
كتب أحد الباحثين هذه الكلمة:
[إن الرزق والعمر يحدده عمل الإنسان وفلسفته وليس مكتوبا عليه ولا محكوم (كذا) به...
نحن من نكتب بأعمالنا قصة حياتنا ...
ولسنا نعيد تمثيل حياة كتبت لنا أو علينا].
وعلق آخر:
[الكثير من الأمور التي نسميها مسلَّمات، هي ليست بمسلَّمات، بل هي أفهام البعض وضعت موضع التقديس].
وقد دحض الشيخ هذه الأباطيل، وبيَّن معنى الكتابة، وأنها لا تعارض حرية الاختيار، وذكر مراتب الكتابة، واستعرض الآيات التي وردت فيها الكتابة، وأزال الكثير من الشبهات التي يتعلق بها نفاة الكتابة، ويتابع جوابه في هذه الحلقة:
** تحليل جملة سيقت في السؤال:
- أبدأ بتقرير مستلّ من النصوص القطعية الكثيرة من الكتاب، والسنة، فأقول:
الرزق مقدر عند الله قبل أن يخلق الخلق، وهو كله من الله في أصوله وتفريعاته، وهذا التقدير لا يلغي مسألة الضرب في الأرض، والسعي للحصول على ما قسم الله، ومن ظن أن كتابة الرزق تلغي السعي فقد خاب ظنه، ووقع في ورطة إنكار التقدير السابق على وجود الإنسان.
ومن دقائق التعبير القرآني ما يذهل في هذه المسألة:
- قال تعالى يبين أن السعي على الرزق مما طلب من الإنسان: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}، لم يقل "فامشوا تأكلوا" فيكون تأكلوا جواب الطلب، بل قال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}، وجاء بفعل {وَكُلُوا} مصدرا بالواو العاطفة ليخلص لنا أن السعي من الاسباب، وأن الرزاق هو الله، وقال: {مِنْ رِزْقِهِ}، فقد أضاف الرزق إليه لأنه هو الخالق لأصوله، وفروعه!
- وقال يكشف عن طلاقة قدرته في أن يوصل الرزق لمن يشاء دون "كد" عليه: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
- علما أن الرزق لا يحصر بالمادي، ولا بجنس منه، بل يدخل في المعنوي من فهم، وإدراك، ومعرفة، ومحبة!
هل يستطيع الإنسان أن يحدد رزقه وعمره؟
- قال أحد الفلاسفة المعاصرين يحدد دور الإنسان في الرزق والعمر: [إن الرزق والعمر يحدده عمل الإنسان وفلسفته وليس مكتوبا عليه ولا محكوما به]!!!
- قلبت النظر في العبارة فوجدت أنها تقرر مؤكدة "بإن" أي: إن الإنسان هو يطيل عمره، ويقصره، يطيله بالعلم طبعا كما علل القائل، ويقصره بالجهل، وأنه هو دون غيره يخلق رزقه على الصورة التي يشاء، وفرعون نفسه الذي ادعى الربوبية لم يجرؤ على مثل هذا التقرير، ولم يكن له ذلك!
- وقلت: لا بد من دحض الداحض، وتقرير فحش الدعوى، على صعيد العقل المحض، والمعرفة المجتمعية، وسيرورة الحياة، وعلى صعيد النصوص الشرعية!
- وقلت: لا بد لي من طرح أسئلة محددة أمام إسقاط الساقط، ومنها:
- ما المقصود بكلمة "العمر"، و"الرزق"، و"يحدد"؟
- وما العمل الذي أسند إليه مهمة " التحديد "؟
- وما جوهر الفلسفة التي تقوم بذلك مساندة للعمل؟
أسأل هذه الأسئلة لأن الجواب عن كل منها سيسقط ما جاءت به العبارة!
- ثم لويت عنان الأسئلة لأبدأ بسؤال يخفف من الصدمات التي ستقع على دماغ القائل، وتريحنا من الاستماع إلى لجلجات ترتكز إلى الهروب من الساحة ليبقى الطرح دون أن يعمل به فأس الحق.
قلت: أيها المفكر! إذا كنت مؤمنا، فمرجعنا في نقض ما قلت الكتاب والسنة في نصوصهما الصريحة الواضحة التي لا يناور فيها أي مناور؟ ولم أطرح هذا السؤال لأشكك في إيمان الرجل! لا، بل لنقف معا على قاعدة نتفق عليها، ثم نتعرف إلى ما ينبغي أن نتعرف إليه بالنسبة لخطأ العبارة؟!
- سمعت الجواب من باب التغليب، والتلمس، حيث يسند الكاتب الأمر بين الحين والآخر إلى الله!
وخطرُ مثل هذا أكبر ممن ينكر النص، ويكفر به، سمعت ذلك، وطرحت بعض النصوص التي لا تخفى على باحث إن كان الكاتب باحثا، فإن كان كافيا الإيراد وحده دون شرح فالحمد لله، وإلا فلا يحق لمن لا يقف على عطاءات هذه النصوص دون أن تشرح له، أن يبحث في مثل الأمر الجلل الذي يمس الإيمان في جوهره:
- {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ}
- {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }، فالنص يدل على أن موسى - عليه السلام – توجه إلى الله يسأله أن يسوق له ما هو بحاجة إليه من رزق، وقد استجاب له حيث دعي إلى بيت الرجل الصالح الذي أطعمه، ثم زوجه إحدى ابنتيه، ويظهر من هذا أن موسى لم يكن يدري ما دراه المفكر المعاصر الذي عصر الحقيقة في قالب منكر، ولمّا كان - برأي المفكر - جاهلا بأنه هو الذي يحدد الرزق، سأل الله أن يرزقه.
الرزق من الله تعالى وحده:
- {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}؟
- {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}؟
- {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}؟
- {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}.
-{يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ}.
- {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
- {إنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}.
- {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }.
- {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} - {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} حتى الأمم لها آجال مسطورة في كتاب.
- {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}
- {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
- {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}
- {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}.
* الأحاديث النبوية التي تؤكد هذه الحقيقة:
- وأما الأحاديث فهي كثيرة تقاطرت على تأصيل حقائق الرزق والأجل، وأنهما بيد الله:
- يا هذا: أأنت أعلم بهذه المسألة أم الرسول؟
عن عبد الله بن عَمرِو: أن رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلم- خرجَ يوم بدر في ثلاثِ مئةٍ وخمسةَ عشرَ، فقالَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم-: "اللهم إنهم حُفَاةٌ فاحْمِلْهم، اللهم إنهم عُرَاةٌ فاكْسُهُم، اللهم إنَّهُم جِياعٌ فأشْبِعْهُم". ففتح اللهُ لهُ يومَ بدرٍ، فانقلبُوا حين انقلَبُوا وما منهم رجلٌ إلا وقد رجَع بجمَل أو جملَين، واكتَسَوا، وشَبِعُوا"
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْغِنَى لَيْسَ عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَإِنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- يُوَفِّي عَبْدَهُ مَا كَتَبَ لَهُ مِنَ الرِّزْقِ، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعَوْا مَا حُرِّمَ".
- عن سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنِّي لا أَعْلَمُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلا قَدْ أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ، وَلا أَعْلَمُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ، وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، إِلا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، أَلا وَإِنَّ الرُّوحَ الأَمِينَ نَفَثَ فِي رُوْعِي أَنَّهَا لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَقْصَى رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ شَيْءٍ مِنَ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِشَيْءٍ مِنَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لا يُدْرَكُ مَا عِنْدَهُ إِلا بِطَاعَتِهِ".
- من أسماء الله تعالى "الْقَابِضُ الْبَاسِطُ":
قال العلماء: هُوَ الَّذِي يُوَسِّعُ الرِّزْقَ وَيُقَتِّرُهُ، يَبْسُطُهُ بِجُودِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَقْبِضُهُ بِحِكْمَتِهِ!
- خَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ عِنْدِ مَرْوَانَ بِنِصْفِ النَّهَارِ، قُلْتُ: مَا بَعَثَ إِلَيْهِ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا لِشَيْءٍ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سَأَلَنَا عَنْ أَشْيَاءَ سَمِعْنَاهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ".
- أنا على يقين أن بعض ما ذكر كفيل بأن يوقف الإنسان المنصف على الصواب!
** فما مدى فهم هذا المفكر لهذه النصوص، وهل تراها تقرر ما أتت عبارته بخلافه، ومناكفة لها؟
وهل ترى مثل ما جاء به تعليق على كلامه من أحدهم راق له ما طرح، فاهتز طربا للوقوع على مبتغاه، فعلق: [إن هناك مجموعة من المسلمات، والحال أنها ليست من المسلمات]!؟
- هذا التعليق كلام مسموم عام عائم، ينصرف به الذهن إلى كل اتجاه...
وأمثال هؤلاء قد تحطمت الحقائق في ذواتهم، وخافوا من البوح بها صراحة، ولم يبق أمامهم إلا أن يزرزبوا منها ما يمكنهم في عبوات من الكلمات سامة، ويمكن التملص من دلالاتها!.
الحلقة السابقة هنا
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول