
الإنسان يحبُّ أن يكون متفرداً في حياته، ذا طبيعة فكرية تختلف عن جموع الناس، لأنه يبحث في نفسه دوماً عن الإنسان القدوة الذي سيغير مجرى التاريخ ويُنقذ البشرية، يحبُّ أن يكون مستقلاً في تفاعلاته المجتمعية التي يرى أنها سوف تغير العالم للأفضل.
لكن كيف ستكون حالة ذلك الشخص النفسية إذا ما اتّهمه أحدٌ أنه خاضع لعبودية جهة معينة تتحكم في عقله كالدمى، وتُصيِّر حياته كيف شاءت، بل حتى تتحكم في نسبة غاز الأرغون في الهواء الذي يستنشقه من دون أية إرادة منه، حتماً سيُحمل إلى أقرب (دويرينة) مجاورة إن صدَّق هذا الكلام.
لكن للأسف، يوجد على أرض الواقع من يؤمن إيماناً مطلقاً بتلك المزاعم ويكرِّس حياته المتشتتة في تحذير الناس منها تحت اسم نظرية المؤامرة.
وضع قاموس أكسفورد للغة الإنكليزية عام 1997م تعريفاً عاماً بنظرية المؤامرة يقول فيه: “هو اتفاق بين فردين أو أكثر للقيام بعمل إجرامي أو غير قانوني أو مستهجن”، وقد لاقت هذه النظرية قبولاً لا سيما في الأوساط العربية التي وجدت فيها وجبة خفيفة على الذهن، مغذِّية لنهم المعرفة التي يريدها الشارع، وفي نفس الوقت تُعطي الضمير العربي مزيداً من الطاقة لعيش حياة هادئة بعيدة عن المتاعب.
” المتآمرون وراء كل مشكلة تقع في مجرة التبانة ” ببساطة هذا هو شعار أتباع تلك النظرية، فمن سقوط الأندلس إلى انتشار مرض الإيدز، مروراً بثورات العرب انتهاءً بانتخاب السيد ترامب، كل ذلك مخطَّط له من قبل سنين عدة، ولا نملك نحن بدورنا سوى (نفش البوشار) ومشاهدة الألعاب النارية.
مقدار العبثية واللامبالاة الذي يترشَّح من تلك الفلسفة مثير للغثيان، صورةُ ذلك الفتى البائس إلى الآن عالقة في ذهني، إذْ واجهني بوجهٍ يغزو عروقَه الدَّم قائلاً: “هم يستطيعون أن يفعلوا بنا ما يشاؤون، هم في كل مكان، ولا أحد يستطيع منعهم” صوته كان خافتاً يشوبه الرعب، في حين كانت عيناه تدوران بغرابة وكأنهما ترْقُبان خطرا مُحدقا بهما من جميع الجهات.
إنها نظرية المؤامرة، ذلك الجُبُّ العميق الذي يستوعب كل مشكلات الأمة التي نرميها فيه, نافضين عن أكتافنا غبار المسؤولية، منتظرين ريحاً صرصراً أو صاعقةً من السماء تُهلك الظالمين وتخرجنا من بينهم سالمين غانمين، وانتهت القصة، ثم نبتهل بالدعاء لنيل الفردوس الأعلى! بالله عليكم، أهكذا تُبْلَغ المعالي؟
لا ريب أنَّ هناك من يحيك خبثه في الظلام والعلن ماكراً بأمَّة المصطفى، يريد ذلَّها وتدميرها، ذاك أخبرنا به الله تعالى وشهد به التاريخ، فلقد قال تعالى: (ويمكرون)، لكن لمَ يا إخوتي نجتزئُ الفهم ولا نكمل الآية؟ هذا ظلم للناس، لكن دعونا نكملها لنرى (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) نعم، الله تعالى قد تكفل بهذا الشرع، ووعد بحفظه إلى قيام الساعة، فلقد قال جلَّ من قائل: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ*هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى? وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) فلا يأس ولا مَسْكنة حتى ولو كانت تلك المؤامرات واقعية، لأن الله أخبر بتَبَدُّدها، لكن ما أسخف من يترك العمل لأجل ذلك! ما أسخف من يرضى بالقعود والعجز وينتظر بعدها الفرج! يا أخي، لا فرج بغير سواعد المؤمنين.
بالإنسان المؤمن يتحقَّق أمرُ الله وبالسعيِ في إخلاصٍ يلوح فجر التوحيد، لا بالركون إلى هذه الدنيا وبتمني الأماني على الله، وسواء أكانت المؤامرات واقعية أو لا، فالواجب واجب ولا سبيل غيره للنجاة، ألا وهو العودة إلى دين الله وشرعه، والإخلاص في طلب وجهه، كي نكون بإذن الله من الفائزين الذين رضي عنهم ورضوا عنه.
المصدر : موقع حبر
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول