم قتل الأمير تنم في طريق عودته إلى القاهرة.
أما الأمير تغري بردي فقد نجا من القتل لشفاعة ابنة عمه خوند شيرين أم السلطان الملك الناصر فرج، وكان لها يوم ذلك جاه كبير، فقد أوصت ولدها الملك الناصر به، فزاد ذلك فسحة الأجل فأبقي في حبس دمشق أربعة أشهر، ثم أفرج عنه وتوجه إلى القدس بطالا لا عمل له.
وفي تلك الأثناء برز خطر آخر ولكنه كان من خارج المملكة، فقد عاد تيمور لنك إلى تنفيذ مخططه لاكتساح المشرق العربي بعد وفاة السلطان برقوق، واستولى سنة 803 على ملاطيا وعنتاب وتلتهما حلب، وكان تيمور لنك يسير على خطا المغول في إرهاب الخصوم من خلال استباحة دماء أهل هذه البلاد وأموالهم وأعراضهم، وتلكأ أمراء الملك الناصر في مواجهة هذا الخطر الداهم، وتركوا البلاد الشامية دون مساعدة تذكر، ووقع في أسر تيمور نائب السلطنة بدمشق الأمير سودون، ولم يخرج الجيش المصري إلى الشام إلا حين لم يعد مناص من الخروج.
ولما خرج الملك الناصر على رأس جيشه إلى الشام ووصل إلى غزة طلب الأمير تغري بردي من القدس، وعينه في نيابة دمشق عوضاً عن الأمير سودون المأسور، وعزم السلطان على التحرك إلى دمشق بعسكره، ولكن الأمير تغري بردي كان له رأي آخرفقال للسلطان وللأمراء: عندي رأي أقوله، وفيه مصلحة للمسلمين وللسلطان، فقيل له: وما هو؟ فقال: الرأي أنَّ السلطان لا يتحرك هو ولا عساكره من مدينة غزة، وأنا أتوجه إلى دمشق وأحرض أهلها على القتال، وأحصنها، وهي بلدة عظيمة لم تُنكَب من قديم الزمان، وبها ما يكفي أهلها من المؤونة سنين، وقد داخل أهلَها أيضاً من الخوف ما لا مزيد عليه، فهم يقاتلون قتال الموت، وتيمور لنك لا يقدر على أخذها مني بسرعة، وهو في عسكر كبير إلى الغاية لا يطيق المكث بهم بمكان واحد مدة طويلة، فإما أنه يدع دمشق ويتوجه نحو السلطان إلى غزة، فيتوغل في البلاد ويصير بين عسكرين، وأظنه لا يفعل ذلك، وإما أنه يعود إلى جهة بلاده كالمنهزم من عدم معرفة عساكره بالبلاد الشامية، وقلة ما في طريقه من الميرة لخراب البلاد، فيهاجم السلطان بالعساكر المصرية والشامية مؤخرة جيش تيمور لنك، فيفتك بهم وتحل بهم الهزيمة.
واستصوب هذا الرأي أغلب من حضر، ولكن بعض جهال الأمراء الحاقدين على الأمير تغري بردي من أيام أحداث القاهرة، عارضوا هذه الفكرة، وقال بعضهم لبعض سراً فيما بينهم: أتقتلون رفقته وتسلمونه الشام! والله ما قصده إلا أن يتوجه إلى دمشق، ويتفق مع تيمور ويعود يقاتلنا، حتى يأخذ منا ثأر رفقته.
وكان رأي الأمير تغري بردي الرأيَ السديد، واعترف بذلك تيمور لنك  عندما بلغه هذا القول بعد أخذه دمشق، وحمد الله  على أن لم يفعلوه، ولكن الرأي وقع على نفوس قوم صغار ملأى بترهات الأحقاد، فلم يلق القبول، وانفض المجلس، وتوجه تغري بردي إلى دمشق، وأخذ في الترتيب لمواجهة العدو الداهم، فوجد أهلها في غاية الاستعداد، قد عزموا أن يقاتلوا إلى أن يفنوا جميعاً، فتأسف كثيراً على عدم قبول الملك الناصر لرأيه.
والتقى الجيشان في ضاحية قطنا قرب دمشق، فانكسر عسكر الملك الناصر كسرة غير حاسمة، ونزل كل من العسكرين بمعسكره وبعث تيمور إلى السلطان مرتين في طلب الصلح، وأشار تغري بردي وأمراء البلاد الشامية بقبول ذلك لإدراكهم بما ينضوي عليه معسكرهم من اختلاف الكلمة مع كثرة العدد، فلم يقبل أمراء الملك ذلك وأبوا إلا القتال.
وبعد خمسة أيام من المعركة اختفى عدد من أمراء مصر والمماليك السلطانية، فوقع الاختلاف عند ذلك بين الأمراء على وظائف المختفين، وعادوا إلى ما كانوا عليه من التشاحن في الوظائف والإقطاعات والتحكم في الدولة، وتركوا أمر تيمور كأنه لم يكن،  وعلم تيمور لنك بما وقع الأمراء فيه، فقوي أمره واجتهاده، بعد أن كان عزم على الرحيل، واستعد لذلك.
ثم أشيع بدمشق بعد عدة أيام أن الأمراء الذين اختفوا توجهوا جميعاً إلى مصر ليسلطنوا لاجين الجركسي، فخشي كبار الأمراء على مناصبهم، وكان ذلك عندهم أهم من أمر تيمور، واتفقوا فيما بينهم على العودة إلى مصر بالسلطان الملك الناصر في مجموعة قليلة، ولم يُعلِموا بذلك إلا جماعة يسيرة، ولم يكن أمر لاجين يستحق ذلك، بل كان تمراز نائب الغيبة بمصر يكفيهم أمره.
وركب هؤلاء الأمراء في جنح الليل وبينهم الأمير تغري بردي، وأخذوا السلطان الملك الناصر فرج يريدون الديار المصرية، وتركوا العساكر والرعية من المسلمين غنماً بلا راع، ولما وصلوا إلى غزة فوجئوا أن فيها الأمراء الذين ساروا إلى مصر، فعاتبوهم عل ما فعلوه، فاعتذروا بعذر غير مقبول في الدنيا والآخرة؛ فندم عند ذلك الأمراء على الخروج من دمشق حيث لا ينفع الندم، وقد تركوا دمشق أكلة لتيمور، وكانت يوم ذاك أحسن مدن الدنيا وأعمرها.
قال المؤرخ يوسف بن تغري بردي: أخبرني غير واحد من أعيان المماليك الظاهرية قالوا: لما بلغنا خروج السلطان ركبنا في الحال، غير أننا لم يعوقنا عن اللحاق به إلا كثرة السلاح الملقى على الأرض بالطريق مما رمته المماليك السلطانية ليخف ذلك عن خيولهم، فمن كان فرسه ناهضاً خرج، وإلا لحقه أصحاب تيمور وأسروه؛ وتتابع دخول المنقطعين من المماليك السلطانية وغيرهم إلى القاهرة في أسوأ حال من المشي والعري والجوع.
وحاول تيمور لنك الاستيلاء على دمشق فقاتله الدمشقيون من أعلى السور أشد قتال، وردوه عن السور والخندق، وأسروا من جيشه جماعة ممن كان اقتحم باب دمشق، وأخذوا من خيولهم عدة كبيرة، وقتلوا منهم نحو الألف، وأدخلوا رؤوسهم إلى المدينة، وصار أمرهم في زيادة فأعيا تيمور أمرهم، وعلم أن الأمر يطول عليه، فأخذ في مخادعتهم، وعمل الحيلة في أخذ دمشق منهم. قال يوسف ابن تغري بردي: هذا الذي كان أشار إليه الوالد عند استقراره بغزة في نيابة دمشق، وقوله: إن أهل دمشق عندهم قوة لدفع تيمور عن دمشق، وأن دمشق بلد كثيرة الميرة والرزق، وهي في الغاية من التحصين، وأنه يتوجه إليها ويقاتل بها تيمور، فلم يسمع له أحد في ذلك؛ فلعمري لو رأى من لا أعجبه كلام الوالد قتال أهل دمشق الآن وشدة بأسهم، وهم بغير نائب ولا مدبر لأمرهم، فكيف ذاك لو كان عندهم متولي أمرهم بمماليكه وأمراء دمشق وعساكرها بمن انضاف إليهم، لكان يحق له الندم والاعتراف بالتقصير.
ولجأ تيمور لنك إلى الخديعة فطلب مفاوضاً من دمشق فاختار أهلها قاضي القضاة تقي الدين إبراهيم بن مفلح الحنبلي، فخدعه تيمور بحسن الاستقبال، وتلطف معه في القول، وترفق له في الكلام، فخذَّل القاضي أهلَ دمشق عن القتال وسلموها لتيمور الذي فرض على أهلها الضرائب الباهظة، وأنزل بهم ألوان العذاب، وحرقها فدامت بها النيران ثلاثة أيام  قبل أن يغادرها بعد 80 يوماً من احتلالها لقلة الأعلاف لجيشه، فقد شحت الأعلاف وقلّت المزروعات.
وكان الملك الناصر فرج في القاهرة قد بدأ في منتصف سنة 803 تجهيز جيش جديد إلى الشام لطرد تيمور لنك، وعاني الأمَرَّين في تحصيل الأموال ومن تثاقل أمرائه وجنده من الحرب والقتال، وجاءهم الفرج عندما انسحب تيمور لنك، فأبطل الحشد واستدعى الأمير تغري بردي فعينه نائب السلطنة بدمشق، وتوجه تغري بردي إلى دمشق فوجدها خرابها شاملاً إلى درجة أنه لم يعثر فيها على مكان يصلح لسكناه، فأشار عليه أهلها بأن يسكن بالمدرسة القرمانية فسكنها إلى أن شرع في عمارة دار السعادة، فتحول إليها بعد مدة طويلة.
وبدأت القلاقل في القاهرة تستعر من جديد، فقد أصدر الملك الشاب أوامره بتعيين عدد كبير من أمراء والده الكبار في مناصب في الأقاليم بعيداً عن العاصمة، وكل غرضه أن يخلو له الجو ليحكم كيف يشاء، وتمرد عليه هؤلاء الأمراء ورفضوا تنفيذ الأوامر، قبل أن يتم استرضاء بعضهم والقبض على بعضهم الآخر، وفي أول سنة 804 كتب الأمراء بمصر لأمراء دمشق بالقبض على الأمير تغري بردي، فكتب له بذلك بعض أعيان أمراء مصر، ووصلت رسالتهم قبل الأمر السلطاني، فخرج من دمشق إلى حلب وأقنع أميرها دمرداش المحمدي بالخروج عن طاعة السلطان بسبب من حوله من الأمراء، ووجد تغري بردي الأمير دمرداش قد قبض على الأمير خليل بن قراجا أمير التركمان، فأمره بإطلاقه، فأطلقه، واتفق الجميع على مواجهة السلطان فرج، وبدأوا في حشد قواتهم من المماليك والتركمان.
وقام الأمير دقماق نائب دمشق بحشد قواته واستطاع المتمردون هزيمته في أول معركة، فحشد جيشاً كبيراً من كافة المدن الشامية، وعاد إلى حلب بعساكر عظيمة، فأشار دمرداش على تغري بردي بالتوجه إلى بلاد التركمان من غير قتال، فقال: لا بد من قتالنا معه، فإن انتصرنا وإلا توجهنا إلى بلاد التركمان بحق، فبرزا لدقماق بمماليكهما، واقتتلا قتالاً شديداً، وثبت كل من الفريقين، وأشرف دقماق على الهزيمة، وبينما هو في ذلك انشق من عسكر حلب جماعة وانضمت إلى دقماق، فانكسر الجيش، وانهزم قادته إلى بلاد التركمان، وملك دقماق حلب.
وأقام تغري بردي ودمرداش في بلاد التركمان قرابة ثلاثة أشهر، ثم أن أرسل السلطان إلى الأمير تغري بردي بخاتم الأمان، وطلبه إلى ديار مصر، فقدمها وجعله من كبار أمرائه، وجرت في آخر سنة 807 فتنة أخرى بين الأمراء الكبار كادت أن تعصف بالملك الناصر، وحذر الأمير تغري بردي الملك قبل هبوب رياح الفتنة ونصحه بحسمها قبل بزوغها، ولم يأخذ الملك بنصيحته، فدفع ثمناً باهظاً، وتبين له صدق تغري بردي في النصح والتوجيه، وخطب السلطان ابنة تغري بردي فاطمة وجرى عقده عليها، ولم يدخل بها، ولم يكن تغري بردي يحبذ ضمناً هذا الزواج، واشتد حنق الأمراء الشباب من تغري بردي ومكانته لدى السلطان حتى إنهم طالبوه بطرده صراحة في بعض المرات.
وفي أوائل سنة 808 جرى أمر عجيب فقد اختفى فجأة الملك الناصر فرج، ولم يعثر له على أثر، فاجتمع كبار أمراء الدولة وخلعوه وعينوا محله أخاه عبد العزيز وتلقب بالملك المنصور، فخرج تغري بردي من القاهرة فاراً إلى القدس خوفاً من أن يقتله أمراء الملك الجديد، وسلك مسلكه في الهرب أو الاختفاء بعضُ كبار الأمراء الذين خافوا على أنفسهم.
ثم ظهر الملك الناصر بعد 70 يوماً من مخبئه بالقاهرة، فانحاز إليه عدد كبير من الأمراء والجنود، فعاد إلى الملك وطرد من كان ينغص عليه من المماليك، وأرسل في طلب تغري بردي من القدس، وأنعم عليه بعدة إقطاعات، وعظُم في الدولة، وعينه في سنة 810 أتابك العسكر في الديار المصرية، وكانت أمراء المماليك في الشام على عصيان يكاد يكون دائماً وكان رأسا العصيان الأميران شيخ المحمدي ونوروز الحافظي، يصطلحان حيناً ويقتتلان حيناً، والسلطان يضرب هذا بذاك وفي ظنه أن يُضعِفَ الاثنين، وكان آخر أمرهما في سنة 811 أن استولى الأمير شيخ على دمشق من نوروز، وعينه الملك الناصر نائباً عليها.
وما لبثت أن وقعت وحشة بين الملك الناصر وبين الأمير شيخ، فخرج الناصر إلى البلاد الشامية في سنة 812 فلما قارب الملك الناصر دمشق، خرج منها شيخ إلى قلعة صرخد فتوجه إليه الناصر وهو بصرخد، وحاصره بقلعتها مدة ثم اصطلحا على تولية شيخ نيابة طرابلس، وعاد السلطان إلى القاهرة، فنزل شيخ من قلعة صرخد وتوجه إلى دمشق واستولى عليها بعد قتال، فتوجه إليه خصومه نوروز ودمرداش نائب حلب والتقوا في ظاهر حماة وكانت الغلبة للأمير شيخ، الذي حاصر حماة  وفيها نوروز، ثم اصطلحوا على أن يكون نيروز نائب حلب، واتفقوا الجميع على مخالفة الملك الناصر.
فخرج الملك الناصر إلى بلاد الشام لقتالهم في سنة 813، فلما اقترب الناصر من دمشق، خرج منها شيخ وتوجه إلى حلب إلى الأمير نوروز، وخرجا بمن معهما من حلب، وقدم السلطان حلب في إثرهم، وتوجها إلى بلاد التركمان شمالي حلب، ورجع السلطان إلى حلب، ولكن الأمير شيخ قام بحركة جريئة فقد سار في قواته إلى تدمر ومنها في الصحراء إلى الكَرَك، وانضم إليه عدد من الأمراء ممن خرج عن طاعة الناصر، وتوجهوا جميعاً إلى مصر، وهم فيما دون الثلاثمئة فارس، فوصلوا القاهرة وقاتلوا نائب الملك بها، وأقاموا بمصر ثلاثة أيام، ثم جاءهم أحد أمراء الملك الناصرفهزمهم هزيمة منكرة، وكاد الأمير شيخ أن يقتل، ثم نجا بنفسه مع نفر قليل من الأمراء، وقاسوا في الصحراء شدائد حتى وصلوا الكرك.
وسار الملك الناصر فرج من دمشق إلى قلعة الكرك ومعه قائد جيشه الأمير تغري بردي، وأدرك الأمير شيخ ضعف موقفه فطلب من تغري بردي وغيره من حاشية السلطان أن يسعوا لدى السلطان بالعفو عنه، فقاموا بذلك ووافق السلطان بعد لأي، فدخل تغري بردي قلعة الكرك وقام بترتيب الاستسلام والأمان وحقن الدماء.
وعقد السلطان الملك الناصر مجلساً للتهنئة في دمشق حضره الأمير تغري بردي فالتفت السلطان إليه وقال له متبجحاً: يا أطا - أي يا أبي - أنا ما قلتُ لك أنا أعرف شيخاً؟! إذا كان معي عشرة مماليك قاتلته بهم. ثم تكلم في حق الأمير شيخ بما لا يليق ذكره، وكان شيخ من أصدقاء الأمير تغري بردي، فرده الأمير تغري بردي عن تبجحه في لباقة وقال له: يا مولانا السلطان، هذا كله بسعد مولانا السلطان، وعظم مهابته، وأما شيخ فإنه إذا كان من حزب السلطان وشمله نظر مولانا السلطان، من ذا يضاهيه في الفروسية؟ غير أنه للرعب الذي في قلبه من حرمة مولانا السلطان وغضبه عليه يقع في مثل هذا أو أكثر.
وفي سنة 813 عين الملك الناصر فرج الأمير تغري بردي للمرة الثالثة نائباً على دمشق، وسبب ذلك أن الأميران شيخ المحمودي ونوروز الحافظي لما وقع الصلح بين السلطان وبينهما على أن يعطي الأمير شيخ نيابة حلب، ويعطي الأمير نوروز نيابة طرابلس، ويكون نائب دمشق من قبل الملك الناصر، فقالوا: إن كان ولا بد فلا يكون علينا من هو دوننا نائب دمشق، ونحن راضون بالأمير الكبير تغري بردي فإنه آغتنا قديماً وحديثاً، فالتفت الملك الناصر إليه وقال له: يا أبي ما بقي في هذا إلا استقرارك في نيابة دمشق، فامتنع تغري بردي والملك الناصر يكرر السؤال عليه ويعانقه ويقبل رأسه حتى قبل ووليها، وخمدت الفتنة بتوليته، وصار شيخ ونوروز في طاعته.
وفي شعبان من سنة 814 ابتدأ المرض بالأمير تغري بردي، ولهجت الناس أن الملك الناصر قد اغتاله بالسم، وسبب ذلك أن الناصر عُرِفَ بخشيته من كبار الأمراء سواء ممن كانوا أمراء والده أو ممن نشأوا في دولته، فقتل كثيراً منهم، ولكن ابن تغري بردي المؤرخ يوسف يستبعد ذلك وينقل عن أخته خوند فاطمة زوجة الملك الناصر خلاف ذلك، وهو أنه لما قدم عليه الخبر بمرضه صار يتأسف ويقول: إن مات أبوك تخربت مملكتي. وبقي كلما ورد عليه الخبر بعافيته يظهر السرور، وكلما بلغه أنه انتكس يظهر الكآبة، وأنه ما أخذها صحبته إلى الشام إلا حتى تعوده في مرضه، وأشياء من ذلك.
ومن الطريف أن الملك الناصر نقض اتفاقه مع الأميرين نوروز وشيخ، فخرجا عن طاعته في سنة 814، فتوجه الناصر على رأس جيشه إلى بلاد الشام لقتالهما، وكان الأمير تغري بردي مريضاً قد لزم الفراش عدة أشهر، ولما بلغ الأميران شيخ ونوروز أن تغري بردي قد أشفى على الموت، عظم عليهما ذلك، وقدما إلى دمشق ليعوداه، فنزلا ظاهر دمشق بثقلهما، ودخلا إليه كل واحد معه خمسة مماليك لا غير، وأقاما عنده بدار السعادة ساعة كبيرة، والناس يتعجبون من دخولهما إلى دمشق والملك الناصر في طلبهما، لا سيما دخولهما إلى دار السعادة ومكثهما عنده هذه المدة، ثم خرجا من عنده بعد أن خلع على كل واحد كاملية سمور هائلة، وقيد لكل منهما فرس بسرج ذهب وكنبوش زركش وألف دينار ذهب، وبلغ الملك ذلك فعظم عليه. وقيل إن بعض أعيان مماليك تغري بردي كلمه بعد خروجهم من عنده في ذلك، فقال له: أنا مريض وللموت أقرب، أمسكهم وأسلمهم له حتى يقتلهم عن آخرهم، ويكون ذلك في ذمتي؟ وأيضاً كان من المروءة أن هؤلاء يدخلون إلى عيادتي فأمسكهم؟ لا والله.
ولما وصل السلطان الملك الناصر فرج إلى دمشق أتى إلى الأمير تغري بردي واستشاره في ملأ من الناس فيما يفعل مع هؤلاء الأمراء العصاة، فقال له لائماً: ياخوند تذبح في سنتك خمسمئة نفس؟! فَرَسُك الذي تحتك عاصٍ عليك! فقال له الملك الناصر: الكلام في الفائت فائت، أيش تشير علي الآن؟ فقال: عندي رأي أقوله، إن فعله السلطان انصلح به حاله، قال: وما هو؟ قال: ترجع من هنا إلى مصر، فمن كان له إليك ميلٌ عاد صحبتك، ومن كان قد داخله الرعب منك فهو يفارقك من هنا ويتوجه إلى القوم، فإذا دخلت إلى مصر نادِ بالأمان، وكُفَّ عن قتل مماليك أبيك وغيرهم، وأغدق عليهم الإحسان، وأكثر إليهم من الاعتذار فيما وقع منك في حق غيرهم، واسلك معهم قرائن تدل على صفو النية، فبهذا تطمئن قلوب رعيتك، ويعودون لطاعتك. فإذا صار معك منهم ألف مملوك قهرت بهم جميع أعدائك، لما شاع من إقدامك وشجاعتك، ولعظم ما في قلب أعدائك من الرعب منك.
وأيضاً فإن هؤلاء الأمراء العصاة قد كثروا إلى الغاية، فالبلاد الشامية لا تقوم بأمرهم، فإما أن يقع بينهم الخُلف على البلاد فيفترقوا، وإما أن يتفقوا ويجتمعوا على قتالك ويأتوك إلى مصر، فاخرج إليهم والقهم برأس الرمل، فإن انتصرت عليهم فافعل ما بدا لك، وإن كانت الأخرى فاخرج إلى البلاد، فمن قرا يوسف صاحب العراق إلى والي قطيا في طاعتك، فما عندي غير هذا.
فاستحسن جميع الأمراء هذا الرأي، ولكنه لم يعجب الملك الناصر الذي سكت طويلاً ثم رفع رأسه وقال: يا أطا، أنا قتلت هذه الخلائق لتعظم حرمتي، فإذا رجعت من هنا أيش يبقى لي حرمة؟! وأنا أعرفُ بحال هؤلاء من غيري، والله ما صِفتُهم قدامي إلا كالصيد المجروح، والله إذا بقي معي عشرة مماليك قاتلتهم بهم ولا أطلب إلا أن يثبتوا ويقفوا، ويقاتلوني حتى أنتصِفَ منهم. فقال له الأمير تغري بردي: فاعلم أنهم الآن يقاتلونك.
قال المؤرخ يوسف ابن تغري بردي: ثم طلَبَنا الملكُ الناصر أنا وإخوتي فأحضرونا بين يديه، وكنا ستة ذكور، فقبلنا يده - وأنا أصغر الجميع - فسأل عن أسمائنا، فقيل له ذلك، ثم تكلم الأتابك دمرداش المحمدي عن لسان الوالد بالوصية علينا، فقال السلطان: هؤلاء أولادي وأصهاري وإخوتي، ما هذه الوصية في حقهم! كلُّ ذلك والوالد ساكت قد أسنده مماليكه لا يتكلم، فلما قام الملك الناصر قال الوالد: أودعتُ أولادي إلى الله تعالى، واستعنتُ به في أمرهم. فنفعنا ذلك غاية النفع ولله الحمد، مع ما أُخِذَ لنا من الأموال التي لا تدخل تحت حصر عند هزيمة الملك الناصر من الأمراء، ودخوله إلى دمشق.
وتواجه جيشا الملك والأميرين في 14 من المحرم من سنة 815، وانكسر الملك الناصر واستولى شيخ ونوروز على عتاده، ووقع الخليفة المستعين والقضاة في قبضتهما، وتوجه الملك المنهزم نحو دمشق فدخلها في 15 من المحرم، وتوفي تغري بردي رحمه الله في يوم الخميس 16 من المحرم سنة 815، وصلى عليه الملك الناصر فرج، وشهد دفنه، وامتدت أيديه إلى أموال الأمير تغري بردي، فأنفقها في تجديد أمر جيشه، وترك ورثته فقراء، وأرسل إلى أنصاره يغريهم بالمناصب والمال، ولكن جيشه في دمشق هزم فانحاز إلى قلعة دمشق فحاصروه بها أياماً ثم استسلم وقتل في 16 من صفر.
خلف الأمير تغري بردي رحمه الله عشرة أولاد: ستة ذكور وأربع بنات، ونذكرهم بالإسم والألقاب والأمهات استكمالاً للصورة واستيفاء للاستعراض التاريخي:
وهم زين الدين قاسم أحد أمراء الطبلخانات في أيام والده، ومولده بحلب في سنة 798 تقريباً، وأمه أم ولد تركية.
وشرف الدين حمزة ومولده في أواخر سنة 800 وبها توفي سنة 848، وأمه أم ولد شركسية.
وصارم الدين إبراهيم، ومولده في حدود 808، وتوفي بدمشق مطعوناً في سنة 826، وأمه أم ولد رومية.
وناصر الدين محمد، ومولده في سنة 800، ومات في سنة 819 مطعوناً بالقاهرة، وأمه أم ولد رومية.
وعماد الدين إسماعيل، ومولده في أواخر سنة 811، وتوفي بالطاعون سنة 833، وأمه أم ولد رومية.
والمؤرخ الكبير جمال الدين يوسف، ومولده بعد سنة 811، ووالدته أم ولد مجهولة الجنس.
وخلف من البنات أربعا وهن: خوند فاطمة زوجة الملك الناصر فرج، ومولدها سنة 795، وتوفيت سنة 846، وأمها أم ولد رومية.
وبيرم، ومولدها في سنة 807، وتوفيت سنة 826 بالطاعون في دمشق، وأمها أم ولد تترية.
وهاجر وهي شقيقة المؤرخ، ومولدها في سنة 807، وهي زوجة قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني الشافعي، ومات عنها، وتوفيت سنة 846.
وعائشة وتدعي شقراء زوجة الأتابك آقبغا التمرازى نائب دمشق ومات عنها، وتزوجت بعده بالمقام الغرسى خليل بن الملك الناصر فرج إلى يومنا هذا، وأمها خوند حاج ملك بنت ابن قرا زوجة الملك الظاهر برقوق.
تزوج الأمير تغري بردي بزوجتين من طبقة الملوك أولاهما ابنة الملك المنصور حاجي ابن برقوق، والثانية خوند حاج مَلك ابنة ابن قرا وكانت زوجة الظاهر برقرق من قبل، وبعد وفاة الأمير تغري بردي تزوج الخليفة العباسي المعتضد بالله داود بإحدى زوجاته وهي الست قمر بنت الأمير دمرداش.
كان الأمير تغري بردي يتسم كما رأينا بالعقل والروية والحلم، ومثل كبار الأمراء في عصره ترك آثاراً معمارية دينية وقفية تخلد ذكره، فبنى أيام ولايته بحلب جامعاً ووقف عليه قرية المعرة العليا إلا يسيرا منها بعد أن اشتراها من بيت المال، ونصف سوقه التي بحلب تحت قلعتها وغير ذلك، ولما أكل بناءه ولى خطابته قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي، ورتب فيه مدرساً شافعياً وثمانية طلبة شافعيين، ومدرساً حنفيا وثمانية طلبة حنفيين، وحضر تغري بردي أول درس في الجامع ومعه القضاة وأعيان العلماء، وكان موضوع الدرس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن تلقي الرُكبان، وكتبت على منبر المسجد أبيات نظمها الإمام الرئيس زين الدين عمر بن إبراهيم الرهاوي كاتب السر بحلب:
منبرٌ جامعٌ محاسنَ فضل ... والجميع ما إن له من نظير
خُصَّ عن غيره بجمعة وخطاب ... عن رسول مبشر ونذير
بناه لله تغري بردي كي ما ... به يجازى بجنة وحرير
وأفاد العلامة الشيخ محمد راغب الطباخ في كتابه إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء أن هذا الجامع يسمى اليوم بجامع الموازيني بسبب أن الشيخ شهاب الدين الموازيني تولى الخطبة فيه في سنة 825، وهو قائم إلى يومنا هذا، في منطقة الأسواق المغطاة غربي قلعة حلب.
وكان الأمير تغري بردي يحب العلماء والصالحين ويقربهم، وقد اورد ابنه في كتبه أسماء عدد منهم كانوا أصحاب والده، فمنهم الشيخ شمس الدين محمد بن علي بن جعفر البلالي الشافعي، المتوفى سنة 820، وكان شيخ خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة، وكان فقيهاً فاضلاً معتَقداً، وله شهرة كبيرة، وكان الأمير تغري بردي يحبه، ويبره بالأموال والغلال، وغير ذلك.
ومنهم الشيخ نصر الله بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل العجمي الحنفي، المتوفى سنة 833 وهو في عشر الثمانين، وصحب الأمير تغري بردى مدة، وهو الذي نوَّه بذكره وأنعم عليه برزق جليل أوقفه نصر الله على داره التي جعلها بعد موته مدرسة بالقرب من خان الخليلي بالقاهرة.
ومنهم قاضي القضاة عز الدين الحنبلي، عبد العزيز بن علي، المولود ببغداد سنة 770 والمتوفى بدمشق سنة 846، وعين قاضي القضاة الحنابلة في دمشق والقاهرة، وكان ذا عفة وتواضع زائد إلى الغاية حتى إنه كان يمشي في الأسواق على قدميه ويتعاطى حوائجه من الحوانيت بنفسه.
ومنهم الشيخ الإمام العالم الفقيه الرباني الصوفي شمس الدين محمد بن حسن، المعروف بالشيخ الحنفي، المتوفى سنة 847 وهو في حدود الثمانين، وكان ديناً خيراً فقيهاً عالماً مسلكاً؛ كان يعظ الناس ويعلمهم، وكان على وعظه رونق ولكلامه وقع في القلوب. قال المؤرخ تغري بردي: صحب الوالد سنين كثيرة، ثم الملك الظاهر ططر، ونالته منه السعادة في أيام سلطنته. واجتمعت به غير مرة، وانتفعت بمجالسته. وكان الناس فيه على قسمين: ما بين متغال إلى الغاية، وما بين منكر إلى النهاية، وهذا شأن الناس في معاصريهم، رحمه الله تعالى.
ومنهم العلامة قاضي القضاة شمس الدين محمد بن عطاء الله الرازي الهروي الشافعي، المولود بهراة سنة 767، والمتوفى يالقدس سنة 847، وكان إماماً بارعاً في فنون من العلوم، وكان يقرىء على مذهب أبي حنيفة ومذهب الشافعي، والعربية وعلمي المعاني والبيان، ويذاكر بالأدب والتاريخ، ويستحضر كثيراً من الأحاديث حفظاً

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين