هل تكون عبادة الصوم في شهر رمضان مدخلا للإصلاح الاجتماعي؟

 

-   1 -

بقلم : الشيخ الدكتور ماجد الدرويش.

قال الله تعالى:) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)(.

 

لماذا كان الصوم في شهر رمضان دون سواه من الشهور؟ٍ

الأصل في العبادات أنها لا تعلَّل، ومعنى لا تُعلَّل: لا يقال فيها: " لِمَ "؟ فلا نقول: لم كانت صلاة الظهر أربعَ ركعات؟ ولم كانت المغرب ثلاث ركعات؟ وهكذا، فإن العبادات الأصل فيها الالتزام بالوارد في الشرع، إلا إذا ذكر الشرع لنا تعليلا للعبادة، أو حكمة لها، كقول الله عز وجل في الصلاة: ) إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ( .

وقول الله عز وجل في الزكاة: ) خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ( .

وقال في الصوم: ) كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ( .

فهذه، وأمثالها كثير، حِكَمٌ ينبغي أن تتحقق فيمن يؤدي العبادات على وجهها، ولذلك كان للعبادة الصحيحة أثر كبير في التربية والسلوك العام....

أما: لماذا كانت فريضة الصوم في هذا الشهر دون سواه؟ قد يكون الجواب في قوله تعالى: )شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ (.

فبيَّن سبحانه أن هذا الشهر هو الذي أُنزِل في القرآن الكريم دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، كما قال سبحانه: ) إنا أنزلناه في ليلة القدر (، فعن سعيد بن جبير قال: "نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان، فجعل في سماء الدنيا".

فنزول القرآن في ليلة القدر مما وقع الاتفاق عليه، مع خلاف في تعيين ليلة القدر: هل هي ليلة الرابع والعشرين، أم السابع والعشرين؟ أم في غيرها؟ وهو مما لا يؤثر في الاتفاق على أنه نزل جملة واحدة في ليلة القدر من شهر رمضان.

 

 ثم كان يتنزل بعد ذلك مفرَّقا على الحوادث، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أنزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان، إلى السماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئا أنزله منه، حتى جمعه".

وقال له رجل يوما: إنه قد وقع في قلبي الشك من قوله:)شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن(، وقوله: )إنا أنزلناه في ليلة مباركة( وقوله )إنا أنزلناه في ليلة القدر( ، وقد أنزل الله في شوال، وذي القعدة، وغيره! قال: "إنما أنزل في رمضان في ليلة القدر، وليلةٍ مباركة، جملة واحدة، ثم أُنزل على مواقِع النجوم رِسْلا في الشهور والأيام". أي: نزل مفرقا على الحوادث.

فبسبب نزول القرآن فيه اكتسب شهر رمضان هذا الفضل والله أعلم، كما قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله: "إنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة".

 

كل الكتب السماوية أُنزِلَت في شهر رمضان

وليس القرآن الكريم هو وحده الذي نزل في شهر رمضان، فقد جاء ما يفيد بأن الكتب السابقة كلها نزلت في رمضان.

فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت، وأنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان).

إذن شهر رمضان هو الشهر الذي أنزل الله تعالى فيه الكتب على الأنبياء والمرسلين.

 

وهل من مناسبة بين نزول القرآن والصوم؟

لقد بيّن سبحانه أنّ القرآن الذي أنزله تعالى على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إنما أنزله )هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان( ، وقال فيه سبحانه: ) كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ( .

قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: وأما قوله:)هدى للناس(، فإنه يعني: رشادا للناس إلى سبيل الحق وقصد المنهج.

وقال: وأما قوله:)وبينات(، فإنه يعني: وواضحات)من الهدى ( يعني: من البيان الدال على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه.

وقوله:)والفرقان( يعني: والفصل بين الحق والباطل.

فالقرآن يهدي من ضلَّ إلى سواء السبيل، ويبين للناس الأحكام التي تؤدي إلى سعادتهم في الدارين، وتفرق بينهم وبين الضلالة.

أما اتباع أوامر القرآن الكريم، والابتعاد عن نواهيه فيحتاج إلى إرادة وعزيمة وصبر.

والصبر ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على أقدار الله المؤلمة، والصوم فيه تدريب وتعويد على هذه الأصناف الثلاثة من الصبر، وبالتالي هو مدرسة تأهيلية للمرء ليكون في حياته: صابرا نفسه على الطاعة، وحاجزا إياها عن المعصية، وصابرا على أقدار الله تعالى المؤلمة.

فمن تحققت فيه هذه الخصال، مع تحرٍ دائم لأوامر الشرع تحقق فيه الرُّشدُ الذي جعله الله تعالى نتيجة من نتائج الصوم، وذلك في قوله تعالى: )  وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين