الدكتور ابراهيم حمامى
حين قامت ثورة 25 يناير منحت القوات المسلحة الرئيس مبارك 18 يومًا، للبحث عن مخرج سياسى للأزمة التى كانت تزداد تعقيدًا كل يوم.. رآها الشعب فرصة تاريخية للخلاص من طاغية تجبر وتكبر أفسد وضيع..
ورآها الجيش فرصة تاريخية للخلاص من سيناريو التوريث الذى كان يجرى على قدم وساق، وكان الجيش لا يدرى كيف يوقفه وأيضًا لا يستطيع ولا يقبل الموافقة عليه.. وبالفعل حاول مبارك وكادت محاولاته أن تنجح فخرج يخاطب الشعب ثلاث مرات! وأرسل نائبه يدير حوارات مع كل الأطراف وتحرك جهاز المخابرات بكل إمكاناته.. وحين تعقدت الطرق وانسدت الدروب.. تم ترتيب خروجه بمنتهى الإكرام وذهب إلى شرم الشيخ.. بعد أن سكبنا ما فيه الكفاية من الدموع.
حين خرجت مظاهرات 30/6 والتى تم الإعداد لها طائفيًا ومخابراتيًا وإعلاميًا وعلميًا على أعلى مستويات الإعداد، وقد أخبرني أحد المختصين أن خبراء من معهد كارنيجى تفرغوا لهذه المهمة، وتم تغطية تكاليفهم من أحد رجال الأعمال الأقباط المقيمين بالخارج، بما تجاوز 3 مليارات دولار. لم تمر على هذه المظاهرات يومين إلا واتبعها قائد الجيش بإنذار بالتدخل.. الأطراف المعارضة أصرت على مطلب واحد فقط، وهو عزل الرئيس الذى مضى على انتخابه 12 شهرًا فى سابقة خطيرة تهدد مستقبل السلطة فى الجمهورية الجديدة تهديدًا مدمرًا.. وستتحول بتلك الممارسة إلى لغز مثل العرائس الروسية الخشبية، إذا فتحت إحداها وجدت أخرى بداخلها. الرئيس خرج على الناس بخطاب مرتجل لم يتم الإعداد له من مختصين وعرض كل ما تم الاتفاق عليه، فيما عرف بعدها بخارطة الطريق باستثناء الاستقالة والانتخابات المبكرة، وهو ما كان يمكن التفاوض عليه ثانية وثالثة ومنح (السياسة) القوة والوقت الكافى لتقديم الحلول.. ونحن هنا بإزاء خبرة تاريخية تضاف للتجربة السياسية للوطن والشعب فى مرحلة الانتقال والتحول وتتعاظم لدينا العملية الديمقراطية فى كل أشكال تطبيقاتها ومعوقاتها، فنضيف لبنائها معمارًا جديدًا كوننا حرمنا من ذلك طيلة ستين عامًا..
لكن ذلك لم يحدث، وتدخلت الدبابة والمدرعة فورًا لتقديم الحل العجول غير المحايد.. والذى سارع كل الخصماء التاريخيين ليكونوا جزءًا منه. وبالفعل تم تعطيل الدستور وتم إخفاء الرئيس ودارت العجلة فى الاتجاه الخلفى.
التيار الإسلامى العريض يشعر بظلم جهول وقع عليه خلال هذه السنة التى قضاها فى السلطة، فدولة المخابرات العتيقة بالتعاون مع رجال المماليك المباركية واسعى النفوذ والانتشار بالتعاون مع إخواننا الأقباط، وعلى خلفية قصف إعلامى يومى من النوع الساحق البالغ الكذب والزور مع وفرة مالية لا حدود لها.. البعض يقول إنه _ أى التيار الإسلامى _ أصيب بأخطائه أكثر مما أصيب بيد أعدائه.. وعلى رأس هذه الأخطاء تقدمه مبكرًا لتحمل مسئولية إدارة وحكم فى بلد كان يتم إفساده واغتصابه وهدمه اقتصاديًا وسياسيًا وأخلاقيًا طيلة ثلاثين عامًا وعلى نحو منتظم ومستمر. وكان بإمكانه اغتنام أجواء الحرية الجديدة فى المسجد والشارع والنادى والشعبة والمكتبة وكل وسائل الإعلام والوسائط، وأن يقوم بالحفر عميقًا وعميقًا كى يبنى عاليًا وعظيمًا.. وأن يساهم فى العملية السياسية بقدر ما تقدره الضرورة فقط. وبما لا يبعده عن ذاك الهدف الكبير فى بناء الإنسان الذى يولى وجهه شطر الكمال البعيد. وهو بالفعل ما توصل إليه مجلس شورى الجماعة قبل أن يغير قراره بعد ثلاث مرات من رفض أغلبيته لتغيير موقفه الأول والأصوب..
لكن البعض قال مخلصًا إن غيابه عن العمل السياسى وهو الكيان المنظم الوحيد إضافة طبعًا للجيش والكنيسة ومماليك النظام القديم سيعرض الثورة ونتائجها للضياع التام، وهذه هى اللحظة التاريخية الفارقة وإن لم يتم اقتناصها فسيضيع كل شىء.. الثورة والجماعة.
البعض أضاف إلى هذا التفسير رأيًا آخر يتصل بالدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والذى كانت أسهمه فى الفوز آخذة فى التزايد بشكل كبير.. ومعروف ما كان بينه وبين الإدارة الحالية للتيار الإسلامى العريض على المستوى الفكرى والشخصى.. أيضًا ذكر البعض أن فرص فوز الأستاذ حازم إبو إسماعيل كانت كبيرة، وأن أطرافًا لها صلة بأمريكا ذهبت إلى الجماعة وطلبت منهم بعد تفاهمات كاملة أن يكون لهم مرشح خوفًا من أن يأتى أبو إسماعيل رئيسًا بما يهدد الأمن الإقليمى للمنطقة، وأن هذه التفاهمات تم تقديرها جيدًا. التقت الإرادات المتباينة حول هدف واحد.. وتم استخلاص وانتزاع قرار مجلس الشورى على النحو الذى أشرنا إليه سابقًا..
كل ذلك سيحكى عنه التاريخ بتفاصيل أكثر دقة وتفصيل. لكن ما نحن فيه اليوم يتجاوز التوقف كثيرًا عند هذه التفصيلات.. نحن أمام ثورة يتم الانقلاب عليها بمنتهى الاحتراف.. واستخدمت فيها (الجماهير الغفيرة) داء ودواء الانتخابات والديمقراطية بطريقة بارعة كان الإعلام فيها هو السحر الحديث الذى استرهب هذه الجماهير وزرع فى خيالهم البسيط الغض أفانين الخدع والضلالات. هل كان الجيش طرفًا فى هذه المعادلة بدخوله المبكر جدًا، وبدلاً من أن يصنع توازنًا صنع مأزقَا؟ وهل عزل رئيس المخابرات وإحلال أحد أهم رجال مبارك محله له صلة بهذا الدخول المبكر؟ وهل هناك ترتيبات إقليمية تتعلق بسوريا وإيران تتطلب تغيير النظام؟ أو تطلب إدخال الجيش الوحيد فى المنطقة العربية فى صراع تاريخى مع أهم قوة إصلاحية ذات رصيد شعبى كبير بأطروحاتها المهيبة الدافعة إلى نهضة حضارية تدفع إلى ضرورة تواصل التاريخ مع ذاته، لتتحقق فضيلة القوامة الحضارية وعلة الوجود؟ إن يكن من أمر، فقد دونت صفحات التاريخ مواقف سيصعب كثيرًا على المستقبل أن يتجاوزها بسهولة. _ سيكتب التاريخ عن ذلك الشرخ العميق الذى نشأ بين إخواننا الأقباط وبين الإسلاميين، أهم تيار اجتماعي فى الوطن، فيما يصوره البعض بمن باع ياقوته بخرزة! والياقوتة هى العيش المشترك الطويل والحميم، والخرزة هى تلك الصراعات الصغيرة وتصفيات الحساب.. كان بإمكانهم أن يحجزوا لأنفسهم مكانًا ومكانة كبيرة فى المستقبل سعيًا مخلصًا لتأكيد معنى المواطنة والمساواة على أيدي الإسلاميين الإصلاحيين، وقد قاموا ذلك بالفعل والإسلام يضمن للناس فوق ما تضمنه الديمقراطية الغربية بتوازناتها الاجتماعية المتناقضة.. كان بإمكانهم أن يكونوا بعيدين عن المعترك كله ويقوموا بدور تاريخى، فيما يعكس عمق رسالة المسيحية عن تسامح بلا حدود ومغفرة بلا نهاية..
يقومون فيه بالوساطة بين فرقاء الوطن وقد كانت وساطة مأمولة سياسيًا ومثمرة تاريخيًا. _ سيكتب التاريخ عن ذلك الصدع المكتوم الذى نشأ داخل المؤسسة العسكرية فيما يتعلق بفكرة (الشرعية)، أو فيما يتعلق بالفكرة الدينية بمغزاها وعمقها وثرائها احتضانًَا فى شأنها المعنوى البالغ الأهمية للقوات المسلحة، و1967م و1973م تحتفظ بذاكرة عميقة حول ذلك.. وما كان أغنانا جميعًا عن كل ذلك. (وتلفتت عينى فمذ خفيت ** عنى الطلول تلفت القلب) _ سيكتب التاريخ عن عمق الفجوة التى نشأت بين الإعلام وبين الحقيقة فى امتهان رخيص لفكرة المهنية والضمير..
إعلاء لخصومة لدودة لا علاقة لها بالمهنية ولا علاقة لها بالحقيقة الموضوعية المجردة. _ سيكتب التاريخ عن ذلك الشعب الطيب الذى نصبوا له مأتمًا حزينًا فى ساعة الميلاد المجيد لتجربته الوليدة فى فكرة الديمقراطية والانتخاب والحياة الدستورية الصلبة.. وعن الزمن اللازم لإنضاج تجاربه وتمهيد الطرق الوعرة إلى مطالبه فى مداولة ومعالجة معضلة السلطة والحكم تأييدًا أو معارضة. لقد بات لدينا إحساس عميق بالخطر.. وهو الخطر الذى لا يصعب علينا تحديده والاعتراف به.. والأخطر أنه من الأصعب مقاومته.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول